الإنكار وسيلة الإخوان للهروب من المحاكمات التاريخية

الإنكار وسيلة الإخوان للهروب من المحاكمات التاريخية


25/02/2019

قال لي صديقي: ما رأيك في عمليات إعدام شباب الإخوان الأخيرة؟ فرددت عليه: رأيي من أي ناحية تقصد؟ قال: ألا ترى أنّهم أبرياء وأنّ الحكومة هي من لفقت لهم هذه التهم؟ هل تعلم أنّ أحد المتهمين قال للقاضي إنه خصيمه يوم القيامة؟! فقلت له: وهل هذا دليل براءته؟ قال: لا، ولكنه تحدّث عن التعذيب الذي تعرض له ليعترف.

محمد نجيب راغب أحد قيادات التنظيم الخاص اعترف بمحاولة الجماعة اغتيال عبدالناصر في حادثة المنشية

فأطرقت قليلاً وقلت له سأقصّ عليك حكاية قصيرة ربما تفهم منها تصرفات الإخوان ومناوراتهم:
في ليلة من ليالي خريف 2009 عقد مكتب إداري محافظة البحيرة لقاءً تربوياً مع "الأخ المجاهد" محمد نجيب راغب أحد قيادات التنظيم الخاص سابقاً، وأحد رموز العمل العمالي حين اللقاء، وبدأ الرجل حديثه كالمعتاد في مثل هذه اللقاءات، عن الإخوان و"دورهم المجيد" في تاريخ الإسلام نفسه، وأنّ مهمته الآن هي توريث هذا الصرح الكبير الأشم للأجيال التالية، ثم تطرق إلى نضال الإخوان في العهد الملكي وبداية الثورة وفي عهد جمال عبدالناصر، وتغيرت نبرات صوته وهو يتحدث عن حادثة المنشية العام 1954، طننت أنّ ذلك بسبب كبر سنّه، وكان قد تجاوز الثمانين من عمره، لكني اكتشفت أنّ الرجل مثقل بهمّ كبير، وهو همّ الحقيقة والصدق، فقبل هذا اللقاء كان الإخوان يصرّون على أنّ محاولة الاغتيال تمثيلية ابتدعها عبدالناصر بالإخوان لينكّل بهم، وفنّدوا عدم منطقية الأحداث في أكثر من كتاب وفي عشرات المقالات، حتى ترسّخ في أذهاننا وأذهان الأجيال التالية في السبعينيات والثمانينيات؛ أنّ تلك الحادثة ملفقة تماماً ومصنوعة بالكلية وأنّ الإخوان أبرياء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

ها هو أحد قادتهم يعترف بجريمة ظللنا نقسم بالله تعالى أنّها لم تحدث وأنّها مفبركة

ألقى الضيف قنبلته؛ وأكد أنّ جماعة الإخوان المسلمين أرادت أن تغتال عبدالناصر في المنشية، وأنّ الحادثة حقيقية، وبدا وكأنّ الرجل يريد أن يتخلص من عبء يحمله في صدره نصف قرن، فاسترسل زاعماً إنّ هذه العملية جاءت كخطوة استباقية لما كان ينوى أن يفعله عبدالناصر بالإخوان، وأنّ العملية فشلت لاعتبارات متعددة، ليس منها قلة كفاءة منفذها محمود عبداللطيف، بل لأنّ العملية كان الخطة (ب) وليست الخطة الأساسية.
ذكر أنه حضر تسليم عبداللطيف المسدس الذي سيغتال به عبدالناصر، وأنّه ذهب إليه في محطة السكة الحديد ليتأكد من استقلاله القطار الى الاسكندرية ليقوم بعمليته هناك.
وقبل أن يسترسل في تفاصيل العملية كنا قد بدأنا نستوعب كلماته، ونفهم ماذا يقول، أتدري ماذا كان يقول الرجل؟

اقرأ أيضاً: هل نجح الإخوان في نفي صلتهم بالعنف والاغتيالات؟.. حادثة المنشية أنموذجاً
كان يقول ببساطة إنّ الجرائم التي ارتبطت بالإخوان حقيقية، وإنّ تاريخهم مليء بالأكاذيب، أتدري وقع تلك الكلمات على شباب ورجال صدّقوا الإخوان على مدار عشرات السنين؟ ها هو الرجل يعترف بالجريمة التي ظللنا نقسم بالله تعالى أنّها لم تحدث وأنّها مفبركة من الألف إلى الياء، وأنّ الذين أُعدموا من الإخوان هم أبرياء تماماً، وأن عبدالناصر أوقع بهم، بعدما خدع أحدهم وقال له لو اعترفت على الإخوان بأنهم هم من طلبوا منك اغتيالي سنجعلك "شاهد ملك"؛ أي شاهداً على الجريمة وليس فاعلها، ويخبرنا الإخوان أن هذا الأخ صرخ وهو ذاهب للمشنقة "ماتفقناش على كدا"!
الآن وبعد نصف قرن اكتشفت وعلى لسان أحد منفذي الجريمة أنّ كلام الإخوان مجرد كذب في كذب! وأنّ محضر التحقيقات صحيح مائة بالمائة وانفجر سؤال واتهام في عقلي وأنا أستمع له؛ هل يمكن أن يصل بالإخوان إتقان الكذب إلى هذه الدرجة؟

اقرأ أيضاً: أحزاب تونسية تكشف بالوثائق تورّط "النّهضة" في الاغتيالات السياسيّة
لهذا قاطعت استرساله معترضاً، فقلت له: حضرتك تقول إنّ الإخوان هم من دبّروا حادث المنشية؟ فقال: نعم. فقلت ولكننا على مدار عشرات السنين كان الإخوان يقولون لنا غير ذلك، وصدّقناهم، فكنا نقول للناس إنّ الإخوان أبرياء من هذه الجريمة، فقال متأثراً: اسمع يا أخي، نحن جيل تربّى جيداً، وكل واحد ينفذ تعليمات مسؤوله بالحذافير، وعندنا الاستعداد التام أن ننكر مسؤولية الجماعة ونتحمل نحن المسؤولية إذا العملية فشلت؛ لأنّه من غير المنطقي أن نعرّض الجماعة للخطر مع كل عملية تفشل!
لم أُفق من الصدمة، إن كل كلمات التبرئة التي قلناها للناس ظهر كذبها، إنّ كل الاتهامات التي سيقت في حق عبدالناصر تبين أنّ الرجل بريء منها، ولك أن تتخيل حالتي بعدما اكتشفت الحقيقة.
ثم قلت لصديقي: لاحظ أنّهم اعترفوا بعد قرابة خمسين سنة من الحادثة، بعدما انتهى عبدالناصر والسادات وقرابة نهاية مبارك، أي بعدما أفلتوا من المحاكمة التاريخية أو محاكمة أعضاء الإخوان لهم، اعترفوا بعدما أصبح اعترافهم ليس له قيمة، وصدّقني لا يصدق الكذوب أبداً، ثم قلت له: ومن يطول عمره سيسمع من الإخوان بعد خمسين سنة أخرى اعترافات مذهلة حول الفترة الحالية.

التاريخ يعيد نفسه عندما قامت إحدى لجان الإخوان بقتل النائب العام وأدان القضاء تسعة منهم

نظر صديقي مندهشاً وتركني أسبح ثانية في أحداث الإخوان المربكة والمريبة، وتذكرت أنني عندما كنت أراجع أفكار الجماعة وأحداثهم، أقف أمام هذه الجريمة، متسائلاً: لماذا لم يعترف الإخوان بهذه العملية تحديداً؟ لماذا اعترفوا باغتيال الخازندار والنقراشي وقضية السيارة الجيب؟ ولم يعترفوا بحادثة المنشية؟ لماذا مارسوا الإنكار الشديد واستخدمونا لنكون لسانهم في نقل براءتهم المزيفة للناس؟
مع دخول أجواء السبعينيات، بدأ الإخوان في كتابة تاريخهم، وكانت القيادة السياسية تميل إلى تشويه عبدالناصر والتقليل من مكانته الشعبية، أما الحوادث الأخرى فقد تمت في العهد الملكي وهو عهد بائد انتهى رجاله وانتهى زمانه، وتشويهم لم يعد ذا فائدة، ثانياً هذه العملية بها من الدلالات الكثير، فالإخوان بعدما تصالحوا مع عبدالناصر في مكتبه، أصدروا أوامرهم إلى فصائلهم ولجانهم في التنظيم الخاص لتنفيذ مهمة التخلص منه، ثالثاً وهو الأهم أنّ المبررات الشرعية لإراقة دم عبد الناصر في هذه اللحظة لم تكن كافية وربما منعدمة أساساً، وبالتالي كان اختيار الإخوان للإنكار بهدف التنصل من عار سيلازمهم طويلاً، كما أنه يوفر لهم دعاية مجانية حول مظلوميتهم وتمثيلهم لدور الضحية.

اقرأ أيضاً: تونس: ما علاقة الغنوشي في جهاز الاغتيالات السري؟ أدلة جديدة
وها هو التاريخ يعيد نفسه، قامت لجنة من لجان الإخوان بقتل النائب العام وأدان القضاء تسعة منهم، فلا سند شرعياً يبيح دمه ولا مكسب نالته الجماعة، بل خسائر من كل النواحي.
إذاً، لا بد من هروب وأفضل طريقة للهروب هي الصريخ والعويل والولولة، ودعاية كثيفة تشكك في نزاهة التحقيقات وفي عدالة القضاء وحكايات ملفقة من كل حدب وصوب، ومقولات تنسب للمدانين قبيل الإعدام، كل هذا لتضيع معالم القضية ولا يحاسبهم عليها أحد ويعيشوا دور الضحية.. لهذا ولغيره لا أصدق الإخوان..

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية