الأديان حمَّالة أوجه

الأديان حمَّالة أوجه

الأديان حمَّالة أوجه


16/11/2022

بابكر فيصل

الأديان بنصوصها وطقوسها وتعاليمها حمَّالة أوجه، ويمكن لأتباعها استغلالها وتوجيهها كما يريدون وبحسب الغرض الذي يسعون إليه، وبالتالي فإن معتنقي تلك الأديان (البشر) هم المسؤولون عن تفسيرها واستنباط القيم والمعاني والمقاصد التي تحتويها ومن ثم إنزالها إلى أرض التطبيق.

ومثلما أنه يمكن لدعاة الخير أن يحملوا أديانهم على المحبة والمودة والسلام والإحسان، فإنه يمكن لأتباع آخرين تفسيرها على أقصى درجات التشدد والتطرف الذي فيه ظلم للغير، كما أن من الممكن توجيه تعاليم الأديان لإعمار الأرض وخدمة الإنسانية أو المتاجرة بها من أجل تحقيق أهداف مادية دنيوية ضيقة.

في هذا الإطار أوردت مجلة "إيكونوميست" في عددها الصادر في الثالث من هذا الشهر تقريرين يوضحان بجلاء حقيقة أن الأديان يمكن توظيفها بحسب توجهات معتنقيها. التقرير الأول يتناول المشكلة البيئية التي تتعرض لها دولة إندونيسيا بينما يناقش التقرير الثاني أحد طقوس الديانة الهندوسية في دولة الهند. 

يقول التقرير الأول أن العاصمة الإندونيسية جاكرتا تتعرض باستمرار لهجمات مائية من أعلى وأسفل، حيث لقي ثلاثة تلاميذ مصرعهم الشهر الماضي عندما انهارت مدرستهم وسط هطول أمطار غزيرة، وفي عام 2020، أسفر أسوأ طوفان تتعرض له العاصمة منذ أكثر من عقد عن مقتل العشرات وتشريد ما يقرب من 400 ألف شخص.

وأشار التقرير إلى أن تواتر الفيضانات وشدتها آخذان في التزايد، خصوصا مع تدفق 13 نهرا عبر جاكرتا، مبينا أن أجزاء من العاصمة تغرق في البحر بمعدل 25 سم (عشر بوصات) كل عام. كما حذر البنك الدولي من أن حوالى 4.2 مليون إندونيسي قد يتعرضون لفيضانات دائمة بحلول نهاية القرن. وفي مواسم الجفاف تتعرض الغابات لموجات من الحرائق مما يهدد مساحتها البالغة 94 مليون هكتار (230 مليون فدان).

لمواجهة هذه المخاطر اجتمع كبار رجال الدين الإسلامي في مسجد الاستقلال بجاكرتا لتأسيس ما أسموه "المؤتمر الإسلامي من أجل إندونيسيا المستدامة"، وهو منتدى لتنسيق النشاط البيئي الإسلامي بين رجال الدين والمعلمين والأكاديميين والسياسيين، وقال إمام المسجد، نصر الدين عمر، في الاجتماع أن المسجد يجب أن يصبح مكانا "لتخضير العقل والقلب".


وأشار نصر الدين إلى انطلاق عملية تركيب الألواح الشمسية وأنظمة إعادة تدوير المياه في مسجده، وسيتم تجهيز 1000 مسجد آخر بألواح شمسية وعدادات طاقة ذكية. وفي عام 2018 ، أطلقت "نهضة العلماء"، أكبر منظمة إسلامية في إندونيسيا، سلسلة من الخطب حول النفايات وإعادة التدوير. كما أنشأت "المحمدية" ثاني أكبر منظمة من هذا النوع، برنامجا لتعليم أئمتها كيف يصبحوا "دعاة بيئيين".

ومن جانبه أصدر "مجلس العلماء الإندونيسي"، وهو أعلى هيئة لعلماء الدين، سلسلة من الفتاوى غير الملزمة للترويج للقضايا الخضراء، كما أعلن في عام 2011 أن عمليات التعدين المدمرة للبيئة محظورة بموجب الشريعة الإسلامية، وفي عام 2016 أدان المجلس ممارسات الحرق والقطع الجائر للأشجار واعتبرها محرمة شرعياً.

المثال أعلاه يوضح بجلاء أن العلماء المسلمين في إندونيسيا قد استشعروا الخطر البيئي الداهم الذي يواجه بلدهم وأثروا أن يلعب الدين الإسلامي دورا إيجابيا في مواجهة ذلك الخطر، فلم يتوانوا عن تنظيم صفوفهم للتحرك الفاعل المدعوم بالفتاوى التي تُحِّرم – بإسم الشريعة الإسلامية - الأفعال التي تلحق أضراراً بالبيئة.

وعلى العكس من ذلك المثال، فقد أورد التقرير الثاني تفاصيل عن طقس ديني يسمى "التنغيم" يؤديه أتباع الهندوسية في الهند ويتمثل في حلاقة شعر الرأس والتبرع به للآلهة من أجل تحقيق رغبة مثل ولادة طفل أو علاج مرض أو تقدم وظيفي وغير ذلك من الرغبات.

ويوضح التقرير أن حوالى 60 إلى 86 ألفا من الحجاج يصلون يوميا إلى معبد "تيرومالا" في جنوب الهند للتعبد، وأن حوالى نصف ذلك العدد يؤدون طقس الحلاقة، حيث يعمل أكثر من 1300 حلاق على مدار الساعة لحلاقة 1.2 مليون رأس كل عام. ومن المؤكد أن هناك العشرات من المعابد الأخرى التي يتم فيها أداء نفس الطقس.

غير أن هذا الطقس الديني الروحى يتم توظيفه لأغراض تجارية محض، حيث يتم بيع الشعر بالمزاد العلني من أجل الكسب المادي، ويقول التقرير أن معبد تيرومالا وحده باع 157 طناً من الشعر في عام 2019 جنى من وراءها 1.6 مليون دولار. ويتم نقل جزء كبير من الشعر المباع إلى ولاية البنغال الشرقية حيث تتركز صناعة الشعر المستعار، ومن ثم يتم تصديره خارج البلاد.

وبحسب التقرير فإن قيمة السوق العالمية للشعر المستعار بلغت 5.8 مليار دولار في عام 2021، وهى صناعة رائجة وتنمو بوتيرة سريعة، وقد قامت الهند بتصدير ما قيمته 770 مليون دولار من شعر الإنسان في نفس العام، ويعتبر الشعر الهندي من أجود أنواع الشعر نسبة لأن معظم الهنود لا يستخدمون المواد الكيميائية في تغذيته وإطالته.

وهكذا، فإن المثالين أعلاه يؤكدان أن الأديان يمكن أن تلعب أداوراً مختلفة بحسب توجهات معتنقيها وأتباعها، فهى قد تكون أداة لخدمة الإنسان الذي وضع عليه الخالق مسؤولية إعمار الأرض، وفي ذات الأوان يمكن أن تصبح وسيلة لاستغلال ذلك الإنسان من أجل تحقيق مصالح دنيوية.

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية