ابن تيمية: شيخ الإسلام المتنازع عليه

ابن تيمية: شيخ الإسلام المتنازع عليه

ابن تيمية: شيخ الإسلام المتنازع عليه


25/02/2024

لا يزال ابن تيمية مثيراً للجدل حتى يومنا هذا، فهو ليس مجرد رجلٍ ولد في القرن السابع الهجري ومن ثم اندثرت سيرته أو خفّ أثره؛ بل إنّ أفكاره التي انطلقت من قاعدته الجدلية المشهورة "العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح" تبقى حتى الآن مؤثرة في تياراتٍ إسلامية عديدة.

يرى ابن تيمية أنّ "كفار اليهود والنصارى" أشرف علماً وعملاً من الفلاسفة

كما لا يخفى تأثيره على بعض التيارات السلفية والجهادية المتشدّدة في العصر الحديث؛ حيث يتم انتزاع أفكاره من كتبه، واستخدامها أسلحةً في أحيانٍ كثيرة، لتبرير بعض أعمال العنف والتكفير، بينما يعده البعض أكثر من أخذ من الفلاسفة والمتكلمين ليردّ عليهم، بصفته ممثلاً لـ "أهل السنة والجماعة" في عصره، رغم أنه تحوّل إلى رمزٍ للتكفير في بعض الأحيان، مثلما حصل العام 2015 حين قام تنظيم داعش الإرهابي باستخدام بعض فتاواه لتبرير أعمال القتل التي يمارسها.
وهو ما ولد ردة فعلٍ شديدة، وصلت حد الدعوة إلى منع كتبه في الأردن مثلاً، خصوصاً بعد حادثة قتل الطيار الأردني "معاذ الكساسبة"؛ حيث برر التنظيم حرق الطيار بفتوى لابن تيمية.

كتاب "مجموعة الفتاوى" لابن تيمية

عصر الاضطراب

لم يترك أحمد ابن تيمية (1263م – 1328م)  أياً من فلاسفة عصره ومن سبقوهم يرقد بسلام، فهو يقول في كتابه "مجموع الفتاوى"، إنّ "كفار اليهود والنصارى أشرف علماً وعملاً من الفلاسفة" فيما يبدو أنه خطابٌ مضادّ لليهود والنصارى كذلك، فابن تيمية هنا يقيس الأسوأ بالسيئ، بحسب رأيه، ثم يعود في كتابه "الصفدية" مبدياً رأيه في الفلاسفة "هؤلاء أفسدوا على الناس عقولهم وأديانهم، وهم يكثرون ويظهرون فيما يناسبهم من الدول الجاهلية كدولة القرامطة ودولة التتر...".

تكشف كتابات ابن تيمية نبذه لحرية الرأي والتفكير من خلال قوله بأن المكره على الدين يجب أن يؤمن

أما في كتابه "الرد على المنطقيين"، يهاجم ابن تيمية إخوان الصفا، كما يهاجم الكندي، وابن سينا، وابن رشد، مختصراً جهودهم العلمية والفكرية كلها بالقول إنه "يوجد فلاسفة منتسبون للإسلام، ولكن ليس للإسلام فلاسفة".
لكن الباحث، ريتشارد دي تشيلفان، يرى أنّ "ابن تيمية وُجد في عصر كانت المذاهب السلفية فيه تتشبث بتطبيقاتٍ معينة للدين، بينما توجد تعاليم صوفية كانت منتشرة، تتبنى تطبيقاتٍ مختلفة، مما أحدث خلافات وتفككاً في المجتمع الإسلامي". وبهذا، يبرر تشيلفان في كتابه "ما الذي يربط دمشق بباريس"، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر العام 2014، أنّ ابن تيمية بنى آراءه من خلال هذا التفكك في المجتمع الإسلامي، محيلاً كل أفكاره إلى "ضرورة تطبيق تعاليم القرآن والسنة من أجل عودة مجد الأمة الإسلامية".

يهاجم ابن تيمية في "الرد على المنطقيين" إخوان الصفا و الكندي وابن سينا وابن رشد

وهكذا، أصبح ابن تيمية "ممثلاً للتيار السني في الإسلام"، غير أنّ تشيلفان يلاحظ أن "شيخ الإسلام" كان على خلافٍ مع باحثي وفقهاء عصره بسبب رفضه "التشدّد في مذاهبهم"، فكان على خلافٍ مع المتصوفة؛ لأنّهم برأيه يلجؤون للخرافات، ولا يستندون على المرجع الأساسي والوحيد، وهو القرآن.
أما الأشاعرة، فقام ابن تيمية بإنصافهم واعتبارهم أقرب المذاهب إلى أهل السنة والجماعة، وليسوا "مثل أهل البدع كالمعتزلة والرافضة".

يرى المدافعون عنه أنّ منهجه لم يكفر الناس جزافاً وأسس منهجاً تطهيرياً لإحياء الإسلام

ويذكر الباحث أيضاً، أنّ ابن تيمية كان صاحب نهجٍ إصلاحي خاص، فقد تحدّى مزاعم هيمنة المنطق على العقل في فهم الوحي الإلهي وتعاليم الدين، ورأى أنّ "الوحي الإلهي هو صاحب السيادة على المنطق والعقل؛ حيث إنّ الإيمان غالباً ما يصاحبه الاعتدال والمنطق بخلاف منطق أرسطو".
لكن نهج ابن تيمية الإصلاحي هذا، جعله يعتبر الفلاسفة المسلمين المتبنين لفلسفات أرسطو مصدراً "للزندقة"، على حد تعبيره.
إن أبرز ما فعله ابن تيمية، كان اختياره لمذهب أهل السنة والجماعة، بوصفه أكثر مذهب معتدلٍ في ذلك الحين، من أجل أن يطبق برنامجه الإصلاحي هذا، وحتى يقوم بإحياء الدين وتطهيره في الوقت ذاته، غير أنّ توظيف أفكار ابن تيمية لاحقاً، والاجتزاء من أفكاره بعد قرونٍ على وفاته، أسهم ربما في تغيير رؤيته أو أهدافه، دون الجزم بهذا الرأي؛ لأنّ هناك من هاجمه من معاصريه.

يبرر تشيلفان في "ما الذي يربط دمشق بباريس" أنّ ابن تيمية بنى آراءه من خلال تفكك المجتمع الإسلامي

وحول ما يمكن تسميته بنهج ابن تيمية التطهيري، يقول "الحافظ تقي الدين السبكي" في كتابه "الدرة المضية في الرد على ابن تيمية":
"أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام والأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنة، مظهراً أنه داعٍ إلى الحق هادٍ إلى الجنة، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع".

ارتبط إرثه بالجماعاتٍ التكفيرية بينما لم يُستفد من الوجه الآخر الذي يُنسب إليه بالقدر ذاته

ويضيف السبكي، الذي عاصر ابن تيمية، وكان فقيهاً وأديباً وناقداً في عصره؛ أنّ ابن تيمية "جاء ببدع لم تأت بها أي من الملل ولا النحل ولا الطوائف الإسلامية"، لكن محاكمة ابن تيمية شخصاً وفقيهاً بعد مئات الأعوام على وفاته، تبدو عمليةً صعبة، خصوصاً أن معاصريه اتهموه  "بالزندقة والإفساد"، وهي تهمة كانت شائعة في زمنه، حتى إنّه سجن واستتيب أكثر من مرة، إلى أن توفي في سجنه بقلعة دمشق.

اقرأ أيضاً: "داعش"يقتل الآباء والأقربين..هل المسؤول ابن تيمية؟

وتكشف قراءة أفكار ابن تيمية في سياق عصره، عن وجوده في فترةٍ بدأ بريق الأمة الإسلامية فيه يخفت بعد سقوط دولة الخلافة وتتابع هجمات المغول، وعلى الصعيد الفكري من جهةٍ أخرى في ظل حروبٍ متتالية، مما أحال أفكار ابن تيمية إلى ردة فعل عاطفية إن صح التعبير، فهو يهاجم في كتبه العديدين، شيعةً وعلويين وإسماعيليين وغيرهم.

استخدم "داعش" بعض فتاوى ابن تيمية لتبرير القتل

ربما يعود اتهام ابن تيمية بتهم منها الزندقة، إلى احترامه جهود الفلاسفة قبل أرسطو؛ فبالعودة إلى كتابه "الرد على المنطقيين"، يتحدث ابن تيمية قائلاً "الصابئة ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين، أما قدماء الفلاسفة فكانوا يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم".
وفي كتابه "الحكمة المصلوبة"، يرى الباحث السعودي سعود السرحان، أنّ ابن تيمية "مجّد الفلاسفة القدماء من قبلِ أرسطو، حتى يتمكن ربما من نقض شروحات علماء المسلمين وترجماتهم لفلسفات أرسطو ومن بعده".
ومن المشهور عن ابن تيمية، أنّ السهروردي المقتول لم يسلم من انتقاداته؛ إذ يصفه في كتابه بغية المرتاد أنه صابئي أخذ عن الروم والمجوس، كما يتهمه بـ "أنّه لم يأخذ من النبوة إلا ما يناسبه، بل وأنه اتّجه للتألّه".

اقرأ أيضاً: 10 محطات في حياة ابن سينا الذي كفّره الغزالي
أما الصوفيون، فقد كفّر ابن تيمية في كتابه ذاته بعض مفكريهم ومتفلسفيهم، جاعلاً إياهم "غير مؤمنين بالله، ولا برسله، ولا باليوم الآخِر"، ثم يشكّك كذلك بمحيي الدين ابن عربي واصفاً إياه أنه "مضطرب الرأي واسع الخيال يؤمن بالحق تارةً وبالباطل تارةً، وأنّ الله وحده أعلم بما مات عليه".
وربما لم يسلم أحدٌ من نهج ابن تيمية التطهيري، وهو ما يوضحه الباحث رائد السمهوري، في كتابه "نقد الخطاب السلفي، ابن تيمية نموذجاً". حيث يطرح السمهوري مجموعة من أفكار وآراء ابن تيمية في رسالة الإسلام، ويخلص إلى أنه يعرف الكافر على أنه "ذلك الذي لم يؤمن، سواء وصلته رسالة الإسلام أم لم تصله، وسواء كان مكذباً لها أم غير مكذب، أو شاكاً أو أو متردداً أو معرضاً"، وجميع هؤلاء، تطبق عليهم أحكام الكافر في الدنيا وفي الآخرة".
ويشير السمهوري إلى مدى تصلب بعض أفكار ابن تيمية الذي يقول إنّه تجب محاربة الكافر في حياته وأمواله وما إلى ذلك، كما يؤكد ابن تيمية نفسه "غير المؤمن تجب محاربته وإن أحسنَ إليك كما تجب إهانة مقدساته".

هاجم ابن تيمية كل من مارس التفكير الحر الذي لا سلف أو نص يستند إليه

النقل بلا عقل

يجب على العقل أن يكون صريحاً؛ أي واضحاً في قبوله النقل، ولا يصح العقل إلا إذا وافق ما نُقل عن السلف. وفي هذا الإطار، يقوم ابن تيمية بمهاجمة كل من تسوّل له نفسه "ممارسة التفكير الحر"، الذي لا سلف يستند إليه، ولا نصَّ مقدساً يعتمد عليه فلا يتجاوز شريعته وتعاليمه، بل ويعمل ابن تيمية مباشرةً بخلاف ما تقول به الآية القرآنية "لا إكراه في الدين"؛ حيث يرى أنّه لا يحق لأحد التحلل من الدين حتى لو كان مكرهاً عليه.
أيضاً، يشير السمهوري في كتابه ذاته، إلى مقولة ابن تيمية: "كل من يعتقد بأنه حرٌ فيما يؤمن به أو يدين به، هو كافر، إذ لا يجوز للأديان أن تكون فكراً، فهي وحيٌ من الله".

 


إنّ كل ما ذُكر عن ابن تيمية، من أفكاره التطهيرية وربما التكفيرية، واتهاماته لمعظم من جاء في عصره من طوائف ودياناتٍ ومفكرين وغيرهم، يتناقض مع رأي المدافعين عنه، بأنّه داعية لالتزام "صف الجماعة من المسلمين وعدم التفرقة أو شق الصفوف"، ويعتمد المدافعون على بعض نصوصه في كتاب "مجموع الفتاوى"؛ إذ يدعو ابن تيمية إلى "اتباع أهل السنة والجماعة، المقتفين لأثر الرسول وأصحابه". ولا يكفر ابن تيمية الطوائف كالخوارج والأشاعرة مثلما يرى بعض مناصري أفكاره.

 

اقرأ أيضاً: إذا كان التطرف ينام بين جنبات التراث فمن يوقظه؟!
كما أنّ ابن تيمية دعا، إضافة إلى هذا الإجماع، إلى تعظيم دور العلماء في الشورى مع أولي الأمر من المسلمين، لكنّه من ناحيةٍ أخرى، وكما تقدم، بقي في خندقه وحيداً، بعد أن ملأ الخندق المقابل ضده بالمهرطقين على اختلاف مذاهيهم ودياناتهم وأعراقهم، إلا أنّ استرداد ابن تيمية اليوم، على أنه صاحب منهجٍ واضح لا يأخذ التكفير جزافاً، وأنّ له آراء في العلم والفكر، وأنّه حورب وسجن، تعني ربما إفراغه من مضمونه، ذلك أنّ استرداده ظلّ متعلقاً خلال القرن العشرين بجماعاتٍ متشدة وتياراتٍ بعضها تكفيري، بينما لم يتم الاستفادة من الوجه الآخر الذي يُنسب إليه بالقدر ذاته.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية