آل عثمان وإشكالية الخلافة... سلاطين لا خلفاء

آل عثمان وإشكالية الخلافة... سلاطين لا خلفاء


04/11/2020

رشيد الخيّون

أخذت قضية عودة الخلافة العثمانية تُطرح في عهد الرئيس رجب طيب إردوغان، وما تبثه وسائل «الإخوان المسلمين» الإعلامية، عن شرعيتها، بتنازل آخر خلفاء بني العباس، المتوكل على الله الثالث (ت 950 هـ - 1543 م)، الذي وصل أجداده من الأمراء العباسيين الناجين من المغول، إلى القاهرة (658 هـ)، وفي مقدمتهم من قدم نفسه على أنه الأمير أحمد الأسمر بن الظاهر عم الخليفة المقتول المستعصم بالله (656 هـ)، وكان في سجن ابن أخيه، فأطلق سراحه المغول، وخرج من بغداد حتى وصل إلى القاهرة، وبايعه السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (ت 675 هـ)، بعد محضر شهد به القضاة على صحة نسبه. لكن بيبرس، ضمن حرب مع المغول، دفع الأمير العباسي، بعد جعله خليفة ولبس السواد، وهو شعار العباسيين المعروف، أن يقود جيشاً لاستعادة الخلافة، فودعه إلى الشام، وسار حتى وصل إلى هيت، وهناك فُقد خبره وانتهى أمر المحاولة في استرجاع العرش العباسي، فظهر أمير عباسي آخر بالقاهرة ولُقب بالحاكم بأمر الله، لتكون منه سلالة الخلافة الشكلية بمصر، حتى انقضّ عليها سليم الأول (922 - 923 هـ)، وأنهى الازدواجية بين الخلافة والسلطنة، ولو كانت شكلية، فأبقاها سلطنة فقط. هذه باختصار قصة الخلافة العباسية في ظل السلطنة المملوكية، التي حاولت كسب الشرعية بها (انظر: تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، القاهرة: دار الكتب المصريّة 1938 ج7 ص 109 وما بعدها، ضمن ترجمة بيبرس).
قبل البدء في أمر تسليم الخلافة للعثمانيين، نأتي على رأي الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 150 هـ) في مسألة الخلافة وحصرها بقريش، لأن العثمانيين الأتراك، قبل دخول القسطنطينية (857 هـ 1453 م) كانوا على المذهب الحنفي، بل تشددوا بعد السلطنة بالالتزام به، حتى إن أبا حنيفة عُرف بالإمام الأعظم من قبلهم، وكانت المحلة التي فيها ضريحه تُعرف بمحلة أبي حنيفة، فتحول اسمها إلى الأعظمية بتلك النسبة.
صحيح أن الخلافة العباسيّة، منذ الخليفة المهدي بن المنصور (ت 169 هـ)، وقيل منذ زمن ولده هارون الرشيد (ت 193 هـ)، اتخذت المذهب الحنفي مذهباً رسمياً، وأصبح أبو يوسف يعقوب الأنصاري، المعروف بصاحب أبي حنيفة (ت 182 هـ) قاضي قضاة الدولة العباسية، وفي ظله صار أغلب القضاة، من المذهب الحنفي حينها، لكن العباسيين لم يتعصبوا تعصب العثمانيين للمذهب، ومن الخطأ ما قيل بأن العثمانيين اتخذوا هذا المذهب لأنه يُجوز الخلافة لغير القرشي، ومعلوم أن العثمانيين ليسوا عرباً، وبالتالي ليسوا قريشيين.
هذا ما ذهب إليه علي الوردي (ت 1995) قائلاً: «الشائع أنّ السبب الذي جعل الدّولة العثمانيّة شديدة التمسك بالمذهب الحنفي هو أنّ أبا حنيفة كان لا يأخذ بهذا الحديث، ويرى من الجائز أن تكون الخلافة في غير قريش» (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، بغداد: 1970 الجزء الأول، ص 49). كذلك تبعه في ذلك حسن العلوي، لكنه قال مؤكداً: «لا يشترط الإمام أبو حنيفة أن يكون الخليفة عربيّاً، ومن هنا جاء الاعتقاد بأن الأتراك العثمانيين كانوا قد أخذوا بمذهب أبي حنيفة، لأنه يجيز لغير العربيّ، كالتركي والفارسي، أن يكون خليفة، على عكس المذهب الجعفري الذي يوجب اشتراط عروبة الخليفة» (العلويّ، الشيعة والدولة القوميّة في العراق، فرنسا: طبع خاص 1989 ص13).
ما تقدم من رأي أو معلومة، لم يطلع قائلوها بمقالة أبي حنيفة نفسه في هذه المسألة بالذات، فهو كان الأكثر تشدداً في حصر الخلافة بقريش، وفق الحديث «الأئمة من قريش»، و«قدموا قُريشاً ولا تقدموها» (الماوردي، الأحكام السلطانية، بيروت: دار الفكر، ص6)، وحسب قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي (ت 450 هـ) شروط الخلافة سبعة، والنسب لقريش هو شرطها السابع (المصدر نفسه). أي لا تصلح الإمامة إلا في قريش.
أما عن التزام أبي حنيفة النعمان، وهو مثلما تقدم المذهب الذي كان عليه العثمانيون وما زالت عليه تركيا، في ظل إردوغان وقبله، ذكر الحسن بن موسى النوبختي (القرن الثالث الهجري): «وقال أبو حنيفة وسائر المرجئة، لا تصلح الخلافة إلا في قريش، كلّ من دعا منها إلى الكتاب والسنة، والعمل بالعدل، وجبت إمامته، ووجب الخروج معه. وذلك للخبر الذي جاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (الأئمة من قريش)» (النوبختيّ، فرق الشيعة، تحقيق: محمد صادق بحر العلوم، النجف: المطبعة الحيدرية، ص10). وذكر أبو العباس الناشئ الأكبر (ت 293 هـ)، قول أبي حنيفة الصريح في الإمامة: «لا يجوز أن يكون الإمام إلا رجلاً من قريش» (الناشئ، مقتطفات من الكتاب الأوسط، تحقيق: يوسف فان إس. بيروت: 1970 ص62 - 63). وقال الموفق بن أحمد المكيّ (ت 568 هـ) وهو أحد كبار فقهاء الحنفية في القرن السادس الهجريّ: «قولهم الأئمة من قريش، فلا يخلو ما يريد به الأئمة في الصلاة، أو في العلم، أو الخلافة، لا وجه يريد في الصلاة، لأنه مخالفة السنة والجماعة (...) فتعين أن يريد به التقديم في الخلافة» (المكيّ، مناقب أبي حنيفة، بيروت: دار الكتاب العربي 1981 الجزء الأول، ص399).
كذلك قال حافظ الدّين الكردريّ (ت 827 هـ) وهو من فقهاء المذهب الحنفي في القرن الثامن والتاسع الهجريين: «رجع الكل إلى هذا الحديث (يقصد الأئمة من قريش)، دل أن المراد بالإمامة الخلافة الكبرى بالإجماع، فلا يراد غيره، وأمّا قولهم: قوله عليه السلام تعلموا من قريش ولا تعلموها، فلا أصل له» (المصدر نفسه 2 ص65). والكردريّ، كان قد عرف الشعوبية، وما يعنيه هذا المصطلح من العداوة بين العرب والموالي. قال مدافعاً عن مذهبه الحنفي المتهم بالشعوبية: «الشعوبيّة لتعلقهم فيها بقوله تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل)، (وهي) ليست منْ ذكرتُ، إنّما قوم يعادون العرب، وعبارته شعوبيّة، بضم الشين، لقب لقبيلة غير محمودة عادت العرب، فتصغّر شأنهم، ولا ترى لهم فضلاً على غيرهم» (المصدر نفسه 2 ص71 - 72). جاء ذلك من قبل الكردري، على اعتبار أن الإمام أبا حنيفة كان الإمام غير العربي من بين أئمة المذاهب المعروفين، وهذا خطأ آخر حفّ بأبي حنيفة، إنما كان عراقياً كوفيّاً من غير العرب، وهذا موضوع آخر لا نتبسط به.
ما تقدم كان موجزاً لرأي الإمام أبي حنيفة في الخلافة، غير أن ما كُتب، وهو إشاعة عثمانيّة على ما يبدو متأخرة، من أن أبا حنيفة قال بإمامة غير القرشي، وهذا قول المعتزلة والخوارج وليس قول أبي حنيفة، وهو مشهور. فلو بحثت بين الخوارج، على سبيل المثال، ما وجدت قرشياً واحداً بينهم، بل تجدهم من حنيفة ومن تميم ومن الأزد، لأن الانشقاق السنة (37 هـ) بصفين كان بهذا المعنى، فهم ضد القريشيين؛ علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ) ومعاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ) معاً، وأبو حنيفة ليس له علاقة بهذا الأمر كي يُفتي بالإمامة خارج قريش.
نقول هذا، ليس أن العثمانيين أو غير العرب على العموم ليسوا كفاة للخلافة، إنما نعرض أمراً تاريخياً، ونحقق بمقولة لفقت على أبي حنيفة، وأمر تسليم الخلافة من المتوكل الثالث زُيف خبره، وأخذ يتداوله الإسلام السّياسي، الذي يعمل على إعادة الخلافة، على أنها التي انهارت عام 1924. وهي العثمانية.
غير أن الخلافة انتهت سنة (656 هـ 1258 م)، عندما أسقط هولاكو (ت 664 هـ) بغداد، وأنهى الخلافة كمؤسسة متواصلة منذ 11 هـ، مع الاختلاف بطبيعتها، بين الاختيار والوراثة، وفي انتقالها بالثورات، ووجوبها بخلافة المتغلب. لم يحتج الأمويون ولا العباسيون إلى تنازل أو تسليم، لأنهما من قُريش كافة. أما ما عُرف بصلح الحسن ومعاوية (41 هـ) فهذا داخل قريش لا خارجها، ولا يخص شرعية الخلافة أو عدم شرعيتها من ناحية النسب.
لقد سيطر كثير من الأقوام غير القرشية، أو العربية، على مقاليد السلطة الفعلية، كالغزنويين، والبويهيين، والحمدانيين (كانوا عرباً من تغلب وليسوا من قريش)، والسلجوقيين، والأخشيديين، وبعدهم دولة كافور، والزنكيون، والأيوبيون، والمماليك، والمغول بعد إسلامهم (694 هـ)، لكنهم جميعاً لم يتجرؤوا على إلحاق الخلافة بهم، التزاماً بشرعية الخلافة وشرطها «الأئمة في قريش»، فكيف يخرج العثمانيون، وهم أتراك، كأغلب السلطنات التي ذكرناها، عن هذا التقليد، ليكونوا خلفاء لا سلاطين؟!
ظلت للخليفة العباسي مكانته الاعتبارية، من دون سلطة فعلية، في ظل السلطنات التي ذكرناها كافة، كانت بحدود الدعاء والخطبة، أما السيف والخراج، أي السّلاح والمال، فبيد السلاطين، وهم أعلنوا أنفسهم سلاطين أو ملوكاً، حكموا كأمراء وسلاطين وليسوا خلفاء، يُقلدهم الخليفة اللقب والمنصب تقليداً شكلياً. في وقت قُسمت الخلافة الإسلاميّة إلى 3؛ العباسيين ببغداد، وهي الأكبر رقعة والأكثر رعايا، والأموية بالأندلس، والفاطمية بالقاهرة، والسبب أن الثلاث تأسست على أساس النسب القرشي.
فكيف يأتي العثمانيون وهم أتراك يدعون الخلافة؟! لذا وجد من يُريد اتصال الشرعية الدينية بالعباسيين مخرجاً، وهو التنازل والتسليم، ولنفترض حدث هذا التنازل والتسليم، فليس من حقّ الخليفة المغلوب والأسير أن يمنح الشرعية، ويكون سبباً بنشأة خلافة خارج حديث «الأئمة من قريش»، بما لا يقبله إمام المذهب الذي يتعبد ويعتقد به العثمانيون أنفسهم، وهو المذهب الحنفي، مثلما مر الحديث بنا.

نأتي على 4 مؤرخين، من العهد العثماني، بينهم من عاصر دخول الجيش العثماني بقيادة السلطان سليم الأول (ت 1520 م) إلى مصر، بعد معركة الريدانية (922 هـ - 1517 م)، وبعد هزيمة المماليك في معركة «مرج دابق» (1516 م)، وتمت السيطرة عليها، ألا وهو المؤرخ محمد بن أحمد بن إياس المصري (ت 1523 م)، أي أنه توفي بعد وفاة سليم الأول بـ3 سنوات، والقصد أنه كان شاهداً على الحدث.
تابع ابن إياس سير المعارك، التي أسفرت عن السيطرة على مصر المملوكية، ثم ملاحقة آلاف المماليك وقتلهم داخل القاهرة، من حمل السّلاح ومن لم يحمله، بما يشبه الإبادة الجماعية، حتى إن «الناس أخذوا يلبسون العمائم، فمن ظل يلبس غطاء الرأس المملوكي يقطعون رأسه. فكانت التهمة توجه للمصري بأنه من الجراكسة فيشتري نفسه من القتل»! ترك سليم الأول مصر بعد 8 أشهر إلى القسطنطينية، فأجبر الخليفة العباسي أحمد المتوكل على الله الثالث، ووالده يعقوب بن عبد العزيز المستمسك بالله المتوكل على الله الثاني، وأولاد عمومته وأصهاره، بالسفر معه إلى القسطنطينية، أو إسلامبول، وكان المتوكل الثالث يكره ترك القاهرة حيث ولد ونشأ. عاد والده إلى مصر بعد مرضه الذي توفي به، أما هو فظل محجوراً عليه حتى وفاة سليم الأول، فسُمح له بالعودة إلى القاهرة، ليحتجب نهائياً حتى وفاته هناك. فالسبب واضح كي لا يلتف حوله شرعيته المصريون والشاميون، ويكون جيشاً لإعادة الخلافة.
خلال هذه الأحداث لم يذكر ابن إياس من قريب ولا من بعيد مسألة، أو حدث تسليم الخلافة أو التنازل عنها، كذلك لم يقم العثمانيون بإبقاء الخليفة ولو شكلياً، إنما أعلنوها سلطنة، فالمؤرخون عندما يتحدثون عن ولاية سلطان جديد، يقولون «تسلطن». حتى إن محمد الفاتح، وهو جد سليم الأول المباشر، لُقب «بقيصر الروم»، وحفيده بالسّلطان، وبالملك المظفر سليم شاه. فكانت الخطب له على منابر مصر والقاهرة في آخر جمعة من سنة 922 هـ، باسم السلطان سليم شاه، ومشهور بابن عُثمان.
كذلك عاصر المؤرخ شمس الدّين محمد بن علي بن طولون الحنفي (ت 1546 م)، حدث دخول سليم الأول إلى مصر والشّام، وأصبحتا تحت سيطرته، بدأ تاريخه «مفاكهة الخلان في حوادث الزمان» (النسخة التي بين أيدينا) بعام «884 هـ»، وانتهى بعام «926 هـ»، وتوقف مليلاً عند احتلال سليم الأول لمصر والشام، وبتفاصيل دقيقة، وكان يسميه بـ«ملك الروم»، ولم يذكر تسلم الخلافة أو التنازل عنها بوجه من الوجوه، ولا بتسمية السلطنة العثمانية بالخلافة، ولا تسمية سلطان عثماني بالخليفة، أما عن الخليفة العباسي فقال: «وجه مرسماً عليه من مصر إلى إسطنبول»، أي غادر مصر بأمر رسمي، وهذا أمر طبيعي، مع أن الخليفة ليس لديه ما يعاند به السلطان سليم الأول، لكن الخشية من استغلاله واجهة شرعية.
أفرد المؤرخ العثماني أحمد بن يوسف القرماني (ت 1610 م)، وعندما نقول العثماني أي من البلدان التي تتبع سيطرة العثمانيين، قسماً وافياً من الجزء الثالث والأخير من تاريخه لسلاطين آل عثمان، وتوقف طويلاً عن عهد سليم خان الأول، وسماه بالسلطان، وبهذا اللّقب سمى من كان قبله ومن بعده، ويضيف لقب «خاقان»، وهو لقب معروف بين الأتراك والمغول. وقف القرماني بتاريخه عند السنة التي سبقت وفاته، أي (1609 م) حيث عهد السلطان أحمد خان، وسماه بالسلطان الأسعد والخاقان الأمجد.
بعد المؤرخين الثلاثة، نأتي على المؤرخ العثماني أيضاً عبد الملك بن حُسين العصامي (ت 1699 م)، وتاريخه «سمط النجوم العوالي في أبناء الأوائل والتوالي»، بدأ تاريخه، مثل المؤرخين الأوائل، من عهد آدم، وتوقف عند العام «1099 هـ - 1678 م»، ومر على عدد كبير من سلاطين العثمانيين، ولم يُسم أحدهم بالخليفة، ولا دولته بدولة الخلافة.
إن لقباً مثل لقب «الخليفة» لم يكن ثانوياً كي يهمل أو يتجاهل المؤرخون وجوده، وهم الذين عاشوا أيام السلطنة العثمانية، كذلك حدث تسليم الخلافة من قبل المتوكل الثالث العباسي إلى سليم خان الأول العثماني لم يكن حدثاً عابراً، ونحن نرى المؤرخين يسجلون الصغيرة والكبيرة، فكيف لا يسجلون مراسم التنازل أو التسليم، بينما سجلوا أسر الخليفة إلى العاصمة العثمانية، وبالحديث عن يوميات ما كان يجري من حوادث، كيف سُفر من القاهرة، ونُقل إلى السفينة، ومن معه، وكم عاش هناك، وما جرى على أبيه. إنه أمر واحد فقط ليس غيره، لم يكن العثمانيون خلفاء إنما كانوا سلاطين شأنهم شأن السلاجقة والبويهيين، وما ذكرنا من السلطنات سلفاً، لكن من دون وجود خليفة، ولو شكلياً.
متى لُفق أمر التنازل؟!
لا توجد أي إشارة إلى تسمية السلطنة، حتى الإمبراطورية العثمانية، بدولة الخلافة قبل العام «1876»، أي قبل عهد السلطان عبد الحميد الثاني، بعد ضم مصر إلى الدولة العثمانية بأكثر من 250 عاماً، نقرأ ذلك في الدستور العثماني، الذي عُرف بـ«القانون الأساسي العثماني في ممالك الدولة العثمانية»، وأخذ عبد الحميد الثاني يشار إليه بلقب الخليفة، أما قبل ذلك فلا وجود للقب «الخليفة».
نقرأ ذلك في النسخة التي قام بترجمتها، الشخصية العثمانية الشهيرة مدحت باشا (قُتل 1883)، وصدر في تاريخ «24 - 10 - 1876». جاء في المادة الثالثة: «السّلطنة السنية العثمانية الحائزة على الخلافة الكبرى، تكون لأكبر أولاد سلالة آل عثمان بحسب الأُصول القديمة». كذلك ورد في المادة الرابعة من القانون الأساسي العثماني: «إن حضرة السلطان، حسب الخلافة، وهو الحامي لدين الإسلام، وهو ملك جميع التبعية العثمانيّة وسلطانها» (القانون الأساسي، تعريب وزيري سمير المعالي مدحت باشا، بيروت: طبع على نفقة أمين الخوري، صاحب مكتبة ومطبعة الآداب 1293 هـ - 1908 م).
غير أن التنازل لسليم الأول ورد في مراجع روسية متأخراً كثيراً عن الحدث، كتب القنصل الروسي بالبصرة آنذاك الآتي: «وأجبر المتوكل أمريل حكيم (هكذا وردت) آخر خلفاء العبّاسيين الذي كان مقيماً هناك على التنازل عن حقوقه بالخلافة، فأصبح سلاطين الإمبراطوريّة العثمانيّة منذ ذلك الوقت يحملون لقب خليفة» (الإسكندر آداموف، ولاية البصرة، ترجمة هاشم التكريتي، جامعة البصرة، مركز دراسات الخليج العربي 1982 ص 129. صدرت طبعة الكتاب الروسية 1912). فيبدو أن هناك سبباً سياسياً ما جعل روسيا تشارك الدولة العثمانية، في فترتها المتأخرة، ليكون عبد الحميد خليفة، فبهذا اللقب يكون أمير المؤمنين، يخضع له مسلمو الأرض كافة، مثلما كانت عليه الخلافة قديماً. طبعاً، يصعب إهمال كتب التاريخ التي عاصر مصنفوها الحدث، ولم يكونوا ضد العثمانيين بشكل من الأشكال، كي يتعمدوا حجب لقب الخليفة عن السلطان العثماني، كي نأخذ برواية متأخرة لا تستند إلى مصدر رسمي أو تاريخي.
من جانبه، يأتي ساطع الحصري (ت 1968) مفنداً حكاية التنازل، واهتمام العثمانيين المتأخر بالخلافة، وبلقب خليفة، قال: «كلّ شيء يدل على أن سلاطين آل عثمان لم يعيروا، في بادئ الأمر، أمر الخلافة أي اهتمام، وعندما اهتموا بها، فيما بعد، وأرادوا أن يستفيدوا منها، بصورة تدريجية، اختلق ساستهم ومؤرخوهم أسطورة التنازل والانتقال» (الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث 1 ص 49. عن الحصري، البلاد العربية والدولة العثمانية، ص 42 - 45).
يقول علي الوردي معلقاً على ما كتبه الحصري: «الواقع على أي حال أن العثمانيين استفادوا من فكرة الخلافة - كما يقول الحصري - فائدة كبيرة، ذلك أن اعتقاد المسلمين بتلك الفكرة قوّى نفوذ الدولة العثمانية، وسهل حكمها تسهيلاً عظيماً» (المصدر نفسه 1 ص 50). يُذكر ممن فندوا الرواية العثمانية المتأخرة، والتي تبشر بها جماعات الإسلام السياسي، التواقة إلى الخلافة، أسد رستم في بحثه «السلطان سليم والخلافة الإسلامية» (1976)، قدم لها نقداً تاريخياً (وجيه كوثراني، الفقيه والسلطان، المركز العربي للأبحاث 2015 ص 75).
كان سبب تلفيق أمر الخلافة للعثمانيين، من أجل حوز الشرعية الدّينية النّاقصة بأذهان المسلمين، الذين في نهاية الدولة العثمانية قاموا يتحدثون عن الوحدة الإسلامية، مقابل الحملات الاستعمارية الغربية، وما كان اقتراب جمال الدّين الأفغاني (ت 1897) من السلطان عبد الحميد الثاني، بشأن إصلاح السلطنة العثمانية وإنشاء الوحدة الإسلامية (راجع: هاني فحص، الثائر والسلطان... جمال الدين الأفغاني وعبد الحميد الثاني، إيران والإخوان توظيف الدّين لمعركة سياسية، كتاب المسبار الشهري 8 أغسطس - آب 2013 ص 189 وما بعدها) إلا للوحدة التي تحتاج إلى خلافة شرعية بشخص عبد الحميد.
أما في يومنا هذا، فيأتي التركيز على شرعية الخلافة العثمانية، بما يُناسب الحديث المعمول به بين المسلمين بشأن الخلافة، لإعداد تركيا بزعامة «الإخوان المسلمين» لدور الخلافة، فرجب طيب إردوغان يحث الخطوات في هذا الاتجاه، وما كان إعادة الحرس العثماني، وغزو ليبيا على أنها إرث عثماني، وتحويل آيا صوفيا إلى مسجدٍ إلا خطوات بهذا الاتجاه، يتحمس لها «الإخوان المسلمون»، الذين تأسسوا سنة «1928» على فكرة الخلافة، على أنها هي التي سقطت 1924. وليس السلطنة العثمانيّة!
نقول؛ لو أن «الإخوان المسلمين» ظلوا يحكمون مصر، وتمكنوا بليبيا وتونس، وها هم أظهروا الأهداف بعد التمكين بتركيا، لم يبق غير أن تُعلن الخلافة، والخليفة هو إردوغان، بعد أن يضع العمامة العثمانية على رأسه، كوريث لسليم الأول الذي حاز اسم الخلافة من آخر خلفاء العباسيين، فتنظيم مثل «الإخوان» لا يتقيد بحدود جغرافية ووطنية، وفق مفهوم الدولة الحديثة، إنما حدوده حيث تمتد العقيدة الدينية، فلا بد أن تكون «الحاكمية» شاملة لكلّ المسلمين، عبر مؤسسة الخلافة. غير أن فكرة إعادة الخلافة بنيت من الأساس على حكاية ملفقة، وهي حكاية التنازل من الخليفة المتوكل الثالث إلى السلطان سليم الأول، ليبقى هذا التنازل مستوراً حتى يظهر فجأة في زمن عبد الحميد الثاني، ويُفعّل ويُنشط في عهد الإخواني رجب طيب إردوغان.

عن "الشرق الأوسط" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية