الإعجاز العلمي في القرآن وأحكام عدة المرأة

الإعجاز العلمي في القرآن وأحكام عدة المرأة


02/05/2018

بابكر فيصل باكر

يعتقد كاتب هذه السطور أن القرآن كتاب هداية تنزل على البشر ليخرجهم من ظلمات الشرك والهوى إلى أنوار التوحيد والاستقامة ويهديهم لأحسن الهدى الذي به سعادتهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وهو ليس كتابا في الطب أو الفلك أو الفيزياء أو علوم البحار.

هدف القرآن ورسالته أوضحتها الكثير من الآيات، منها قول الله تعالى: "الر كتاب أَنزلناه إِلَيك لتُخرِج الناس من الظلمات إلَى النور بإذن ربهم إِلَى صراط العزيز الحميد"، وكذلك قوله: "قد جاءكم من اللَّه نورٌ وكتاب مُبين يهدي به اللَّه من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إِلى النور بإذنه ويهديهم إِلى صراط مستقيم".

هذه النقطة تشير كذلك للفرق الحاسم بين الدين والعلم، فالأول مناطه الإيمان والتصديق والتسليم، وهو دائم لا يتغير، بينما الثاني مجاله التجربة والاختبار والبرهان، وهو قابل للتغير باستمرار، ولكل واحد منهما طريقه المختلف، ولذلك فإن أية محاولة للخلط بينهما ستؤدي إلى نتائج تضر بكلا المجالين.

سقت هذه المقدمة حتى أبين الخطر الكبير الذي تنطوي عليه فكرة البحث عن وجود "إعجاز علمي في القرآن" يسعى من خلالها البعض لإثبات أن الكثير من الكشوف العلمية التي توصلت إليها البشرية في الزمان المعاصر ليست بالأمر الجديد وإنما هي مجرد تصديق أو إعادة اكتشاف لما قال به القرآن منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة.

وقعت على مقالة بعنوان: "الإعجاز العلمي في عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها" بقلم الدكتور رفيق المصري منشورة بإصدارة "إعجاز" بالموقع الإلكتروني لمنتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في لبنان.

قال الدكتور المصري إن هناك شبهات مثارة حول التشريع الإسلامي تؤكد عدم صلاحيته للعصر الحديث، ومن بينها موضوع عدة المرأة حيث يتحجج أصحاب الشبهات أنه "إذا كان الهدف من قضاء المرأة للعدة قبل الزواج من شخص آخر هو استبراء الرحم من الحمل فهذا أصبح أسهل ما يكون إذ بالعلم الحديث يمكن معرفة هل المرأة حامل أم لا من خلال التحاليل الطبية".

في رده على هذه الشبهة قال الدكتور المصري إن "الدراسات الحديثة أثبتت أن ماء الرجل يحتوي على 62 نوعا من البروتين وأن هذا الماء يختلف من رجل إلى آخر فلكل رجل بصمة في رحم زوجته. وإذا تزوجت من رجل آخر بعد الطلاق مباشرة، قد تصاب المرأة بمرض سرطان الرحم لدخول أكثر من بصمة مختلفة في الرحم، وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن أول حيض بعد طلاق المرأة يزيل من 32 في المئة إلى 35 في المئة، وتزيل الحيضة الثانية من 67 في المئة إلى 72 في المئة منها، بينما تزيل الحيضة الثالثة 99.9 في المئة من بصمة الرجل، وهنا يكون الرحم قد تم تطهيره من البصمة السابقة وصار مستعدا لاستقبال بصمة أخرى".

وأضاف قائلا: "أما عن عدة المتوفي عنها زوجها في قوله تعالى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أَزواجا يتربصن بأَنفسهن أَربعة أَشهر وعشرا" فقد أثبتت الأبحاث أن المرأة المتوفى عنها زوجها بحزنها عليه وبالكآبة التي تقع عليها هذا يزيد من تثبيت البصمة لديها وقالوا إنها تحتاج لدورة رابعة كي تزيل البصمة نهائيا، وبالمقدار الذي قال عنه الله عز وجل تقريبا أربعة أشهر وعشرا".

من الجلي أن الدكتور المصري قد سار في ذات الدرب الذي يسير فيه الشيوخ والوعاظ الذين يفترضون السذاجة الشديدة فيمن يقرأ أو يستمع لكلامهم. فهو يدعي أن "الدراسات الحديثة أثبتت..." من دون أن يجهد نفسه في الإشارة لدراسة علمية واحدة تعضد حديثه، وهذا ضرب من التمويه والتلفيق والتحايل لا يليق بمن يحمل درجة الدكتوراه، إذ كان الأجدر به ألا يلقي القول على عواهنه وكأنه يلغي عقول القراء.

اجتهد كاتب هذه السطور ـ من دون جدوى ـ في محاولة العثور على مادة بحثية واحدة تثبت ما جاء في مقال الدكتور المصري حول موضوع "البصمة" التي يتركها الرجل في رحم زوجته، وكذلك سأل العديد من الأطباء المتخصصين في هذا المجال ولكنه لم يجد عندهم أية إجابة تعضد الادعاء حول موضوع البصمة، وتشكل مادة هذا المقال دعوة للقراء الكرام من المهتمين والمتخصصين للإدلاء بدلوهم في هذه القضية.

ومن ناحية أخرى، فإن موضوع بصمة الرحم الذي يدعيه الدكتور المصري ينفيه القرآن نفسه، وذلك بإقرار الآيات الكريمة أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي وضع الحمل، إذ يمكنها التزوج من دون انتظار نهاية أربعة أشهر وعشرا "وإن كن أولات حمل فأجلهن أن يضعن حملهن"، وهو ما يعني أنه يحل لها الزواج في اليوم التالي لوفاة زوجها إذا كانت قد وضعت حملها مما ينفي علة الانتظار حتى زوال البصمة المزعومة!

أما موضوع الحزن والكآبة التي تعتري الزوجة المتوفي عنها زوجها وبالتالي تستدعي ـ كما يدعي الدكتور المصري ـ استطالة مدة العدة فهو نوع من الهراء (كلام بلا معنى)، لأنه ببساطة شديدة إذا كان الحزن هو علة زيادة أجل العدة فمن المفترض أن ينطبق ذات الشيء على الزوجة الحامل لأنها أيضا تحزن على موت بعلها، ولكن القرآن سمح لها بالزواج مباشرة بعد أن تضع مولودها مما يعني أن موضوع الحزن لا يعتد به.

وقد ذهب نفس مذهبنا الفقيه التونسي محمد الطاهر بن عاشور الذي يقول في تفسيره "التحرير والتنوير": "ولأن الفقهاء اتفقوا على أن عدة الحامل من الوفاة وضع حملها فلو كانت عدة غير الحامل لقصد استبقاء الحزن لاستوت في العدة فتعين أن حكمة عدة الوفاة هي تحقق الحمل أو عدمه".

في سباقهم المحموم لإثبات أن القرآن يحتوي على إعجازات سبقت ما توصل إليه العلم الحديث، يقع البعض في مغالطات واضحة وتناقضات مكشوفة تؤدي لعكس النتيجة التي يرغبون في التوصل إليها، ولذلك يجدر بهم عدم الزج بالقرآن في موضوعات وقضايا مرتبطة في الأساس بفشلهم الذريع في الاجتهاد العقلاني لتفسير الآيات وفقا لمقتضيات العصر والاستعاضة عن ذلك بخلق أوهام عن كشوف علمية في كتاب الله.

عن "الحرة"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية