أورهان باموق يرصد الزلزال: مشاهد قياميّة عن المرارة واليأس والتضامن

أورهان باموق يرصد الزلزال: مشاهد قياميّة عن المرارة واليأس والتضامن

أورهان باموق يرصد الزلزال: مشاهد قياميّة عن المرارة واليأس والتضامن


18/02/2023

ترجمة: محمد الدخاخني

 لا شكّ أنّ الصّبيّة ذات العيون الحزينة في العاشرة أو الثّانية عشرة تقريباً من عمرها، بالكاد تتحرّك وهي تحدّق في الهاتف ذي الكاميرا. وكلّما تحرّكت، تكون إيماءاتها بطيئة ومُتثاقلة. الرّجل الذي يصوّر الفيديو يعثر عليها ويصرخ ببهجة مندهشة: «هناك أحد هنا! هناك أحد هنا!».

لكن ما من أحد في الجوار، فقط ضوء رماديّ وصمت تساقط الثّلوج. إنّهما في مكان ما في جنوب شرق تركيا، في المنطقة التي دمّرها للتّوّ زلزالان بقوّة 7.8 و7.5 درجة.

يقترب الرّجل من الصّبيّة التي دُبِّس جسدها من الصّدر بقطعة خرسانية منهارة. من الواضح أنّهما لا يعرفان بعضهما البعض.

يسألها: «هل أنت عطشى؟».

تردّ الصّبيّة: «أشعر بالبرد. أخي هنا، أيضاً».

يسألها: «هل بمقدورك التّحرّك»؟.

تردّ الفتاة بضعف: «لا». حتّى مع تلاشي صوتها، تتمكّن، أخيراً، من أن تُسمَع. لكن ما من أمل في عينيها. مرّ نصف يوم منذ أن ضرب الزّلزال الأوّل المنطقة. كان ذلك في الرّابعة صباحاً. سيحلّ المساء قريباً، مرّة أخرى.

يسألها: «هل بمقدورك تحريك ساقيك؟».

تقول الفتاة بصوت رقيق يصعب فهمه: «صعب جدّاً». الآن، هناك تعبير جديد على وجهها، كأنّها تُخفي شيئاً ما، أو كأنّها مُحرَجة من مَثلَبة شخصيّة.

أشخاص ينتظرون أخبار أحبائهم، الذين يُعتقد أنهم محاصرون تحت المباني المنهارة في مقاطعة هاتاي بتركيا

الثّلج، الذي كان يتساقط بشكل متقطّع أثناء الليل وفي الصّباح، يُلقي ببطءٍ غطاءً على المعاناة التي سبّبها الزّلزال، وعلى القتلى والمحتضرين، وعلى أنقاض المنازل المكوّنة من طابقين إلى ثلاثة طوابق، والمباني المكوّنة من 15 إلى 16 طابقاً التي انهارت ليلاً خلال ثوان معدودات.

يمكننا الإحساس بأنّ الرّجل الذي يصوّر كلّ ذلك على هاتفه غير متيقّن ممّا يجب فعله. لا يمكنه، بمفرده، إخراج الفتاة من تلك الكومة الخرسانيّة الضّيّقة والثّقيلة بشكل مرعب. وهكذا، يطبق الصّمت على كليهما.

تبدأ عيون الصّبيّة في الشّرود؛ إرهاقها وألمها مكتوبان على وجهها.

يقول لها: «ابقِ هنا. سأذهب وأحضر إليك بعض العون. سنُخرِجك من هنا».

الأشخاص الذين فقدوا منازلهم، وعائلاتهم، وأحباءهم، وكلّ ما كان بحوزتهم، وجدوا أنّه ما من أحد يفعل أيّ شيء حيال الحرائق التي بدأت تندلع في مدنهم

لكن الرّجل يبدو غير متأكّد. من المرجّح أنّ هذا الحي، الذي دمّره الزّلزال، بعيد عن وسط المدينة. ولأنّ الشّوارع والجسور دُمّرت كلّها، تأخّرت المساعدات. ومن غير المحتمل أن تأتي في أيّ وقت قريب.

بعض أولئك الذين يعيشون هنا، والذين ربما نجحوا في النّجاة من منازلهم المتداعية إلى عتمة الليل الثّلجيّ، لا بُدّ أنّهم ذهبوا إلى مكان آخر بحثاً عن ملجأ من البرد. لكن من المحتمل أنّه باستثناء الصّبيّة وشقيقها، لم ينج أحد من عائلتها، وبالتّالي ما من أحد يبحث عنها.

بعد لأي، تقول الطّفلة المحاصرة: «لا تذهب».

يقول الرّجل: «يجب أن أذهب، لكنّني سأعود! لن أنساك. سأذهب لإحضار المساعدة».

يمكننا أن نقول إنّ الصّبيّة، التي أمضت أكثر من نصف يوم محاصرة هنا بمفردها، تستعدّ بالفعل للموت وليس لديها القوّة المتبقية للاعتراض.

ومع ذلك، قالت مرّة أخرى، بصوت خافت أشبه بالهمس: «لا تذهب!».

قال الرّجل: «سأذهب وأحضر إليك بعض العون!». وعلى الرّغم من ارتفاع صوته هذه المرّة، لا يمكننا تصديقه تماماً.

هنا ينتهي الفيديو المسجّل على هاتفه. لا نعرف ما إذا كان قد استطاع استجلاب العون. يُعدّ هذا الفيديو واحداً من مئات المناشدات اليائسة وروايات الشّخص الأول التي شاهدتُّها في ذلك اليوم الأوّل، الذي التصقت خلاله بشاشتي لساعات. مثل كثيرين آخرين، نشر الرّجل الذي صوّر الصّبيّة المحاصرة الفيديو على تويتر بشكل مباشر ومن دون تعليق.

أنتظرُ مقطع فيديو آخر يُظهر إنقاذ الصّبيّة المحاصرة، لكنّه لم يأت.

ذهبت إلى يالوفا، إحدى البلدات التي دُمّرت. تجوّلت لساعات بين الأنقاض الخرسانيّة، وقد ملأني الذّنب والشّعور بالمسؤوليّة، واعتقاد بأنّني قد أساعد على الأقلّ في إزالة بعض الرّكام

الحصول على المساعدة ليس سهلاً كما ظنّ الرّجل صاحب الهاتف المحمول. بحسب المعطيات الصّادرة عن الدّولة، تضرّر أو دُمّر قرابة  7,000 مبنى في المنطقة. ضرب الزّلزال سوريا، أيضاً. ومثلما أنّ العدد الحقيقيّ للضّحايا ربما يكون أعلى بكثير ممّا يُبلَغ عنه، فمن المرجّح، أيضاً، أن يكون العدد الفعلي للمباني المنهارة أكبر بكثير. ومع إغلاق الطّرق وعدم عمل الهواتف المحمولة بشكل ملائم بسبب انقطاع التّيار الكهربائيّ وازدحام الشّبكات، هناك القليل من المعلومات على الإطلاق حول ما يحدث في المدن الإقليميّة الأصغر. نرى على تويتر وعلى وسائل التّواصل الاجتماعيّ الأخرى منشورات تشير إلى أنّ بعض القرى دمّرت بالكامل. لكن هل هذا صحيح؟

يُعدّ هذا أكبر زلزال يضرب تركيا منذ أكثر من 80 عاماً. وهو رابع زلزال كبير أمرّ به، عن قرب أو عن بُعد، منذ أن كنت طفلاً. بعد زلزال مرمرة عام 1999، الذي أودى بحياة أكثر من 17,000 شخص، ذهبت إلى يالوفا، إحدى البلدات التي دمّرتها تلك الكارثة. تجوّلت لساعات بين الأنقاض الخرسانيّة، وقد ملأني الذّنب والشّعور بالمسؤوليّة، واعتقاد بأنّني قد أساعد على الأقلّ في إزالة بعض الرّكام. لكنّي عدتّ إلى بيتي من دون أن أكون قادراً على مساعدة أيّ شخص على الإطلاق. المشهد المذهل لذلك اليوم ظلّ معي، إلى جانب الإحباط والحزن اللذين أردتّ نسيانهما لكنّني لم أتمكّن من ذلك قطّ.

يُعدّ هذا أكبر زلزال يضرب تركيا منذ أكثر من 80 عاماً

الآن، هذه الصّور تُزاحمها صور جديدة، ولكن مألوفة للغاية. والشّعور بالعجز يسحق.

مع تضرّر المطارات وتعذّر السّير على الطّرق، استغرق الأمر حتّى وسائل الإعلام الضّخمة ساعات للوصول إلى العديد من المدن الكبرى، التي حوّلها الزّلزال إلى مشاهِد من الجحيم. بعد نصف يوم من الكارثة، وصلوا إلى تلك الشّوارع الثّلجيّة، والممطرة، والعاصفة ليجدوا أنفسهم في مواجهة ملايين الأشخاص الذين ينتظرون المساعدة بغضب. وبحسب الأرقام الصّادرة عن الدّولة التّركيّة، تضرّر 13.5 مليون شخص في المنطقة من الزّلزال. ووفقاً لمنظّمة الصّحّة العالميّة، قد يتأثّر ما يصل إلى 23 مليوناً في تركيا وسوريا.

وصلت الكارثة إلى أبعاد مروّعة حقّاً، عندما - بعد تسع ساعات من وقوع أوّل زلزال بقوة 7.8 درجة في منتصف الليل - وقع زلزال آخر بقوّة 7.5 درجة. هذا الزّلزال الثّاني، الذي كان مركزه على بعد حوالي 60 ميلاً من الزّلزال الأوّل، أجبر الملايين من النّاس، الذين كانوا قد دُفعوا إلى الخارج بسبب توابع الزّلزال الأوّل، على حضور مشاهد رعب جَلِي. كانت الحشود تتجوّل في الشّوارع بحثاً عن المساعدة أو الطّعام، وتُغربل بأيديها العارية، لبِنة لبِنة، بين أنقاض الكُتَل متعدّدة الطّوابق التي تحوّلت إلى أنقاض، أو تبحث عن مكان دافئ ومغطّى تلجأ إليه. الآن، بدأوا في تصوير الدّمار على هواتفهم، وهم يصرخون «يا الله، يا الله»، وفي غضون ثوان، انهار مبنى بعد آخر مثل بيت من ورق، ولم يتبق في أعقاب ذلك سوى جبال الغبار.

نشر العديد من الأشخاص صور الرّعب المروّعة هذه على وسائل التواصل الاجتماعيّ من دون أي تعليق، أو وصف، أو حتّى بضع كلمات مرافقة. وبذلك، كانوا يرسلون رسالتين. الأولى هي الشّيء الجَلِي في صدمتهم: ذهبت إلى يالوفا، إحدى البلدات التي دمّرتها تلك الكارثة. تجوّلت لساعات بين الأنقاض الخرسانيّة، وقد ملأني الذّنب والشّعور بالمسؤوليّة، واعتقاد بأنّني قد أساعد على الأقلّ في إزالة بعض الرّكام. والثّانية هي الشّعور بالهجر واليأس الذي انتاب البلد بأسره، والمروّع بقدر الزلزال نفسه.

هذه المشاهد القياميّة أظهرت روحاً مؤثّرة من التّضامن والمساعدة المتبادلة، وأثارت غريزة الناس للمشاركة، وجمع الشّهود، وترك بصمة، وإسماع أصواتهم. في وسط كلّ مدينة رئيسة مليئ بالرّكام، بدا أنّ أيّ شخص في متناوله ميكروفون صحافيّ يصرخ: «صوّر هنا، صوّر هنا، نحتاج إلى المساعدة، نحتاج إلى الطّعام، أين الحكومة، أين فرق الإنقاذ؟».

أُرسِلت المساعدات، لكن الشّاحنات المحمّلة بالإمدادات عَلِقت لساعات على طرق مزدحمة على بعد مئات الأميال من المناطق المتضرّرة. الأشخاص الذين فقدوا منازلهم، وعائلاتهم، وأحباءهم، وكلّ ما كان بحوزتهم، وجدوا أنّه ما من أحد يفعل أيّ شيء حيال الحرائق التي بدأت تندلع في مدنهم. ولذلك، أغلقوا طريق أيّ سيّارة رسميّة، أو شُرطيّ، أو موظّف حكوميّ يمكنهم العثور عليه، وشرعوا في الاحتجاج. لم يسبق لي أن رأيت شعبنا بهذا القدر من الغضب.

بالنّسبة إلى كثير من النّاس، فإنّ المساعدات قليلة جدّاً ومتأخّرة جدّاً

مع اقتراب حلول مساء اليوم الثّاني، تتلاشى الأصوات القادمة من أكوام الرّكام والخرسانة، ويبدأ النّاس في الشّوارع في التّعوّد على الرّعب. تبدأ الحشود في التّجمّع أمام الشّاحنات التي توزّع الخبز والطّعام. لكن الغضب، والمرارة، والإحساس اليائس بأنّهم أُخذوا على غفلة يظلّ غير متضائل.

في اليوم التّالي، علمت من منشورات على وسائل التّواصل الاجتماعيّ أنّ هناك أطباء أخذوا على عاتقهم السّفر لمسافات طويلة لتقديم المساعدة في بعض المدن الكبرى التي دمّرها الزّلزال، ولكن يبدو أنّه لا توجد سلطة، ولا مسؤول، لتوجيه جهودهم عند الوصول. وممّا أثار الاستياء الفَزِع للنّاس أنّه حتّى بعض المستشفيات العامّة انهارت.

بعد يومين، وصلت بعض المساعدة إلى مراكز المدن الرّئيسة. لكن بالنّسبة إلى كثير من النّاس، فإنّ المساعدات قليلة جدّاً ومتأخّرة جدّاً.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

أورهان باموق، ذي نيويورك تايمز، 11 شباط (فبراير) 2022



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية