الإسلاميون المغاربة والحاجة إلى نظام لليقظة

الإسلاميون المغاربة والحاجة إلى نظام لليقظة


07/11/2017

تناولت العديد من الدراسات العلمية مسألة تأثير الجماعات الدينية في مجتمعات واقتصادات وسياسات الدول في العالم. ولعالم الاجتماع ماكس فيبر كتابات عديدة في هذا الشأن، أشار فيها لدور الجماعات الدينية في أمريكا، و"الميكانزيمات" [الآليات] التي استعملتها للتحكم في المجتمع بطريقتها، وأعطى أمثلة كثيرة على ذلك، مثال المستثمر الذي أراد أن يستثمر أمواله ويُحقق أرباحاً كثيرة أو يحصل على قرض معين، فيعمل على الحصول على شهادة الكفاءة الأخلاقية، من خلال الانتماء لجماعة دينية لها مكانة مهمة داخل النسيج المجتمعي وتجنب الإقصاء منها؛ لأن الإقصاء يعني ضياع رصيد مهم في الأعمال وفي الارتقاء الاجتماعي. (1)

لقد تنبهت فرنسا إلى خطورة الجماعات الدينية على مقومات الدولة الحديثة وخاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، فأصدرت قانوناً يحظر تأسيس الطوائف الدينية، وهو قانون 2001، وفوضت الجمعية الوطنية الفرنسية، في عام 1995، لجنة غيتس (2) Gest Commission  كي تقدم تقريراً عن مخاطر الجماعات الدينية على الفرد والمجتمع على حد سواء. وخلُصت اللجنة أنه لا يمكنها تحديد أو قياس ماهية الجماعة الدينية، بيد أنها حددت 173 مذهباً وطائفة تشكل خطورة كبيرة على فرنسا وحدها (3).
هذا عن تأثير الجماعات الدينية في دول تتوفر على مؤسسات قوية، وتحتكم إلى القانون في العلاقات الفردية والجماعية بينه، فلنا أن نتخيل المشهد المُركب من فرط التحديات الدينية والاجتماعية والسياسية، مع دول تريد أن تبني نموذجاً لعلاقة الديني بالسياسي في التربة الإسلامية كالمغرب، يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية، دون التفريط في اختيار الالتحاق بركب الدول المتقدمة.
لقد حصر دستور 2011، وبتفويض شعبي واسع، تدبير مسألة الدعوة إلى الله في إمارة المؤمنين، باعتبارها المرجع الأوحد للمغاربة في سائر أمور الدين على مقتضى الشرع والتقاليد المرعية في المملكة الشريفة، (4) وهي تمارس هذا التفويض من خلال المؤسسات المؤهلة لذلك، وخاصة المساجد والزوايا والمجالس العلمية ومدارس التعليم العتيق. وبميزانيات مُعتبرة من المال العام ومن جيوب دافعي الضرائب، لكن تواجد جماعات مناضلة تتبنى الدعوة إلى الله بالسيف كما هو الشأن بالنسبة للجماعات الجهادية التي يتم تفكيكها بين الفينة والأخرى، وبالسياسة كما هو الشأن بالنسبة للجماعات الإخوانية بمختلف تلاوينها، يشوش على المقاربة التي اختارها المغرب، ويدفع إلى طرح أكثر من تساؤل حول خطورة هذه الجماعات على المسار السياسي الذي تبناه المغرب، ومدى إمكانية إعادة النظر في موقع تلك الجماعات على ضوء مقتضيات الدستور الجديد.

تأسيس نظام لليقظة أصبح مسألة ملحّة، ليس لمحاربة التطرف وحسب، بل لمواجهة الظروف الملائمة للتطرف، وللجماعات الداعمة له

تعمل الجماعات الإسلامية على تعبئة الأنصار في السر والعلن وتحت يافطات مختلفة، مستفيدة من تجاربها المتبادلة، ومن تجارب مثيلاتها على المستوى الدولي في التحرك والفعل، وهي تشكل قوة تأثير كبيرة على مراكز القرار السياسي وعلى صناديق الاقتراع الانتخابي. وتستثمر في شبكات اجتماعية رسمية وغير رسمية داعمة وبتمويلات متنوعة، وتعمل على طمأنة الأتباع وتفتح لهم الآفاق، تحدد لهم العدو والصديق، وتختار لهم من الماضي ما يدعم هويتهم الطائفية، ومن المستقبل ما يحفزهم مادياً ومعنوياً، وكل ذلك ببرنامج إيديولوجي مخالف في أغلب قواعده العقدية والسلوكية للبرنامج الذي صوت عليه المغاربة في دستورهم، المبني على هوية متعددة المشارب وعلى دولة الحق والقانون وعلى المؤسسات.
إن الدين في المغرب يُعبر عن "ضمير الأمة"، وهو بمثابة الخلفية أو الوعاء الكبير الذي يحوي بداخله كافة الأفكار والمعتقدات التي تحرك الأفراد. وهو يقوم بدور "الضابط الذاتي" لحركة المجتمع، فلا يتدخل فيها بشكل خشن، ولا يتركها فتصبح فوضى يصعب السيطرة عليها. والمؤسسات التي تسهر على تدبير الشأن الديني تحرص على أن تكون مستقلة عن الهيئات والتنظيمات في المجتمع، وخاصة السياسية منها، في إطار تمايز المجالات وتكاملها، وفي نفس الوقت تعطي رأيها في أي قضية مهما كان نوعها، ويستأنس بآرائها كما يستأنس بآراء مؤسسات أخرى: ففي قضية "مدونة الأسرة" مثلاً، تم الأخذ برأي الدين كما تم الأخذ برأي الطب ورأي الفلسفة ورأي علم الاجتماع والاقتصاد والمنظمات الحقوقية، وفي الأخير كانت الدولة بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية هي التي لها شرعية اتخاذ القرار الذي تحول إلى قانون بشأنها.

الجماعات الإسلامية تمارس برنامجاً إيديولوجياً مناقضاً تماماً لما توافق عليه المغاربة، وتعتمد في تصريفها لذلك على آليات التمكين عند الإخوان في المشرق بزعامة حسن البنا وسيد قطب

لا يفيد هذا المعطى إبعاد الدين عن الشأن العام كما هو واقع بعض البلدان، وإنما عقلنة تدخل الدين في الحياة العامة بحيث لا يمس جوهره وأساسياته، وفي الوقت نفسه لا يشكل تدخله في المجتمع عرقلة لتطوره، خاصة وأن الديمقراطية جاءت بآليات تضبط هذا التطور، وتجعل أغلب الشرائح المجتمعية تستفيد منه بشكل سلمي ودون غزوات أو حروب (5).
هذا النموذج لازال هشاً، ولا زال غير قادر على مواجهة الاختراقات التي تمارسها الجماعات الإسلامية من كل حدب وصوب، ببرنامج إيديولوجي مناقض تماماً لما توافق عليه المغاربة، وتعتمد في تصريفها لذلك على آليات التمكين التي نظر لها الإخوان المسلمون في المشرق بزعامة حسن البنا وسيد قطب، والتي تعتمد على عناصر التدرج والسرية والتوافقات التكتيكية دون المساس بالأفق الاستراتيجي المتمثل في "دولة الخلافة"، وإرجاع المغرب إلى ما قبل تأسيس الدولة الحديثة، بممارسات تصفية حسابات، بحيث العدو يتم اخراج الخصم من الملة ويتم محاربته باسم الدين، ويتم دعم الأخ اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بوسائل بعيدة عن القانون.
مؤكد أن الجماعات الإسلامية تحتاج إلى ترويض ودربة وإدماج، ولكن أي خطأ في السرعة سوف يؤدي إلى الارتباك، وسيرهن المغرب عقوداً أخرى إلى الوراء خاصة أن حركة التوحيد والإصلاح والعدل والإحسان ومن يُناصرونهم، يحتاجون إلى مراجعات حتى يقبلوا في الممارسات العملية، وليس على مستوى الخطاب بالديمقراطية كمبادئ وليس كآليات، وحتى يقبلوا بالآخر ولا يتحول الدين إلى وسيلة للوصول إلى السلطة فقط.
لهذا فإن تأسيس نظام لليقظة أصبح مسألة ملحة، نظام له بعد مخابراتي وأمني، وبعد قانوني واقتصادي وسياسي، ليس لمحاربة التطرف وحسب، ولكن أيضاً لمواجهة الظروف الملائمة للتطرف، وللجماعات الداعمة له، مادام أنها أصبحت مخالفة لدستور 2011، حتى وإن حصلت على اعتراف قانوني كجمعيات مدنية في ظروف تمكن الإخوان من رئاسة الحكومة.
____________
مراجع:
1 ـ Max Weber, L'Éthique protestante et l'esprit du capitalisme, Paris, Plon, 1964 ; Gallimard, 2004 ; Pocket/Plon, collection Agora, 2010.
2 ــ LA COMMISSION D'ENQUÊTE (1) SUR LES SECTES, Président M. Alain Gest, Rapporteur M. Jacques Guyard,
3 ــ Loi n° 2001-504 du 12 juin 2001 tendant à renforcer la prévention et la répression des mouvements sectaires portant atteinte aux droits de l’homme. 
4 ــ أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية من كتاب محمد السادس إمارة المؤمنين في عشرة تجليات، على الرابط الإلكتروني:
http://www.habous.gov.ma/2012-01-26-16-09-45/1288   
5 ــ محمد خياري، سياسة القرب في تدبير الشأن الديني، صحيفة "المساء"، الدار البيضاء، عدد 27 نونبر 2009.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية