آفاق الدبلوماسية النووية في فيينا

آفاق الدبلوماسية النووية في فيينا


27/04/2022

إبراهيم متقي

مع بداية مارس 2022، بدا أن المفاوضات النووية في فيينا وصلت إلى طريق مسدود، بعد أن كانت التطورات تشير إلى بلوغها مراحل متقدمة. وأسهمت عدة مؤثرات على رأسها الأزمة الروسية-الأوكرانية في تغيير منطق اللعبة في المفاوضات النووية كونها إحدى ملفات التوافق بين القوى العالمية، علاوةً على كونها ورقة للتنافس الدولي في الفضاء الجيوسياسي الجديد. يضاف إلى ذلك، بلوغ المفاوضات "النواة الصلبة" للخلافات؛ حيث طرحت أهم القضايا الخلافية، وعلى رأسها إخراج الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية، وقضية الضمانات؛ كل ذلك أسهم في تأجيل الاتفاق النووي حتى إشعار آخر. 

وحاولت الحكومتان الإيرانية والأمريكية، التكتُّم على تفاصيل التوافقات بغية إدارة المعارضة الداخلية، والإسراع في الوصول إلى الاتفاق، والاستفادة من المناخ الملائم الذي خلقته جهود أوروبية وروسية. لكنّ التوتُّر المتصاعد بين روسيا والغرب أدى إلى تلاشي هذا المناخ المتفائل. واستطاع المعارضون في كل من إيران والولايات المتحدة رفع أصواتهم، والتأثير سلباً على أجواء المفاوضات، لتكون النتيجة تغليب اللهجة المتشددة على كلا الجانبين.

ويُشير المقال الراهن للدكتور إبراهيم متقي، رئيس كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة طهران إلى هذه الفجوة المتسعة بين الطرفين، ومحاولات الأطراف الداعمة للاتفاق النووي، والأخرى المعارضة له، التأثير على مسار الدبلوماسية النووية. كما يشير المقال إلى قلق الخبراء الإيرانيين المقربين من الحكومة من احتمال أن تؤدي الفجوة الزمنية الناتجة عن توقف المفاوضات إلى استفحال الخطاب المناهض للاتفاق النووي. ويُعبِّر المقال عن هواجس واضحة من تداعيات الأزمة الأوكرانية على الملف النووي الإيراني، واحتمال أن تؤدي الأزمة إلى تغير منطق التعامل بين القوى العظمى، وأن يترك ذلك أثراً سلبياً على مآلات المفاوضات النووية.

ويعتبر كاتب المقال واحداً من أهم مُنظِّري العلاقات الدولية المقربين من التيار المحافظ في إيران. ويعمل إبراهيم متقي عميداً لكلية الحقوق والعلوم السياسية، وهو مُختص بالعلاقات الدولية، وأستاذ في كلية الدفاع الوطني والأبحاث الاستراتيجية، والمشرف على فريق الشؤون الاستراتيجية للشرق الأوسط في مركز الشرق الأوسط للأبحاث الاستراتيجية. ويُعْرَفُ متقي بعلاقاته الجيدة، وتأثيره الكبير على الدوائر المُحافظة، وقُربه من مراكز حساسة مثل المجلس الأعلى للأمن القومي، ومركز الأبحاث السياسية والدولية التابع لوزارة الخارجية.

نصُّ المقال[1]

تشهد مفاوضات فيينا حالة "تأجيل حتى إشعار آخر" منذ بداية مارس 2022. بعد أن كان الدبلوماسيون المشاركون في المفاوضات يأملون في فرصة حقيقية على الأبواب لحل الأزمات المتضافرة بين واشنطن وإيران والبلدان الأوروبية. لكن أسبابا مختلفة، على رأسها أزمة أوكرانيا، ألقت بظلالها على أجواء الدبلوماسية النووية الإيرانية في فيينا، والمفاوضات التي تجري في هذا السياق، وأجلت خلال الأسابيع الماضية آمال الوصول لحلّ؛ فمن جهة دفعت الأزمة الأوكرانية البلدان الغربية نحو استخدام هذه المفاوضات ورقة ضغط بوجه روسيا لإدارة الأزمة الأوكرانية، ومن جهة ثانية، بات استمرار المفاوضات من دون وساطة أوليانوف الروسي الذي ترك المفاوضات في نهاية فبراير، أمراً صعباً، ومستعصياً.

وخلقت الأزمة الأوكرانية، ثم الأزمة بين الغرب وروسيا حول أوكرانيا، دوراً سياسياً وأمنياً جديداً لأعضاء "مجلس إدارة السياسة الدولية"، وأنشأت معالم مسار جديد لـ "إدارة الأمن الدولي" في ضوؤه تراجَعت بشكل متواصل أهمية الدبلوماسية النووية الإيرانية، ومعها مفاوضات فيينا بين أطراف الاتفاق النووي (بعد أن كانت فيما مضى محطة لدعم مسار السياسات الدولية في نسختها الماضية). وأدى مجموع ذلك إلى إبهام، وتشكيك، وتأجيل متواصل في المفاوضات، ثم تجميدها بعد أن كادت تبلغ اتفاقاً جديداً.

أسباب التأخير في نجاح المفاوضات في فيينا

كانت غالبية القوى الاجتماعية والأجهزة الدبلوماسية في إيران تأمل بأن تكلل الجهود الدبلوماسية من أجل حلّ الأزمة النووية بين إيران والقوى الدولية بالنجاح. إلا أن طرح مجموعة من القضايا على طاولة المفاوضات، على رأسها قضية إخراج الحرس الثوري الإيراني من قائمة التنظيمات الإرهابية، والشروط الجديدة التي وضعتها الإدارة الأمريكية للتوافق، عملت على تعقيد هذا المسار.

وبدى أن طهران بصدد تفعيل شكل جديد من التعاون الدبلوماسي مع المؤسسات الأوروبية، والبلدان الأخرى. وفي إطار هذا التوجه الإيراني الجديد، ظهرت في الأفق طلائع توافق نسبي بين إيران والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، حول إدارة ملف العقوبات، والوصول إلى حلول توافقية حول الملفات الخلافية. أما أمريكياً، فإن إدارة الرئيس الديمقراطي بايدن، وإن كانت إلى الآن لم تقم بأية خطوة قانونية لإلغاء العقوبات المفروضة على طهران، لم تُظهِر تشدداً في تطبيق العقوبات على غرار الإدارة الأمريكية السابقة. وفي هذا السياق جاءت زيارة مساعد المفوض الأوروبي للسياسة الخارجية، إنريكي مورا، من أجل وضع حلول توافقية لما تبقى من العقبات. لكن في الوقت نفسه فإن الفترة الماضية كانت قد وضعت كلا من الإدارة الأمريكية، والمؤسسة الأوروبية، بإزاء تساؤلات حول تداعيات أي انفتاح استراتيجي على إيران على مستقبل الأمن الإقليمي وقلق الحلفاء الإقليميين.

وعلى الرغم من أن ثمة أملاً كبيراً، ودافعاً قوياً، كان ولايزال يدفع مختلف الأطراف نحو الوصول إلى اتفاق نووي جديد، وحل ما تبقى من العقبات، وإلغاء العقوبات، إلا أن المسار الذي يحكم السياسة الدولية متمثلاً في استمرار الأزمة الأوكرانية، واستمرار الاختلاف بين الوفود الدبلوماسية حول مختلف محاور وتداعيات الاتفاق النووي، بات العائق الأساس الذي يحول الآن دون بلوغ الدبلوماسية النووية نتائجها العملية المأمولة.

الغموض في الأجندة الدبلوماسية، والمفاوضات المستقبلية

مَرَّ أكثر من 6 أسابيع على توقف المفاوضات النووية في فيينا. وساد خلال هذه الفترة الزمنية الشعور بتراجع المسار الدبلوماسي، وبرزت تفسيرات مختلفة حول ملف المفاوضات، ومصير الدبلوماسية النووية. ويقف الشارع الإيراني في هذه المرحلة أمام طلائع تناقض في أدبيات الدبلوماسيين ورجال الحكومة في إيران والولايات المتحدة وأوروبا حيال مستقبل المفاوضات في فيينا.

وإذا اعتبارنا أن الغاية الأساسية من المفاوضات النووية في فيينا هي خلق "المناخ الملائم" للحصول على اتفاق ينهي الأزمة النووية، فإن أي توقف في مسار هذه الدبلوماسية النووية، أو تجميد للمفاوضات لن يخدم تلك الغاية الأساسية، وإنما على العكس من ذلك، حيث يعمل التأخير، والتجميد على تقويض هذا المناخ الملائم. 

وبعيداً عن لغة المجاملات التي تُبديها كلٌّ من الولايات المتحدة، وإيران؛ حيث أشار الطرفان إلى أن التوقف في المفاوضات النووية يأتي من أجل منح الأطراف في العواصم فرصة لاتخاذ قرارات سياسية، فإن الحقيقة تبدو غير ذلك. إذ يروي كل طرف من الأطراف روايته المختلفة عن أسباب توقف المسار الدبلوماسي، والخلافات التي تفرق بين تفسيرات مختلف الأطراف لتطبيق الاتفاق النووي، وانتهاكه؛ مما يجعل الأمر أكبر من كونه مهلة "للتنفس" السياسي، واتخاذ القرارات في العواصم. وفي هذا الإطار فإن من الضروري الأخذ بالحسبان بأن الأجواء السياسية والأمنية في كل من إيران وأمريكا، تتجه نحو مزيد من التشدد، والتصلُّب. 

لقد غيَّرت الأزمة الأوكرانية السياسات الأمريكية تجاه روسيا بشكل جذري، ودفعتها نحو مزيد من التشدُّد. وسينعكس ذلك بشكل مباشر على مثلث العلاقات الروسية الإيرانية الأمريكية، خصوصاً في الملف النووي الإيراني، عبر إضافة مزيد من الغموض إلى سياسات الطرف الأمريكي حيال الملف النووي الإيراني، واتخاذ مواقف أكثر تشدداً حيال طهران وروسيا. 

أما إيرانياً، فيُسهم توقف المفاوضات النووية في إيجاد مواقف سياسية جديدة حيال المفاوضات النووية في دوائر صنع القرار في طهران؛ وهي مواقف راديكالية من شأنها أن تدعم بدورها ردود الأفعال الراديكالية على الجانب الأوروبي والأمريكي، وتُضعف المواقف الوسطية والمتعاطفة هناك. 

 

وميدانياً، تُظهِر المواقف الذي اتخذها صناع القرار في طهران وواشنطن خلال الأيام الماضية بوضوح، كيف عمل توقف المفاوضات خلال الأسابيع الستة الأخيرة على دعم مسار التشدُّد المتزايد، وإضعاف فرص خلق مناخ توافقي للحصول على الاتفاق وتقليل العقبات.

إجماع أمريكي نسبي مقابل إيران

بعد سلسلة من المواقف المرنة من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، فتح توقف المسار الدبلوماسي النووي في فيينا، الباب أمام لاعبين آخرين خارج جسد الحكومة الأمريكية للتأثير على المسار؛ لاعبون لا يتمتعون بنفس الروح المعتدلة والمرنة التي يتمتع بها رجال الحكومة الأمريكية. وفي هذا السياق تأتي المواقف التي صدرت خلال يومي 6 و7 من أبريل 2022 من أعضاء الكونغرس والقادة العسكريين الأمريكيين حيال المسار الدبلوماسي وتداعياته الأمنية والإقليمية. وهي مواقف حاول من خلالها صناعُ قرارٍ أمريكيون، وأعضاء في الكونغرس، فرض تفسيراتهم المتشددة عن مفاوضات فيينا، وتداعياتها على الملفات الاستراتيجية.

ويمكن أن نعتبر المواقف التي اتخذها أعضاء الكونغرس الجمهوريون، وآخرون ديمقراطيون، إنذاراً للإدارة الأمريكية لكي تقوم بتحديد موقف رسمي متشدد؛ وهو إنذار يظهر بوضوح كيف أن الساحة السياسية في الولايات المتحدة، تتجه نحو مزيد من التشدد، والتصلُّب إزاء الملف النووي الإيراني. ويضاف ذلك إلى الموقف المتشدد تجاه روسيا وحلفائها، ومن ضمنهم إيران، بعد تفاقم الأزمة في أوكرانيا، ممّا ينعكس بشكل سلبي على مسار المفاوضات النووية واحتمال نجاحها.

ويُمثِّلُ غياب المندوب الروسي في المفاوضات أوليانوف، نتيجة للأزمة المثارة بين واشنطن وموسكو حول الملف الأوكراني، عقبةً أخرى أمام الدبلوماسية الإيرانية، إذْ يمكن اعتباره الوسيط الأساس الذي حاول تذليل العديد من العقبات خلال الفترة الماضية.

ورغم كل ذلك، فإن التحديات المثارة على طريق المسار النووي، وإن لم تكن بسيطة، فإنها لا تعني إجهاض المفاوضات؛ فالدبلوماسية تحاول دوماً خلق منافذ جديدة. وتدل التطورات الجديدة على أن الجهات الدبلوماسية المشاركة في المفاوضات أبدت خلال الأيام الأخيرة جهوداً حثيثة من أجل فتح معبر جديد يضمن للمفاوضات بأن تتواصل في المستقبل القريب.

عن "مركز الإمارات للسياسات"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية