استعصاء الاستقرار في الشرق الأوسط: مقاربة تطبيقية لنظرية "استقرار الهيمنة"

استعصاء الاستقرار في الشرق الأوسط: مقاربة تطبيقية لنظرية "استقرار الهيمنة"


02/02/2022

محمد الزغول

يمكن لمصطلح "القوة الإقليمية"، بوصفهِ مفهوماً تحليلياً، أن يكون نقطة بداية وانطلاق في رسم وتشكيل خريطة البُنية الدّاخلية للأقاليم، وطبيعة التفاعلات الحاصلة فيها. وهناك أسباب وجيهة للاحتفاظ بمفهوم "الهيمنة الإقليمية" في تحليلاتنا المعاصرة للعلاقات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط في ظل حالة التنافس والصراع المشتعلة في الإقليم بين القوى الساعية للوصول إلى شكل من أشكال الهيمنة.

ويُجادل العديدُ من النظريات المعرفية حول العلوم السياسية، والعلاقات الدولية بأن الطبيعة الأساسية للنظام الدولي هي الفوضى؛ حيث يحصل الجميع على ما يمكنهم الحصول عليه، لا ما ينبغي لهم الحصول عليه. ولعلّ النظام الإقليمي في منطقتنا يعدُّ مثالاً بارزاً على شيوع هذه الفوضى، والتي تزايد الشعور بها في المنطقة بعد أحداث الربيع العربي.

وتُخبرنا نظرية "استقرار الهيمنة"[1] (Hegemonic Stability Theory) المُتجذِّرة في بحوث حقول العلوم السياسية، والاقتصاد، والتاريخ، بأن النظام الدولي يميل إلى الاستقرار عندما تصبح دولة ما، هي القوة العالمية المسيطرة، أو المهيمنة، وأنه يميل إلى الاضطراب عندما تعجز أيٌّ من القوى الموجودة في النظام عن فرض مثل هذه الهيمنة. ويُقصَد بالهيمنة هنا، أن تتمكن الدولة المُهيمِنة من مُمَارسة القيادة، سواءً من خلال الدبلوماسية، أو الإكراه، أو الإقناع؛ بحيث تستعرض بشكل حقيقي رجحان قوتها. ويتطلب ذلك السيطرة بشكل فردي على القواعد، والاتفاقيات المُتعلِّقة بالعلاقات السياسية والاقتصادية الدولية.

ولعلّ من أبرز شروط الهيمنة التي تُجمِع عليها مختلفُ المدارس الفكرية في العلاقات الدولية، ضرورة امتلاك الدولة الراغبة بالصعود إلى مستوى القوة المُهيمِنة، صفاتٍ مُعيّنةً تؤهلها لهذا الدور، من بينها أن تمتلك قوة سياسية، وقوة عسكرية، وسلطة وطنية مُتفوِّقة. وتُعدُّ القوة السياسية مُهمةً من ناحية قدرتها على صياغة القوانين، وتشكيل، وقيادة منظمات إقليمية جديدة. وهما ميزتان ضروريّتان يمنحان الدولة المهيمنة صفةَ القدرة على تطبيق قواعد النظام.

أما فيما يتعلق بمعايير القوة العسكرية، فلا يُعدُّ الجيش المدافع الصّامد كافياً لينقل الدولة إلى مُستوى القوة المُهيمنة. بل يجب أن تمتلك الدولة أيضاً، قوةً بحريةً، أو قوة جوية متفوقة، وقدرة فائقة على الانتشار، ونقل القوات، والوصول إلى مواقع الصراع. وهذا يُفسر لماذا تموضعت القوى المهيمنة جغرافياً على الجزر، وأشباه الجزر؛ حيثُ يوفر المسقط الجزيري وشبه الجزيري أمناً إضافياً. وبطبيعة الحال، تكون القوة البحرية فيه موضع اهتمام كبير؛ ما يوفر القدرة على إيصال القوات العسكرية. وتُعدُّ الهيمنة البريطانية طوال القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر مثالاً بارزاً على أهمية المسقط الجزيري، والقوة البحرية.

ويُشترط في الدولة الراغبة بالصعود إلى مستوى القوة الإقليمية المُهيمِنة، أن تملك اقتصاداً كبيراً ونامياً. وفي هذا الإطار، تُعدُّ السيطرة على قطاع اقتصادي معين، أو قطاع تكنولوجي، مُهمّةً جدّاً، وفارقة[2]. ويجب على الدولة المُهيمِنة أن تمتلك الإرادة للقيادة، والنيّة لإنشاء نظام مُهيمِن مُحدَّد المعالم، بالإضافة إلى القدرة على قيادةِ، وتطبيقِ قواعد النظام. لكنّ هذا بالطبع لن يكون وحده كافياً، ما لم تتوافر الشروط السابقة الأكثر أهميةً. وعلى سبيل المثال، بعد الحرب العالمية الأولى، امتلكت بريطانيا العظمى النيّة للقيادة، لكنّها افتقرت إلى القدرات الضرورية لتحقيق ذلك، فعجزت عن فرض الاستقرار على النظام العالمي، ولم تتمكن من فعل الكثير لمنع حدوث الكساد العظيم، أو الحرب العالمية الثانية. وأخيراً، يجب أن تلتزم القوة المُهيمِنة بالنظام، والذي يجب أن يكون محسوساً بصفته منفعةً متبادلة للقوى العظمى، والدول الفاعلة المهمة.

وعلى الرغم من وجود تفسيراتٍ وأبعادٍ مُتعدّدة للهيمنة الإقليمية، لكنّ ما يُجمِعُ عليه الدراسون، هو أن الهيمنة بالأساس، مصلحةٌ ذاتيةٌ للطرف المُهيمِن، ينجحُ في تلقينها أو إسقاطها في النطاق الإقليمي، عبرَ مزيجٍ من الحوافز المادية، والمعنوية، بتوازنٍ دقيقٍ بين الإكراه، والطواعية، وبين الممارسة المباشرة، وغير المباشرة للقوة؛ ما يقتضي بالضرورة تأمين، واحترام مستوىً مُعيّن من مصالح الدول الثانويّة، والضعيفة. وتتباينُ الهيمنةُ وفقاً لمستوى احترام وتأمين مصالح القوى الثانوية، بين هيمنةٍ أحاديّة، وهيمنةٍ تعاونية، كما تتباينُ وفقاً للاستخدام المباشر، وغير المباشر للقوة، بين هيمنةٍ صلبة، وهيمنةٍ مرنة.

عُقدة "الهيمنة الإمبراطورية" في الشرق الأوسط

تُساعد نظرية "استقرار الهيمنة" على تحليل صعود القوى العظمى، إلى دور قائد العالم، أو المُهيمن على العالم في النظام الدولي، لكنْ بالرغم من تبايُن الحالة، جرى استخدامُ مصطلح الهيمنة بشكلٍ متزايدٍ في النطاق الإقليمي، بغية الحصول على فهمٍ أفضلَ للتفاعُلات الإقليمية، والاستراتيجيات التي يمكن للقوى الإقليمية أن تتبعها في علاقاتها مع دول الجوار. وهو ما بات يُعرف في أوساط الباحثين بـ "أقلمة الهيمنة". ولعلّ من أهم الأسباب التي تجعل الدول الساعية للهيمنة الإقليمية تتصرفُ خلافاً لما هو متوقعٌ منها، هو أنّ مفهوم الهيمنة ليس صالحاً تماماً للنطاق الإقليمي، فهو بالأساس مُخصَّصٌ لتفسير التفاعلات هرميّة القوة على المستوى العالمي، لكنّ الحاجة إليه على المستوى الإقليمي كانت مُلحّةً بما يكفي لتبرير استعارته.

وافترض الباحثون الروّاد في هذا المجال مثل توماس بيدرسان أن القوى الإقليمية الكبرى، يمكنها اتّباع عدّة استراتيجيات للهيمنة، مثل: الهيمنة الانفرادية (Unilateral Hegemony)، والهيمنة التعاونية (Cooperative)، والإمبراطورية (Empire)، والتوافقية (Concert). ودافع بيدرسان بشكل خاص عن "الهيمنة التعاونية" باعتبارها شكلاً أكثر مرونةً، وأكثر استدامة للسيطرة الدّاعمة للاستقرار الذي يمكن التوصل إليه عبر مأْسَسة التعاون الإقليمي[3].

وتتطلب "الهيمنة التعاونية" وفقَ نظرية بيدرسان، أن تتوافر لدى القوّة الإقليمية الساعية للهيمنة القدرة على تجميع القوى (Power Aggregation) من خلال إقناع أكبر عددٍ ممكنٍ من دول الجوار بالانخراط في مشروع إقليمي مُشترك، كما تتطلب القدرة على الارتباط باستراتيجية طويلة الأجل لمأْسَسَة التعاون الإقليمي. ويتعين أيضاً على القوة الإقليمية الراغبة بتطبيق الهيمنة التعاونية، القيامَ بعملية تقاسم القوة (Power sharing) مع الدول الصغيرة والضعيفة في الإقليم، لضمان استمرار "شرعيّة" الطرف المهيمن، وألّا تتحول شرعيّةُ هذه القوة المُهيمنة، نتيجةَ الاستخدامِ المُفرِط للإكراه إلى "شرعية زائفة[4]".

ولعلّ أولُ ما يتبادر إلى الذهن عند محاولة تطبيق نظرية "الهيمنة التعاونية الإقليمية" على مستوى الشرق الأوسط، هو هذه الحالة المُفرطة من تدافع مشاريع "الهيمنة الإمبراطورية الجشعة (Empire Greedy Hegemony)" التي تعيشُها المنطقة؛ حيثُ يدعمُ تاريخُ المنطقة الطويل مثل هذ النزعة البدائية للتوسُّع، فلا تكادُ دولةٌ في الشرق الأوسط، تخلو من حُلمٍ إمبراطوريٍّ ما، أو تاريخٍ إمبراطوريٍّ تُريد إحياءه. وعلى الرغم من المزْيَة التي تُشكّلها الجغرافيا في هذه المنطقة من العالم، يُشكّل التاريخ من نواحي مُتعدّدة في الشرق الأوسط، عبئاً ثقيلاً يصعُب إزاحته، أو التعامل معه.

استعصاء "استقرار الهيمنة" في الشرق الأوسط

طوال العقد الماضي، أظهرت قوّتان على الأقل في منطقة الشرق الأوسط (إيران وتركيا) رغبةً في الهيمنة الإقليمية، وعارضت ثلاث قوى إقليمية (إسرائيل، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة) هذه الهيمنة. وكان لبعض القوى الإقليمية الأخرى (مصر، والعراق) محاولات سابقة لفرض الهيمنة، كُلّاً بحسب موقعة، وظروفه التاريخية. وقد أخفقت جميع هذه المحاولات تماماً، وأفضت إلى نتائج كارثية أحياناً. ومنذُ تفكُّك الإمبراطورية العثمانية، لم تنجح أيُّ قوة إقليمية في التحوّل إلى قوّة مُهيمِنة في الشرق الأوسط؛ ما أبقى حالةَ الصراع في المنطقة متواصلةً على مدار القرن الماضي.

وفي ظلّ تعدُّدية محاولات الهيمنة الإقليمية القائمة، تبرُز الحاجة إلى إطار منهجي لفهم مُحدّدات علاقات "التنافس التعاوني" والصّراع بين القوى الإقليمية. وأوّلُ هذه المُحدّدات، حقيقة أنّ "القوة المتفوّقة" في منطقة الشرق الأوسط ليست هي "القوة المُهيمنة" فيه، وربّما لا يمكنها أن تكون كذلك؛ إذْ بينما هناك إجماع في المنطقة على واقع تفوُّق القوّة الإسرائيلية، هناك إجماعٌ أيضاً على رفض الهيمنة الإسرائيلية. كما أن إسرائيل نفسها غير قادرة، أو ربما غير راغبة في فرض هذه الهيمنة، نتيجة مُحدّدات جغرافية، وديموغرافية، وثقافية عديدة، تحولُ دون قيام إسرائيل بهذا الدور في المنطقة. وهكذا، تبدو إسرائيل قوة مُعطِّلة (Blocking Power) في المنطقة؛ فهي قوةٌ غير قادرةٍ على الهيمنة، لكنها قادرةٌ -حتى الآن- على منع هيمنة طرف آخر في المنطقة.

وفي ذات الوقت، هناك إرادة أمريكية صلبة، وبموافقة ضمنية من القوى الدولية الكبرى في النظام العالمي الأوسع، على حِفْظ هذا التفوُّق الإسرائيلي في الإقليم. وأيُّ طرفٍ إقليميّ يسعى إلى تغيير هذا الوضع، سيحتاجُ إلى كَسْر هذا الإجماع أولاً. وهو ما لم يتحقّق حتى الآن، ولا توجد مؤشرات على إمكانية تحقُّقه في المدى القريب. ولعلّ هذا أحد الأسباب التي تجعل مشروعَيْ الهيمنة الإيراني والتركي بلا أفق، علاوةً على أنّ المشروعين هما أساساً انعكاس لأزمة داخليّة (أزمة هويّة، وأزمة نموذج)؛ فالرّغبة الإيرانية والتركية في التوّسع والنفوذ على مستوى الإقليم، ليست ناتجة عن فائض قوة اقتصادية وعسكرية لم يعُد الداخل الإيراني أو التركي يتّسع لها، بل ناتجة عن مُدرَكات صُنّاع القرار في الدولتين تجاه وجود هشاشة في المحيط الإقليمي، خاصة العربي، تسمحُ لهما بالتوسُّع، وتحقيق مكاسبهما دون كُلفة مرتفعة، أو تتطلّب منهما التدخُّل لحماية مصالحهما من تدخلات قوى أخرى في المنطقة الهشّة، على الرغم من استمرار أو تفاقُم نقاط الضعف الداخليّة في كل منهما.

لكنّ "استقرار الهيمنة الإقليمية" يتطلّب أكثر من الطّموح السياسي، أو استغلال وجود الفراغ في النطاق الإقليمي، ومحاولة مَلْئه. بل إنّه يتطلب أكثر حتّى من القدرات، أو الإمكانات. وليس من السهل على أيّ دولة الاحتفاظ بمكانة الهيمنة الإقليميّة، حتى بعد تحقُّق الوصول إليها؛ إذ تبقى عبارة عن وضع أو مكانة (Position) غير مستقرة، بسبب كثرة عوامل التحوّل من وضعية المُهيمِن، إلى إحدى الوضعيّات المُغايرة. وبحسب "مريام برايز[5]" الرائدة في مجال تفكيك أبعاد مفهوم الهيمنة الإقليمية؛ فالهيمنة عملية تدفُّق للتفوّق النّسبي في القوة المادية إلى المصطلحات الاقتصادية والعسكرية في النظام الإقليمي، تتم عبر ثلاثة أبعاد: التصوُّر (Perception)، والإسقاط (Projection)، والتوفير (Provision).

ويتضمّن بُعد التصوُّر، إدراك المُهيمِن لذاته، وإدراك القوى الثانوية في الإقليم عنه. وهنا تبدو الإرادة السياسية الصريحة للهيمنة مُهمّة؛ حيث يُفترَض أن تتمظهر في إبداء استعداد، وقدرة الدولة لتحمّل أعباء الهيمنة والقيادة. ويمكنُ القول إنّ إيران هي الدولة الوحيدة في الإقليم التي أبدت مثل هذه الرغبة الصريحة، لكنّها لأسباب أيديولوجية وثقافية، حصَرت طموحها السياسي للقيادة والهيمنة، في نطاق ديموغرافي مُحدّد، ولعلّ ذلك ناتج بالأساس عن مفهوم النظام الإيراني المغلق للهوية.

أما مستوى الإسقاط؛ فيتضمن عمليّة تلقين، وإسقاط القيم والمصالح، بدلاً من فرضها. وهي عمليّة تُشبه التربية (Socialization) يقوم بها الطرف المُهيمِن، لجعل القوى الثانوية في الإقليم تتقبّل قيمَ ومعاييرَ المُهيمِن على أنها الصّواب الذي ينبغي فعلُه. ويتطلّب القيام بهذه العملية زمناً طويلاً، وجهداً سياسياً، وثقافياً واسعَ النطاق. وقد أظهر السلوك الإيراني في العراق، ولبنان، وبدرجة أقلّ في سوريا واليمن، شيئاً من محاولات الإسقاط هذه، لكنّها لم تُحقق مستوىً متقدماً بعدُ. كما أظهر السلوك التركي مثل هذه المساعي للإسقاط، لكنْ بدرجة أقلّ من إيران.

ولعلّ البُعد الأكثر دقّةً ووضوحاً في التعبير عن مفهوم الهيمنة، وفي نفس الوقت الأكثر قدرةً على تمييزه عن الأشكال الأخرى من العلاقات الدولية، هو البُعد المتعلق بالتوفير، والذي يتضمّن ضرورة قيام الطرف المُهيمن بتوفير الحاجات العامّة، والمنافع، للقوى الثانوية والضعيفة في الإقليم؛ مثل إنشاء المؤسسات القادرة على تكريس الهوية الإقليمية، وتأسيس وقيادة نظام تعاوني للأمن الإقليمي، وإنشاء أنظمة إقليمية للتجارة الحرة، والتعاون في قضايا البيئة، والصحة، والتعليم، والثقافة، وتوفير حدّ أدنى من التضامن الإقليمي في القضايا المطروحة في النطاق الدولي الأوسع؛ ما يجعل عملية الهيمنة مرتبطةً بالإنتاجيّة إلى جانب الفاعليّة. ولا يُظهِر أيٌّ من مشاريع ومحاولات الهيمنة الإقليمية اهتماماً كافياً بهذا البُعد المتعلق بالتوفير؛ ما يُعيق استقرار الهيمنة[6].

استعصاء الهيمنة التركية

يرى البعضُ في سلوك تركيّا مؤشِّراً على رغبةٍ في الهيمنة الإقليميّة، من خلال السّيطرة على الدول المجاورة، واستغلال ضعف هذه الدول. وتَظهر تركيّا في المنطقة بوصفها دولةً براغماتيّةً، تسعى لمُزواجة قدرٍ كبير من التناقضات. وجاء تنامي الدور التركي في الشرق الأوسط بعد إخفاق تركيّا في دخول الاتّحاد الأوروبي، ووصول الأحزاب الإسلاميّة التركيّة إلى مواقع متقدمة في الحكم. ولطالما اتُهِمَت الحكومة التركيّة بالسعي لإقامة "عثمانية جديدة"، وإعادة السيطرة على المنطقة، لكنَّ "حزب العدالة والتنمية" ظل يرفض المبالغة في طرح هذا السيناريو، وإن كان لم يُنكِره تماماً؛ حيث رأى بعض قادة الحزب، أن إشارتهم إلى الإرث العثماني إنما تأتي لتشكيل هويّة وطنيّة شاملة، وتَعدُّديّة داخل تركيّا، وبما يُمكِّن تركيّا من وضع نفسها ضمن أوروبا والعالم الإسلامي في وقت واحد. وحسب هذه الرؤية، يمكن فهم السياسة الخارجية لـ "حزب العدالة والتنمية" على أنها رؤيةٌ للبحث عن عمقٍ استراتيجي، وليس على أنها "عثمانية جديدة" بمعنى مشروع جيوسياسي قائم على بَسْط الهيمنة، وفرض النفوذ بدعاوى زعامة العالم الإسلامي السُّني[7].

وحسب رؤية "العدالة والتنمية" فإن أنقرة تدرك حقيقة أن أكثر من 25 دولة قد قامت في المناطق التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية. لكنْ من وجهة نظر دول المنطقة العربية، يُمثّل دعم رئيس الوزراء، ثم الرئيس التركي وحزبه لـ "الإخوان المسلمين" في مصر مؤشراً على وجود حلم لديهم باستعادة الإرث العثماني بالمفهوم الجيوسياسي؛ حيث يرى قادة "العدالة والتنمية" في دعوة الخلافة التي يطرحها "الإخوان المسلمين" جسراً لاستعادة زعامتهم للمنطقة، عبر طرح فكرة "الهلال الإخواني" في مقابل "الهلال الشيعي". واصطدمت الطموحات التركيّة بموقف عربي رافض، برز من خلال التحدي السعودي والإماراتي الذي أسهم في تحجيمها، لكنّه في نفس الوقت أدّى إلى تقريب المسافة بين أنقرة وطهران، قبل أن تقود عوامل جيو-سياسية، وجيو-اقتصادية ناشئة إلى إعادة مقطورة العلاقات الخليجية-التركية إلى مسارها التقليديّ. ومن المُتوقع أن يُحدِّد عاملا الاقتصاد والطّاقة طبيعة التوجه التُّركي نحو منطقة الخليج في العقدين المقبلين.

وخلاصة القول، من المُرجَّح أن "الإردوغانية" لديها رغبةٌ بالهيمنة على المستوى الإقليمي، وربما لديها نوايا، ومخططاتٍ فعليّة لمشروع جيوسياسي يصبُّ في هذا الاتجاه، لكنّ هذا بالطبع لن يكون وحده كافياً لتحقيق الهيمنة الإقليمية لتركيا، ما لم تتوافر الشروط السابقة الأكثر أهميةً التي يجب توافرها في القوة المُهيمِنة. ويُشكِّل انخراط تركيا في حلف "الناتو"، والعلاقة الخاصة التي تتمتع بها تركيا مع "الاتحاد الأوروبي"، عوائقَ أمام قدرة تركيا على توفير الاحتياجات الإقليمية المتعلقة بتكريس الهوية الإقليمية، والتجارة الإقليمية الحرّة، وإرساء شكلٍ من أشكال التضامن الإقليمي، وتأسيس، وقيادة المؤسسات الإقليمية في الشرق الأوسط. ولعلّ مجموع ما سبق، يُنبئُ عن حجم العوائق التي يمكنها أنْ تحولَ دون تطوُّر أيَّ "حُلمٍ إمبراطوريٍّ" تركيّ في الشرق الأوسط إلى "مشروعٍ جيوسياسيّ" في المدى المنظور.

استعصاء الهيمنة الإسرائيلية 

تقومُ فكرة الهيمنة على توازنٍ دقيقٍ بين الإكراه والطواعية (Coercion and Consensus)، والقوّة الصّلبة، والناعمة؛ ما يتطلب دائماً تأمين درجةٍ معقولةٍ من مصالحِ الدّول الثانويّة، والضعيفة في النظام. وفي ظلّ الرفض الشعبيّ، والرسميّ واسع النطاق الذي يُجابهه الحضور الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، وفي ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وما نشأ عن هذا الاحتلال -حتى الآن- من استمرار سؤال الشرعيّة قائماً، على الرغم من مضي عدّة عقود على تأسيس إسرائيل الدولة، فقد يبدو ضرباً من الخيال أن تسعى دولة "مُستحدَثة" مثل إسرائيل إلى الهيمنة في إقليم "عتيق" مثل الشرق الأوسط. 

هذا فضلاً عمّا يُجابِهه أيّ دورٍ إسرائيلي في الإقليم من رفضٍ شعبيّ، خصوصاً إذا ما أضفنا لذلك المُحدّدات الجغرافية، والسياسية، والديموغرافية، والثقافية التي تعاني منها دولة إسرائيل، والتي تجعل فُرَص هيمنتها الإقليمية شبه معدومة. ولعلّ جُلّ ما يمكنُ أن تصبو إليه إسرائيل، هو منعُ هيمنةِ أطرافٍ أخرى في الإقليم؛ ما يجعلها بالتالي قوة إقليمية مُعطِّلة (Reginal Blocking Power)، أو بتعبير آخر؛ القوّة صاحبة حق النقض "الفيتو" في النطاق الإقليمي.

استعصاء الهيمنة الإيرانية

يبدو السلوك الإيراني في منطقة الشرق الأوسط الأكثرَ قرباً إلى مفهوم الهيمنة، ولعلّ إيران هي الدولة الأكثر وضوحاً في الإعلان عن رغبتها بالتحوُّل إلى قوّة إقليميّة مُهيمِنة في المنطقة؛ إذْ تُشير مختلف الخطوات التي انتهجها النظام الإيراني الحالي منذ نشأته عام 1979 إلى وجود "مشروع جيوسياسي إيراني" يهدف إلى تحويل إيران إلى قوة إقليمية مُهيمنة[8]. ولطالما تحدّث القادة الإيرانيون مراراً وتكراراً عن إيران بوصفها قوة إقليمية ذات امتداد عالمي.

وفي حين أن التركيز الإيراني كان يتوزع سابقاً بين القوة الإيرانية الناعمة، والقوة الصلبة لممارسة النفوذ الإقليمي، أصبحت القوّة الصّلبة الأداةَ الأكثرَ بروزاً في مساعي إيران للهيمنة الإقليمية بعد الربيع العربي، خاصة في التدخُّلات الإيرانية في العراق، وسوريا، واليمن. لكنّ محاولات الهيمنة الإيرانية في المنطقة لا تزال تواجه عقباتٍ جمّة، تجعلُ فرصَ تحقُّقها منعدمةً تقريباً.

وتبنّت الثورة الإيرانية مشروعَ "المركزيّة الإيرانيّة" الذي أفرز نظرياتٍ، ومشاريعَ أثَّرت في رؤية إيران لذاتها، وفي صياغة سياستها الخارجية تجاه المنطقة. وتبنّى القادة المؤسسون نظرية "أم القرى" التي تقوم على أن إيران هي مركز الأمة الإسلامية. ونتجَ عن هذه النظرية فكرة "تصدير الثورة". ولمّا كانت هذه النظرية تتّسم بأنها رؤية حالمة، فلا يمكن لنظام يتبنى "ولاية الفقيه" التي تستند إلى العقيدة الشيعية قيادة العالم الإسلامي الذي يشكل السُّنة أغلبيةً فيه، خرج منظرو النظام الإيراني لاحقاً بمشروع "جيوبوليتيك الشيعة" الذي يقوم على خلق "الأمة الشيعية" الخاضعة للزعامة الإيرانية، بحيث تكون الجمهورية الإسلامية الإيرانية المرجعية السياسية للشيعة في العالم[9].

وقد ثبت بعد أربعةِ عُقودٍ تقريباً على "الثورة الإسلامية في إيران"، أن إيران غير قادرة على تقديم أنموذج سياسي أو اقتصادي قابل للاستمرار، لا في محيطها الإقليمي المباشر، ولا في الفضاء العالمي الأوسع. وعملياً لم تقدّم القيادة الإيرانيّة على تنوّع أماكن حضورها، ونفوذها على مدى العقود الأربعة الماضية، أيّة مساهمةٍ إيجابيةٍ ملموسةٍ في عمليّة التنمية البشرية أو الاقتصادية أو السياسية في أيٍّ من المناطق التي تتدخّل فيها. وعلى سبيل المثال، لم يجد النفوذ الإيراني قبولاً في المناطق ذات الأغلبية السّنية نتيجة لصبغته الطائفية، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن، على الرغم من إصرار طهران على التدخل المباشر في هذه المناطق، واستخدامها أوراق قبليّة، وعرقيّة متفاوتة فيها. كما واجه النفوذ الإيراني تحدياٍت جمّة أيضاً في المناطق ذات الأغلبية الشيعية التي يُفترض، أو تعتقد إيران على الأقلّ، أنها تُشكِّلُ الحاضنة الطبيعية للنفوذ الإيراني.

ولا تزال مسألة سعي إيران نحو الهيمنة، مَوْضِعَ نقاشٍ أساساً؛ فقد ظلّ النظام الإيراني يُنكِر وجودَ مشروع هيمنةٍ إقليميّ له، ويضعُه في إطار "الإيرانوفوبيا" أو "الشيعة فوبيا"، ولكنّ النظام الإيراني اتّجه إلى التنظير العلني للمشروع لاحقاً، مع طرح مشروع "جيوبوليتيك الشيعة" بالتزامن مع التدخل الإيراني في سوريا. وحتى بعد طرح "جيوبوليتيك الشيعة"، ظلّ هناك في داخل إيران وخارجها، مَنْ يُجادِل بأن السلوك الإيراني في المنطقة ذو صبغة دفاعيّة، وأنّ خروج إيران إلى الإقليم، إنّما كان بحثاً عن الأمن.

ولعلّ هذا الاضطراب في فهم السلوك الإيراني في الإقليم، ناتجٌ عن الخليط غير المنسجم من الاستراتيجيات الدفاعية والهجومية الذي تبنّاهُ النظام الإيراني؛ فبينما يزعم قادة إيران بأنّ نشاطاتهم العسكرية والأمنية في الإقليم، إنما هي حروب استباقية تهدف لحماية بلادهم من صراعاتٍ، كان يمكن أن تكون على حدود إيران وداخلها، كنتيجةٍ لهشاشةِ دول الجوار، وتدخُّلات القوى الدولية، لا يلتفت هؤلاء، إلى حقيقة أنّ الاستراتيجيات الدفاعيّة، والحروب الاستباقيّة، لا تتضمّن وفق الفهم الشائع لها، تجنيدَ ميليشياتٍ في دولٍ عدّة على أساسٍ طائفيٍّ واضح، وتوكيلها بمهمّة فرض هيمنةٍ إيرانيةٍ طويلة الأمد في هذه الدول، وفي دولٍ أُخرى أيضاً، خلافاً لكلّ القوانين والأعراف الدولية. ولو أقرّ الجميعُ بأن هذا السلوك هو مجرّد حروبٍ استباقية، وهواجسَ أمنيةٍ مقبولة، لغرِقَ العالمُ كلُّه في فوضًى عارمة.

ولا شك أن هناك علاقةٌ تبادليّة بين سلوك إيران الخارجي، وأزمتها الداخلية؛ فكما يجبُ النظر إلى سلوك إيران الخارجي على أنه انعكاس لـ "أزمة الهوية والنموذج"، ليس من شكٍّ في أنّ الصراعات الإقليمية، وبخاصة الصراعات ذات الصبغة الطائفية منها، كان لها انعكاساتها الداخلية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بما يعمق هذه الأزمة؛ وصحيحٌ أن اقتصاد إيران لم يدخل مرحلةً حرجةً بعدُ، بسبب مواردها الغنية، لكنّ كُلفة الصراعات الإقليمية تمنع رخاءها الاقتصادي، وتُضعِف قُدرتَها على إرضاء الغاضبين والمهمّشين في الداخل، وهم كثيرون. وبالنتيجة، يمكن القولُ بأن سياسات إيران الخارجية، لا تخدم بالضرورة الاستقرار الداخلي الذي تقول قيادتها السياسية بأنه يتعرّض للتهديد، وأنها إنّما تريد أن تُدافِع عنه. ولا شكّ أن الاستقرارَ شرطٌ أساسيٌ لتحقُّق الازدهار الاقتصادي، سواء في أيران أو غيرها. وهذا لن يحدث من دون الانفتاح على دول العالم الأخرى، صاحبة الثروة والمال، والتعاون مع دول الإقليم، على أُسسٍ واضحة ومقبولة من الجميع.

ويمكن القول بكثير من الاطمئنان، إنّ نجاحات إيران في المنطقة، ليست ناتجة بالأساس عن عوامل القوة الذاتية، بل هي حاصلُ استثمارها في الأخطاء الاستراتيجية الأمريكية، لا سيّما في العراق، وإدراكها لهشاشة "الدولة" العربية، والمنظومة العربية بشكل عام. علاوة على استفادة طهران من حقيقة أن "أوروبا" و"المجتمع الدولي" هي مجرّد عناوين متداولة، بلا محتوى استراتيجي واضح، أو تأثيرٍ ملموسٍ في العالم الحقيقي. لكنّ الإقليم يشهدُ منذ عدة سنوات تغيُّراتٍ في هذه المُعطَيات، خاصةً بعد توقيع مُعاهدات السلام الإبراهيمية، فهناك محور عربي-إسرائيلي، يبدو أنه آخذ في التشكّل، وهو يعملُ على صدّ محاولات الهيمنة الإيرانية.

وقد حقّقت إيران مكاسب إقليمية متعددة، نتيجةً للتنسيق والتعاون الاستراتيجي مع روسيا والصين وتركيا؛ لكنّ هذا التنسيق والتعاون أسهم أيضاً في توجيه خيارات إيران المستقبلية، و"تهذيب" السلوك الإيراني في المنطقة، وتُعدُّ سوريا مثالاً بارزاً على هذا التغيير. وبينما يُعزّز استمرار هذا التعاون فرصَ حُصول طهران على عوامل قوّة جديدة، وأسلحة متقدمة؛ ما سيرفع من قدرتها في مواصلة اختراق المنظومة العربية، فهو يعمّق أيضاً حاجةَ إيران إلى هذه القوى الدولية، وبالتالي انفتاح إيران أكثر -تأثُّراً وتأثيراً- على المشهد الدولي، والخروج من دعاوى الخصوصية المُفرطة.

ومن المُرجَّح أنّ إيران كانت قد بلغت نقطةً متقدمةً جداً، فيما يتعلق بتطوير الأسلحة النووية، قبل موافقتها على "الاتفاق النووي" في عام 2015؛ وهو ما يعني امتلاكها المعرفة النظرية والعملية اللازمة لتطوير الأسلحة الانشطارية، وربما الأسلحة المعززة (boosted weapons). وهذه الحقيقة، ستبقى تعمل على توجيه خيارات طرفي "الاتفاق النووي" الرئيسَيْن؛ إيران وأمريكا بشكل حاسم. كما أنها ستبقى أيضاً عاملاً مُهمّاً في تحديد مسارات مُحاولات الهيمنة الإيرانية الإقليمية.

وبالنظر إلى نتائج محاولات الهيمنة الإيرانية في العراق، وسوريا، ولبنان، فقد بات واضحاً تماماً أن إيران لا تتصرّف أو لا تتّبع استراتيجياتٍ خيريّة (Benevolent)، أو اندماجيّة (Integrative) في الإقليم. بل تتّبعُ أنموذجاً توسُّعيّاً إمبراطورياً جشِعاً. وربّما يرجع ذلك بالدرجة الأولى، إلى أن إيران لم تمتلك أنموذجاً جاذباً لأي من شعوب أو دول المنطقة، كما يرجعُ أيضاً إلى تصوُّر (Perception) إيران عن نفسها، وتصوُّرات القوى المنافسة، والثانوية في الإقليم عنها بالدرجة الثانية؛ فالدولة المُهيمِنة لا بدّ لها من امتلاك الإرادة السياسية، والطموح لقيادة المجموعة كُلِّها، وتحمُّل أعباء هذه الهيمنة، فيما قدّمت إيران نفسها في نطاقها الإقليمي، كقوّة راعيةٍ للأقلية الشيعية عبرَ مشروعٍ جيوسياسيٍّ ذو صبغة مذهبية ضيقة، وتخلّت تدريجياً عن طُموحات القادة المؤسسين في الثورة الإسلامية، والمُتعلِّقة بزعامة العالم الإسلامي ككُلّ، ضمن ما كان يُعرف بـ "نظرية أم القرى"[10]، وذلك بعد أن أدركت استحالة تحقيق هذه الغاية.

وخلافاً للخطاب الإيراني الرسمي الذي يُشير عادة إلى رغبة النظام الإيراني بانتهاج "استراتيجيات تعاونية"، تهدف إلى طرح أهداف مشتركة لكلّ أعضاء النظام الإقليمي (مع تحفُّظ شكليّ على مشاركة إسرائيل)، يُظهر السلوكُ الفعلي للنظام الإيراني نزعةً مُفرِطة تجاه "الاستراتيجيات الإمبراطورية أُحاديّة الطرف" التي تمتاز بالعنف والإكراه إلى جانب تبنّيها شكلاً من أشكال القيادة الفكرية أو الثقافية (Intellectual Leadership)، والتي تنطوي على السيطرة على التفكير، وتبنّي حاجات، ورغبات الآخرين في إطار محاولة الهيمنة الخطابية (Discursive Hegemony)، خصوصاً في الدول العربية والإسلامية التي تربطها بإيران شبكةٌ أوسعُ نطاقاً من المُشتركات الحضاريّة والمذهبيّة. 

وعلى الرغم من أنّ عملية تلقين القيم والمصالح (The Projection) ضرورية للغاية في عملية صناعة النفوذ، لجعل القوى الثانوية في الإقليم تتقبّلُ قيمَ ومعايير الطرف المُهيمِن، لكّنها عمليةٌ مُعقّدةٌ للغاية، تتطلبُ أولاً وجودَ نموذجٍ جاذبٍ، ثم تستدعي مساراً طويلاً من "التنشئة" أو "التربية" التي لا يمكن تحقيقُها بسرعةٍ، أو فرضُها بالقوّة. 

ويُعرّف الخبراء في المدرسة النظاميّة، أمثالَ توماس مكورميك الهيمنةَ "باعتبارها امتلاكُ قوّةٍ إقليميةٍ واحدةٍ للكفاءة الاقتصادية المتفوّقة، والمتزامنة في الإنتاج والتجارة والتمويل". علاوةً على ذلك، يُعتبر وضع الهيمنة المتفوّقة، النتيجةَ المنطقية للجغرافيا المتفوّقة، والابتكار التكنولوجي، والأيديولوجية، والموارد المتفوقة، وعوامل أخرى. وفي ضوء ما تُعانيه إيران من نقصٍ، وعطَبٍ في كل هذه المناحي، تُحاجج هذه الورقة بأن مُحاولات الهيمنة الإقليمية الإيرانية، لم تكن في جوهرها سُلوكاً عَقلانياً ابتداءً، وأنّها لم تنشأ لأسباب طبيعية، تتعلقُ ببناء القوّة، وصُعودها، وبالتالي فإن وصول هذه المحاولات إلى غايتِها غيرُ محتملٍ، ولا يُمكن لمحاولاتِ الهيمنة الإيرانية أن تُنتجَ شكلاً من أشكال الاستقرار الإقليمي، كنتيجة طبيعية لعملية "استقرار الهيمنة"، وبالتالي فإن حاصل هذه المحاولات الإيرانية في المنطقة، لن يتعدى سوى خلْقِ مزيدٍ من الفوضى في النظام الإقليمي.

خُلاصة واستنتاجات عامة

يُشير مفهوم "الهيمنة الإقليمية" إلى واقعٍ ظرفيّ مؤقَّت، قابلٍ للتغيير تبْعاً لمُتغيّراتِ القوّة في الإقليم، وتأثُّرها بالنظام العالميّ الأوسع الذي يُعاني بدوره من درجةٍ متفاوتةٍ من السُّيولة. وعلى الرغم من ذلك، يُعَدُّ "استقرارُ الهيمنة الإقليمية" حاجةً مُلحّة لتوفير قَدْرٍ معقول من الاستقرار الإقليمي.

ويُعاني إقليمُ الشرق الأوسط من حالةٍ من الفوضى، أو على الأقلّ عدم الاستقرار، نتيجةَ تدافُعِ مشاريعَ للهيمنةِ الإقليميةِ ذات نزعةٍ إمبراطوريةٍ جشعةٍ، ووجودِ قوّةٍ مُعطّلةٍ، ومتفوقةٍ في آنٍ معاً، لكنّها غيرُ راغبةٍ، أو غيرُ قادرةٍ على التحوُّل إلى قوّة مُهيمنة، وتحمُّل أعباء قيادة النظام الإقليمي.

وفي ظل حالة "استعصاء الهيمنة" القائمة في المنطقة، تتّفقُ القوى الدوليّة الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على أن الاستقرارَ في الشرق الأوسط، يتطلّبُ وجود نظامٍ إقليميّ مُتوازِن القوى، مع مُراعاة حِفْظ التفوّق الإسرائيلي، لكنّ القوى الدولية تختلفُ في تعريف هذا التوازن الإقليمي المنشود، كما تختلف حول الإطار الزمني اللازم لتحقيقه؛ فهناك أطراف دولية مُستفيدة من حالة السيولة القائمة مَرْحليّاً في النظام الإقليمي، والتي هي انعكاسٌ لحالةِ السيولة القائمة في النظام الدوليّ الأشمل.

وعلى الرغم من هذه التناقضات، إلّا أنّ القوى الدولية تُقرّ مجتمعةً بأنّ سياسات التوسُّع، ومساعي "الهيمنة الإمبراطورية" القائمة حاليّاً في الشرق الأوسط، تمنعُ حدوثَ مثل هذا التوازن على المدى البعيد؛ وهو ما ينطبق بوضوحٍ على سياسات إيران الإقليمية، وبدرجة أقلّ على سياسات تركيا الإردوغانية.

ويُمكن القول أيضاً إنّ مستقبل علاقات "التعاون التنافسي"، أو الصراع بين الأطراف الإقليمية تحكُمه نتائجُ "طموحاتٍ غيرُ واقعية" لبعض القوى الإقليمية؛ إذْ تُبيّن هذه المُقاربة لِنظرية "استقرار الهيمنة" في النطاق الإقليمي للشرق الأوسط، أنّ مشاريعَ الهيمنة القائمة أو المحتملة في المنطقة، لا تتوافرُ لها الشروطُ الموضوعية وغير الموضوعية اللازمة للتحول إلى قوّة إقليمية مُهيمِنة، وبالتالي فإن الطّرَف الذي يمتلكُ واقعيةً وبراغماتيةً أكثر، وغُروراً وأيديولوجيا أقلّ، هو الذي سوف يستمرّ في المنطقة، دون إغفال أهمية عناصر القوة والضعف الذاتية.

ولعلّ النتيجة الأبرز التي يمكنُ الوصولُ إليها من هذه المقاربة التطبيقيّة، هي أن تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، عبر محاولات الهيمنة الإمبراطورية، والأُحادية القائمة حالياً، غير مُمكن. وأنّ أيّ استقرارٍ يُمكن تصوُّره في المنطقة، لا بُدّ أن يتبع صيغةً توافقيةً ما، أو على الأقل، أن يتّبع نموذجاً مَرِناً للغاية من الهيمنة التعاونية؛ ما يعني أنّ مصالح مُختلف القوى العظمى، والثانوية في الإقليم، يُمكن أن تتحقَّق عمليّاً على طاولات التفاوُض، لا في ساحاتِ المعارك؛ حيثُ لا أفق منظوراً لأيّ حَسْمٍ في هذه الجزء العتيق من العالم.

د. محمد الزغول، باحث في الشؤون الإيرانية والإقليمية، ورئيس وحدة الدراسات الإيرانية في مركز الإمارات للسياسات.

[*] استندت هذه المقاربة التطبيقية لمفهوم "استقرار الهيمنة" في منطقة الشرق الأوسط إلى الإطار المفاهيمي النظري الذي وفّرته دراسة الدكتور بوجدري فيصل عن "استراتيجية الهيمنة الإقليمية بين شيوع المصطلح وغموض المعنى"، مجلة البحوث والدراسات الإنسانية، العدد 16 (2018).

[1] أطلق روبرت كيوهين نظرية "استقرار الهيمنة" بدايةً، لتنضم إلى نظرية أورغانسكي حول "تحول السلطة"، بصفتهما النظريتين المسيطرتين في مدرسة الفكر العقلاني. ثم ظهرت نظرية "الدورة الطويلة" التي تبناها جورج موديلسكي، ونظرية "النُّظُم العالمية" التي اعتنقها إيمانويل واليرشتاين، بصفتهما المقاربتين المسيطرتين في مدرسة الفكر النظامي. وارتبط اسم تشارلز بي. كينديلبيرغر بشدة بنظرية "استقرار الهيمنة"، ويَعُدُّه البعض "أبو النظرية". وظلت الفكرة المركزية لنظرية "استقرار الهيمنة" متعلقة بالنظام العالمي، لكن جرى استخدامها بشكل متزايد فيما بعد للدلالة على التفاعلات الإقليمية، خاصة في الأقاليم التي ارتكزت على الهيمنة لتطوير قواعد هذا النظام وتطبيقها. وأسهمت دراسات روبرت غيلبين، وجوان غوا، وروبرت كيوهين، وستيفن كراسنر، وجورج موديلسكي وآخرين، في تطوير نظرية استقرار الهيمنة.

[2] "Hegemonic Stability Theory and Economic Analysis: Reflections on Financial Instability and the Need for an International Lender of Last Resort".

[3] .2002 ,Pedersen Thomas, Cooperative Hegemony; Power Ideas and Intuitions in Regional Integration, Review of International Studies

[4] M Prys and S Robel, Hegemony, not empire, Journal of International Relations and Development, 2011.

[5] ميريام برايس؛ باحثة ألمانية اهتمت بدراسة القوى الناشئة، والحوكمة العالمية، والدراسات الهندية، وبحوث التغير المناخي. وعملت مديرة لبرنامج الدكتوراه في دراسة القوى الإقليمية بكلية هامبورغ الدولية للدراسات العليا. وهي مؤلفة كتاب "إعادة تعريف القوة الإقليمية في العلاقات الدولية".

[6] .Miriam Prys, What Makes a Regional Hegemon?, Paper Presented at ECPR Joint Session of Workshops, Helsinki, May 2007

[7] تُركيا: مُستَقْبَل النَّموذج والدَّوْر (أبوظبي: مركز الإمارات للسياسات، 2014).

[8] وحدة الدراسات الإيرانية، المنطلقات المذهبية للمشروع الجيوسياسي الإيراني (أبوظبي: مركز الإمارات للسياسات، 2014). 

[9] المرجع نفسه.

[10] المرجع نفسه.

عن "مركز الإمارات للسياسات"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية