أكثر من مجرد وكيل… تطور الاستراتيجية العسكرية لحزب الله اللبناني

أكثر من مجرد وكيل… تطور الاستراتيجية العسكرية لحزب الله اللبناني


18/08/2020

محمد العربي

في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥-١٩٩٠) الأخيرة، لم يكن حزب الله اللبناني مختلفًا في قدراته العسكرية عن بقية الفصائل اللبنانية المتحاربة من مختلف الطوائف. لذا كان تحول هذه المليشيا الأيديولوجية الصغيرة إلى تنظيم ضخم وهجين تفوق قوته العسكرية والسياسية قوة الدولة اللبنانية ويتراوح نفوذه بين سوريا إلى غرب أفريقيا وصولاً إلى أمريكا اللاتينية، تطورًا غير مسبوق في تاريخ الشرق الأوسط.

 يسلط تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية حول “شبكات النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط”  الصادر عام 2019 الضوء على طبيعة العلاقة العضوية بين حزب الله وإيران، ويشرح تطور الاستراتيجية العسكرية للمنظمة التـي تعتبر الفاعل غير الدولة الأكثر قوة في تاريخ المنطقة.

كما يرصد التقرير عوامل العلاقة الفريدة بين حزب الله وحلطهران تنظيميًا وعقديًا في سياق التغيرات الطارئة على منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وإيران ولبنان منذ تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية ١٩٧٩ وتأسيس حزب الله في ١٩٨٢ بمساعدة مباشرة من الحرس الثوري الإيراني ككيان شيعي موازِ لحركة أمل وحركة المحرومين التـي عبرت عن تطلعات الغالبية العظمى للشيعة اللبنانيين بقيادة الإمام الراحل موسـى الصدر الذي مهد اختفاؤه في ليبيا قبيل عام من عودة الخمينـي إلى إيران لصعود الاعتقاد ب”ولاية الفقيه”، وللخط المذهبـي الذي يعبر عنه النظام الإيراني في أوساط الشيعة العرب.

مر حزب الله بأربعة مراحل عسكرية. امتدت الأولى ما بين ١٩٨٢ و١٩٩١، وارتكزت استراتيجية الحزب على مكافحة الوجود الإسرائيلي في جنوب لبنان، إلا أنه أيضًا انخرط في مواجهات متفرقة مع بقية الفصائل اللبنانية وخضع لموازنات الحرب المتقلبة .

 في المرحلة التالية (١٩٩١-٢٠٠٠)، بعد أن نجحت دمشق في استثناء الحزب من قرارات نزع سلاح المليشيات التـي نص عليها اتفاق الطائف، برز كقوة عسكرية أكثر تجهيزًا وتركيبًا من حيث القدرات والقيادة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي حيث سعى إلى طرد جيش الدفاع من “المنطقة الآمنة” التـي غطت ١٠٪ من مساحة لبنان؛ وبعد رحيل الاحتلال الإسرائيلي، تحول الحزب إلى قوة دفاعية هدفها ردع إسرائيل عن إعادة محاولة الاحتلال حتـى ٢٠١١ إذ انتقل الحزب كطرف دولي في الحرب الأهلية السورية كحليف لطهران والنظام السوري حيث طور قدرات مكافحة التمرد علي نحو جعلته أقرب إلى الجيش النظامي.

في تلك المراحل المختلفة، أثبت حزب الله أنه تنظيم قادر على التكيف والتعلم السريع، حيث أصقلت الصراعات المختلفة التـي خاضها في سياقات عسكرية متنوعة عبر أربعة عقود قدرات مقاتليه ووسعت من نطاق خبراته القتالية واستيعاب أنماط التسليح المختلفة بداية من الأسلحة الخفيفة انتهاء بالصواريخ متوسطة المدى والمركبات المدرعة ومضادات الدبابات؛ فضلاً عن التطور البالغ في القدرات الاستخباراتية للحزب.

تعود هذه المرونة إلى حد كبير إلى البنية العسكرية الأفقية لقوات الحزب. فعلى النقيض من القوات النظامية والعقائد العسكرية لمعظم جيوش المنطقة التقليدية، يتمتع ضباط وصف ضباط الحزب بصلاحيات واسعة فيما يتعلق بالعمليات والتكتيكات.

حيث استطاع الحزب تطوير مفهومه الخاص عن “الجندي الاستراتيجي Strategic Corporal”[1] وهو مصطلح يشير إلى تفويض عملية اتخاذ القرار القتالية إلى المستويات الأدنى في إطار الاستراتيجية والسياسة الأوسع وهو ما يوفر قدرًا أوسع من المرونة وسرعة الاستجابة لتغيرات المعارك. وقد أثبت هذا النموذج نجاحه في كلا الساحتين اللبنانية والسورية.

عض أصابع الاحتلال: استراتيجية تحرير الجنوب اللبناني    

كان انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني في مايو ٢٠٠٠ أكبر نجاح لحزب الله منذ تأسيسه، لم ينتصر الحزب عسكريًا على قوات الاحتلال في معركة فاصلة أو في سلسلة حروب مطولة، إلا أنه اعتمد على نموذج حرب التحرير التقليدية والتـي تتأسس على استراتيجية “التصعيد المحسوب” ضد المحتل ورفع تكلفة وجوده، واستهداف معنويات قواته على نحو يدفعه إلى الرحيل.

 استطاع الحزب بمساعدة من الصواريخ الإيرانية متوسطة المدى تحقيق توازن عسكري مع الاحتلال، حيث أصبح الشمال الإسرائيلي في مرمى أهداف حزب الله وهو ما أدى إلي رضوخ تل أبيب إلى القبول بوقف لإطلاق النار مع الحزب في ١٩٩٦. وهي الهدنة التـي سرعان ما انهارت علي وقع مجزرة قانا الأولى التـي منحت شرعية وطنية وإقليمية لوجود الحزب وحربه المشروعة ضد الاحتلال ومليشيا “جيش لبنان الجنوبي” المسيحية الحليفة له.

 استطاعت عمليات الحزب المتتالية تحريك الداخل الإسرائيلي للضغط على الحكومة لاتخاذ قرار الانسحاب وراء المنطقة الآمنة بعد سقوط ٢٥٦ جندي ومئات العناصر من المليشيات الحليفة وقصور آليات الردع عن منع حزب الله من استهداف مستوطنات الجليل.

جعل هذا الانتصار من الحزب أيقونة سعت مختلف الحركات الإسلامية المواجهة لإسرائيل محاولة الاقتداء بها، فضلاً عن زيادة شعبيته في الأوساط العربية التـي تغاضت عن الطبيعة الدينية والطائفية للحزب.

أعقب انسحاب الاحتلال تحول استراتيجية الحزب نحو “الردع” نحت ذريعة بقاء “مزارع شبعا” المتنازع عليها بين لبنان وسوريا وإسرائيل تحت احتلال الأخيرة وضرورة تحريرها. ساعد قيادة الحزب على تحقيق هذه الاستراتيجية انهيار محادثات السورية الإسرائيلية وصعود بشار الأسد إلى الحكم في دمشق وقراره بناء علاقات عضوية غير متحفظة مع الحزب، على عكس مساحة التحفظ التـي آثر حافظ الأسد الاحتفاظ بها تجاه حليفيه “طهران” و”حزب الله” بسبب الطبيعة الدينية، وكذلك اتخاذ سياسات أكثر عدائية تجاه تل أبيب.

كانت دمشق أكثر سخاء تجاه الحزب الذي أفاد من السلاح السوري والاستثمارات الإيرانية ونجح في عقد صفقات تقنية مع كوريا الشمالية لإنشاء قواعد استخباراتية، ومخابئ وأنفاق وأجهزة تخزين وتحريك أسلحة رغم وجود قوات “اليونيفيل”.

من ناحية أخرى، استغل الحزب قدرته على الحشد واستهدف المجتمع الشيعي اللبناني الذي مثل خزانه البشري ولم يعد يؤكد على أولوية الاعتقاد بـ”ولاية الفقيه” كشرط للانضمام للحزب، وهو ما سمح له بالولوج إلى نقاط تجمع شيعة لبنان في المهجر في غرب أفريقيا وأمريكا اللاتينية. في الوقت الذي نجحت فيه آلة الحزب الإعلامية في ضمان الظهير الداعم له في العالم العربي.

حرب لبنان الثانية: تأكيد الوضعية الاستراتيجية للحزب

على هذه الخلفية اندلعت حرب لبنان الثانية (يوليو- أغسطس 2006) التـي كانت بمثابة اختبار لاستراتيجية الردع والجاهزية العسكرية للحزب. وعلى الرغم من أن الحرب أثبتت فشل قراءة قيادة حزب الله للنوايا الإسرائيلية، حيث استبعد السيد حسن نصر الله أن تكون ردة الفعل الإسرائيلية على عملية اختطاف الجنود الإسرائيليين بهذا الحجم، إلا أن الحرب أضافت للسجل العسكري للحزب، وهو ما أطلقت عليه آلته الإعلامية “النصر الإلهي” بيد أن هذا “النصر” لم يتم إلا بثمن قاس تمثل في تدمير البنية التحتية اللبنانية وخسارة عدد معتبر من الآلة العسكرية لقواته خاصة الصواريخ متوسطة المدى التـي كانت على رأس أهداف الطيران الإسرائيلي، فضلاً عن جنوده.

كما أن الحرب قد زادت من حدة الاستقطاب الإقليمي الذي أخرج الحزب من دائرة الإجماع العربي على “خيار المقاومة” ليصبح الحزب عضوًا في محور “الممانعة” الذي يضم طهران ودمشق في مقابل محور الاعتدال العرب المتمثل في دول الخليج العربي ومصر والأردن.

بشكل عام تنضم هذه الحرب إلى الجدل الأوسع في تاريخ المنطقة حول ماهية النصر والهزيمة بأبعادهما المختلفة. ومع ذلك أثبتت الحرب قدرة الآلة العسكرية والإعلامية لحزب الله على إدارة معاركها في مقابل عجز وارتباك الآلة الإسرائيلية التي لم تستطع الحفاظ على الدعم الغربي والأمريكي بعد ارتكاب مجزرة قانا الثانية (أغسطس 2006).

 في المقابل، كانت مشاهد إخلاء مستوطنات الشمال الإسرائيلي، وزيادة نسبة قتلى جيش الدفاع (119 إسرائيلي في مقابل ما بين 250-700 مقاتل من حزب الله وهي النسبة الأعلى في تاريخ مواجهات إسرائيل مع القوى العربية)، فضلاً عن مفاجئة تدمير الزورق الإسرائيلي قبالة السواحل اللبنانية بصاروخ إيراني “نور” (النسخة المعدلة من صاروخ C-802 الصينـي المضاد للسفن) بمثابة انتصار معنوي كبير للحزب الذي نجح في النهاية في إيقاف الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان وإبعاد جيش الدفاع جنوب نهر الليطاني.

أكدت الحرب للحزب على صحة موقف “الردع” الاستراتيجي حيث اتضح أن تل أبيب تقتنص الفرص لتدمير البنية التحتية للبلدان العربية وشن الحروب لإنقاذ ساستها. وبالتالي، عمل الحزب على زيادة ترسانته العسكرية وإعادة بناء قدراته الصاروخية والاستخباراتية لمنع أية محاولة إسرائيلية مستقبلية.

وربما منحت إعادة نشر قوات “اليونيفيل” والجيش اللبناني وفقًا للقرار الأممي 1701 على الحدود للحزب الفرصة لالتقاط أنفاسه. إلا أن الحزب وحلفاؤه الإقليميين وجدوا أنفسهم في مرمى نيران السياسة الإقليمية واللبنانية مع إعادة فتح ملف سلاح حزب الله وتناقضه مع مبدأ سيادة الدولة اللبنانية، وزيادة انخراط الحزب في السياسة الداخلية اللبنانية، ونجاحه في السيطرة على مفاصل النظام الأمنـي اللبناني، على نحو جعل من الحزب طرفًا في لعبة سياسية خطرة، أدت على مرور السنوات إلى تآكل الشعبية العربية واللبنانية التـي بناها خلال عقدين.

الحرب الأهلية السورية: إعادة تشكيل عقيدة الحزب القتالية

تمثل الحرب الأهلية في سوريا المندلعة منذ 2011 أخطر تحدٍ استراتيجي للحزب. فمنذ تأسيسه، اتجه التخطيط الاستراتيجي والعملياتي للحزب على مواجهة “العدو الإسرائيلي” ولم يكن مؤهلاً لإرسال قوات خارج الحدود اللبنانية، وهو ما حدث مع اصطفافه العسكري مع دمشق حيث أضحى حليفه الأكثر التصاقًا آيلاً للسقوط بسبب التمرد المسلح المدعوم من قوى إقليمية مناوئة لكل من دمشق وطهران، وهو ما كان يعني نهاية خط الإمداد العسكري الأهم وخسارة العمق الاستراتيجي المتمثل في الداخل السوري المهدد بخطر الجماعات الراديكالية السنية التـي أصبحت عدوًا جديدًا. ومع ذلك، أثبت حزب الله قدرة هائلة على التكيف مع معطيات الحرب الجديدة.

على مستوى العمليات، كانت قوات الحزب قادرة على خوض “حرب هجينة” حيث عمل كقوة نظامية قادرة، للمرة الأولى، على التنسيق مع قوات نظامية أخرى مثل الجيش السوري والجيش الروسـي والمليشيات السورية الحليفة والأجنبية والتابعة لقوات الحرس الثوري الإيراني وذلك بهدف “مكافحة التمرد”. واعتمد الحزب بشكل أساسـي على آلاف من قوات الاحتياط فضلاً عن المتطوعين الذين انتظموا في قوات مشاة خفيفة وقوات نخبة وقناصة ووحدات الاتصال والدعم.

 مرة أخرى ساهمت سياسات التجذير الاجتماعي التي ابتعها الحزب  في نجاحه بتجنيد مقاتلين للدفاع عن مصالحه الاستراتيجية في سوريا مع الإبقاء على وضعية “الردع” في مواجهة العدو الإسرائيلي. ويتضح من آليات تجنيد الحزب قدرته الهائلة على الربط بين خطاب “المواجهة مع إسرائيل” والحساسية المذهبية للشيعة.

وفقًا لتقديرات المخابرات الإسرائيلية وبعض أجهزة المخابرات الغربية في العام ٢٠١٦، فإن الحرب السورية سارعت من وتيرة الجاهزية العسكرية للحزب الذي أصبح مجهزًا بآليات مدرعة على رأسها دبابات تي- 72 ووصل حجم ترسانته الصاروخية ١٥٠ ألف صاروخ وراجمة. وبسبب اضطراب خط الإمداد السوري، انتقل الحزب إلى مرحلة الإنتاج والتجميع والصيانة المحلية من خلال ورش داخل سوريا ولبنان؛ حيث نجح في إنتاج وتطوير صواريخ “إم ٦٠٠” إلى “فاتح ١١٠” التـي يبلغ مداها ٢٥٠ كيلومترًا. وهو ما يعكس حجم “مرونة” وقدرة الحزب على التكيف.

تمكن الحزب إلى حد بعيد من إبعاد أثر الحرب السورية عن الداخل اللبناني، إلا أن الحرب، التـي يبدو أنه انتصر فيها هي الأخرى مع حلفائه السوريين والروس والإيرانيين، أدت إلى تدهور ضخم في شعبية الحزب عربيًّا خاصة في أوساط الأغلبية السنية التـي أصبحت تراه قوة قمع طائفية. كما أن أعباء الحرب الاقتصادية قد تراكمت على الحزب، خاصة مع انهيار الاقتصاد السوري واستمرار الأزمة الاقتصادية الإيرانية مع عودة العقوبات، واتجاه الولايات المتحدة لمطاردة نفوذ الحزب وأنشطته الاقتصادية الشرعية وغير الشرعية في أمريكا اللاتينية. واتضح التأثير الكبير لهذه الأزمة في توقف بعض المساعدات الاقتصادية التـي يقدمها الحزب لقاعدته الاجتماعية في الضاحية والجنوب، وتأخر رواتب بعض مقاتليه في سوريا.

بعد العودة المرتقبة من سوريا، فمن غير الواضح حتـى الآن كيف سيتعامل الحزب مع التحديات التـي خلفتها الحرب. فمن ناحية، أصبح الداخل اللبناني مأزومًا على نحو غير مسبوق منذ الحرب الأهلية، وأصبح الحزب ككيان سياسـي طرفًا أصيلاً في أزمة النخبة اللبنانية. من ناحية أخرى، تبدو تل أبيب قلقة من التطورات القتالية والعسكرية للحزب، ومن أن يؤدي انتهاء الحرب السورية إلى وجود فرص لعودة الصراع إلى الجنوب اللبناني.

 ويزيد من هذا التوتر المرتقب الوجود الإيراني المباشر في سوريا في ظل بيئة أمن إقليمية متزايدة الفوضـى. إلا أن المعضلة الأهم بالنسبة للحزب هو كيفية إعادة تكييفه لعقيدته القتالية، والسياسية في إطار الدولة اللبنانية التـي يبدو أنها غير قادرة على استيعاب القوة المتزايدة للحزب، وحقيقة كونه كيان مكتفِ بقدراته العسكرية والاقتصادية. على النقيض من الكثير من المنظمات الإسلامية من الفاعلين غير الدول في المنطقة التـي تمر بأزمات ضعف وتردِ عميقة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، فإن أزمة حزب الله المرتقبة ناتجة عن فرط قوة التنظيم.

مستقبل العلاقة بين حزب الله وإيران

تميل الدعاية المناوئة لحزب الله في العالم العربي أو الغرب إلى تصويره باعتباره “عميلاً” أو “مخلب قط” لإيران. إلا أن هذه الدعاية تتجاهل تطور العلاقة بين إيران والحزب، تلك العلاقة التـي فرضت تغيراتها القدرات الهائلة التـي اكتسبها الحزب عبر أربعة عقود من تأسيسه. من وجهة نظر الحزب، فإيران وسوريا تمثلان ضرورة لبقاء الحزب، وفي غير مرة، اعترفت قيادة الحزب بالأيادي البيضاء لإيران على الحزب من حيث التمويل والتسليح، ومع ذلك، وعلى مستوى العمليات العسكرية، يتمتع الحزب بدرجة عالية من الاستقلالية، وهو ما تجلى في إدارة عملياته في سوريا. حيث توافق حزب الله وقوات الحرس الثوري الإيراني على الخطوط الاستراتيجية العامة للقتال، بالتنسيق مع دمشق وموسكو، إلا أن الحزب تمتع بكامل الحرية في إدارة عملياته وتحريك قواته دون تدخل أطراف أخرى.

 كما أن الحزب، الذي لا ينفي في خطابه جذوره التـي توارثها من الحركات اليسارية والقومية أثناء الحرب الأهلية وعلى قاعدة المواجهة مع إسرائيل، يرى في نفسه النظير العربي للنظام الثوري في إيران، كما أن إنجازاته العسكرية في الساحتين اللبنانية والسورية تعزى بشكل كبير إلى قيادته ومقاتليه.

بالنسبة لإيران، فحزب الله يمثل الرقم الأكثر أهمية في سياسة طهران الأمنية والاستراتيجية؛ بسبب قوته العسكرية خاصة الصاروخية، وقدرته على التحرك خارج الحدود اللبنانية فضلاً عن عملياته وشبكة نفوذه الممتدة عبر العالم. على العكس من “الوكلاء” الآخرين في بلدان أخرى، لم تسع إيران إلى التدخل في سياسة الحزب الداخلية، بل أيضًا احترمت خياراته على المستوى اللبناني. ويعود هذا إلى التطابق بين غايات الطرفين من الناحية الاستراتيجية وتأكد إيران من قدرة الحزب على الدفاع عنها في حالة خوضها صراعًا إقليميًّا أو وقعت تحت هجوم إسرائيلي أو أمريكي. وبالتالي، تنظر طهران إلى الحزب باعتباره “شريكًا” أصغر في تنفيذ استراتيجية إقليمية واحدة لا كوكيل تابع.

وعلى الرغم من وجود قاعدة “عقدية” و”أيديولوجية” للعلاقة بين طهران وحزب الله، فإن الطرفين نجحا في بناء آليات لتبادل المنافع ومؤسسات لتقاسم المنافع والموارد الاقتصادية والعسكرية، فضلاً عن وجود عامل شخصـي مرتبط بقيادة السيد حسن نصر الله والولي الفقيه في طهران، فضلاً عن العلاقة عميقة الجذور بين العوائل الشيعية العربية والإيرانية في كل من إيران والعراق ولبنان.

ومع ذلك فهناك هامش للخلافات بين الطرفين خاصة في المسائل الثانوية والسياسات العربية، إلا أنها لا تمثل تناقضات حادة بين الجانبين. على سبيل المثال تباين موقف الحزب وطهران من الإطاحة  بحكم جماعة الإخوان المسلمين في ٢٠١٣، وهو الموقف الذي سرعان ما صححته قيادة الحزب.

لذا فإن مستقبل العلاقة بين الطرفين سيظل محكومًا بتلك العلاقة العضوية والفريدة وإن كانت ستتعرض للاختبار من عدة جهات. أولاً، التغير في القيادة الإيرانية، تحديدًا بعد رحيل آية الله خامنئي، إذ ليس هناك إجماع بين النخبة الإيرانية حول سياسة طهران العربية خاصة دعم الحلفاء في سوريا ولبنان والعراق، وعلى الأرجح سيكون هناك تغير في مقدار هذا الدعم، وإن كان حزب الله سيبقى أقل تضررًا.

 ومن المؤكد أن انهيار النظام الإيراني، سيؤدي إلى إضعاف الحزب، إلا أنه لن يؤدى إلى انهياره بسبب تجذره في القاعدة الاجتماعية وتطور بنيته التحتية الاقتصادية والعسكرية. كذلك قد يؤدي تعاظم الضغوط الإقليمية والداخلية على حزب الله إلى تبنـي سياسة وطنية وإقليمية أكثر انفتاحًا على شركاء آخرين في لبنان وخارجه؛ وهو ما أثبته الحزب الذي تخلى منذ عقود عن محاولة تأسيس “إمارة إسلامية” على غرار الجمهورية الإيرانية. إلا أنه من المؤكد أن سياسة الاستقطاب الإقليمي تجاه الحزب سيؤدي إلى مزيد من التصاقه بطهران.

 يعود المصطلح إلى الاستراتيجي الأمريكي الجنرال تشارلز كرولاك ونظريته حول “حرب القطاعات الثلاثة” والذي يتحدث فيها عن تغير طبيعة الحرب والمهام التي تواجه تحديدًا قوات المارينز الأمريكية والتـي تتمثل في ضرورة قيام القوات بمهام تتمثل في العمليات القتالية الواسعة وحفظ السلام وتقديم المساعدات الإنسانية، وهي مهام من الصعب تصور إنجازها في ظل تسلسل قيادي هرمي غير مرن، وهو ما يعني ضرورة تفويض عملية اتخاذ القرارات لمستويات القيادة الأدنى.

عن "مركز الإنذار المبكر"

الصفحة الرئيسية