الاحزاب الدينية واللادولة

الاحزاب الدينية واللادولة

الاحزاب الدينية واللادولة


07/12/2022

سلام حربة

الدولة الحقة هي الكيان الحقيقي والمعنوي الذي يقف جميع الافراد بأعراقهم المتعددة ودياناتهم المختلفة أمام قانونها دون تمييز أو إقصاء لأن الدولة هي صاحبة التشريع القانوني والقادرة على تنفيذه من خلال اجهزتها الادارية والقانونية ،

كما انها مسؤولة عن الخدمات والتعليم والاقتصاد والاتصالات وبإمكانها التحكم بالسلطة التشريعية والقادرة على الغائها وكذلك ما يخص عمل السلطة القضائية وانتخاب اعضائها لانها تمتلك بيدها كل شيء وهي رمز للقوة والسيادة وتحدد سياسة البلد وبرامجه الاقتصادية وأنظمته الاجتماعية وهي من تحافظ على المواطن وتحرس الحدود وتقيم العلاقات مع البلدان على اساس المصالح المشتركة ودون تدخل من أحد في شؤونها الداخلية..الدولة عنوان ومهابة أي بلد، وقوة الدولة تُستمد من الدستور والتشريعات القانونية التي تلتزم بها السلطات المتعددة من تنفيذية وتشريعية وقضائية..في العصر الحديث، عصر العلم والتكنولوجيا، بقيت الدولة المتحضرة محافظة على حصانتها لان سبل الوصول اليها واختيار النظام السياسي يتم من خلال الطرق الدستورية وصناديق الاقتراع.

النظام السياسي الذي تفرضه الاحزاب السياسية الصاعدة في الانتخابات لا يتم فيه تطبيق البرامج الفردية او الايديولوجية او الدينية بل تعمل جاهدة ان تكون الدولة محايدة ولكنها تشمر عن ساعديها في توفير افضل الخدمات واقامة أعظم البنى الاقتصادية والقانونية والاجتماعية التي توفر الرفاهية والضمان للمواطنين وتحافظ على حاضرهم ومستقبلهم من اجل بقائها الدائم في السلطة سواء كانت تطبيقاتها ومنهجياتها اشتراكية أم ليبرالية، وبمجرد أن تصطدم سياساتها الفاشلة مع مصلحة المواطن وسمعة الوطن ومستقبله ستجد نفسها مطرودة من خيارات المواطنين في الانتخابات القادمة وهذا ما انتبهت له كل الاحزاب يسارية كانت أم يمينية والجميع رفع شعارات العدالة الاجتماعية والحرية والرفاهية وتخلت حتى الاحزاب الاشتراكية عن شعاراتها الحزبية وايديلوجيتها الشمولية وبدأت تغازل ما يريده المواطن من انصاف وحرية وحياة آمنة..خيار الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة تبنته كل الاحزاب الوطنية الديمقراطية المدنية ورفضته الاحزاب الدينية لانه يتعارض مع نهجهها العقائدي باعتبار ان الديمقراطية تتحقق فيها سلطة الاكثرية دون اغفال حقوق الاقليات ودورها في البناء الاجتماعي.

الاحزاب الدينية لا تؤمن الا بمبدأ الحاكمية لله والشورى التي مصدرها رباني القرآن الكريم والسنة النبوية وتتعارض مع الديمقراطية كونها بشرية والشورى مصدرها الفقهاء ( المقدسون ) العارفين بشريعة الله ويملكون العلوم والدراية بالحاضر وبالغيب وهذا ما سبب تقاطع هذه الاحزاب مع التجارب الديمقراطية الحديثة التي حصلت في بعض البلدان الاسلامية ومنها العراق..لقد اضطرت الاحزاب الدينية العراقية الدخول في المعترك الانتخابي، رغم عدم الايمان به، لكنه الطريق الوحيد لها للوصول الى السلطة .

لقد امسكت هذه الاحزاب بتلابيب السلطة في العراق منذ عام 2003 ولحد يومنا هذا وحاولت ان تزرع عقائدها الدينية من خلال الدستور الذي لغمته بالعديد من المواد والفقرات الدينية التي تتعارض مع حركة التطور وتقيد حركة المجتمع، وحاولت الباس الجسد العراقي الجلباب الديني الزائف لتسهيل اطلاق يدها في الاستحواذ على المال العام وتخريب كل النظم الاقتصادية والاجتماعية والقانونية التي كانت سائدة في المجتمع العراقي منذ تاسيس الدولة العراقية عام 1921 وحتى يومنا هذا، وبنت هذه الاحزاب امبراطوريات مالية وسلطوية تحكمت بكل مفاصل الحياة واستعاضت عن الدولة العراقية الهشة بالدولة العميقة التي بنتها بمشورة الفقهاء ( المقدسين ) والولاء الاعمى للاحزاب الاسلامية السائرة على نهج هؤلاء الفقهاء والولاة بمساندة القوى والاحزاب الشوفينية الكردية والعربية من اجل تحييد الدولة العراقية وتقييد خطواتها في ميادين المدنية والديمقراطية وفرض الشريعة الاسلامية التي ابتكرتها بتأويلاتها المريضة والتي لا تمت بصلة الى الدين الاسلامي الحنيف الذي لا يوجد في نصوصه القرآنية ولا في الأحاديث النبوية ما يشير الى شكل الدولة التي يجب ان تبنى في المجتمعات الاسلامية ولكن الاديان السماوية ركزت على العدالة والحق بين المواطن واخيه وبينه وبين رئيسه سواء كان أمير قبيلة أو سيد مجتمع..لقد جوبهت قرارات الاحزاب الاسلامية وشرائع فقهائها التي حاولت فرضها في كل المفاصل الحياتية ومحاولة سن القوانين التي تتعارض مع طبيعة المجتمع وصيرورته التاريخية وتقييد حرية الافراد ومصادرة حقوق المرأة والطفل وفرض احكام دينية على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بما لا تتلاءم مع الطابع المدني للمجتمع العراقي ونضاله الطويل في سجل الحرية.

لقد وقف المجتمع بكل طبقاته ضد اجراءات وتعسف الاحزاب الدينية الاسلامية وتشكلت معارضة اجتماعية قوية، وهذا ما لمسناه في ثورة تشرين عام 2019، كون المجتمع متعدد الاديان والاعراق ولا يمكن حكمه من خلال طيف ديني واحد وتطبيق عقائده واحكامه الفقهية على الاديان والمذاهب الاخرى فعمدت الاحزاب على خلق الفوضى في المجتمع العراقي وترهلت اركان الدولة فامتدت يد السارقين، المدعومين من قبل قادة الاحزاب الدينية، الى اموال الشعب وحصلت ابشع جرائم السرقة والارهاب والتخريب المتعمد للمجتمع وانهيار كل ركائزه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية ووقف الجميع، سياسيون ومواطنون، امام ظاهرة اللادولة التي رسمتها الاحزاب الدينية وتسيد مجموعات وميليشيات تأتمر الحكومة الضعيفة بأوامرها، وتفتت النسيج الاجتماعي وعانى المواطن العراقي من الحيف والجوع والبطالة والامية ونقص الخدمات الكبير وتقطعت جذور المواطنة فاصبح المواطن دائم البحث عن أية بقعة في الكون يقف عليها تحفظ كرامته وتصون شرفه وكبرياءه.

لم تكتف هذه الاحزاب بكل هذا الخراب بل عملت على تنشيط الدولة العميقة التي انشأتها ضمن التوافقات ونظام المحاصصة الطائفية والعرقية كي تأخذ بالكامل مكان الدولة العراقية التي اصبحت كيانا هشا ولا دولة وافرغت العملية الديمقراطية من مضامينها الانسانية والحضارية واصبح المواطن دائم التندر عند سماعه لمفردتي الديمقراطية والانتخابات، وهذا ما كرسته الاحزاب الدينية في عقل المواطن البسيط طيلة الدورات الانتخابية، ودفعته لمقاطعتها والتي لم تحصل نسبة المشاركة في معظمها عن 20 بالمئة رغم عمليات التزوير والترهيب والترغيب التي مارستها ضد هذا المواطن الاعزل فاصبحت الديمقراطية سبّة في نظر المواطن لانها لم تجلب له سوى الكوارث وعصابات السرقة والارهاب والتخريب المنظم للبلد..لم تتخل الاحزاب الاسلامية عن مشروعها الديني واحلام دولتها المريضة التي سوقتها وزوقتها على انها أمر الهي وفرض رباني على كل مسلم ومسلمة وابتدأت بالعمل على الحل الاسلامي، بعيدا عن الدولة، بين اوساط الأكثرية من ابناء المجتمع الذين يعانون من الفقر والحرمان والبطالة والامية وافساد عقولهم من اجل تمرير مشاريعها الحزبية المغلفة بالنصوص الدينية وتسويقها على انها الخلاص الوحيد لهم لتحريرهم من هذا الواقع المزري الذي جلبته الديمقراطية التي جاء بها الكفرة والملحدون اعداء الاسلام، وعملوا من اول يوم حطوا ركابهم في الوطن ويعملون ليل نهار على ترسيخ هذه الفكرة من اجل تكون مطالبة الاكثرية باقامة دولة العدل الالهي التي ستشيدها الاحزاب الدينية وهم يضربون عصفورين بحجر اولهما القضاء على اي شكل للدولة في البلد والثاني مسخ صورة الاسلام الحنيف في نفوس المواطنين لأن بناء دولتهم، التي افترضها فكرهم الديني القاصر، على غرار دولتي القاعدة وداعش المجرمتين.

الشعب العراقي لن تنطلي عليه هذه الاكاذيب ويراقب عن كثب كيف انهم دمروا دولته وبنوا اللادولة التي سخر ويسخر منها العالم يوميا، لكنه سيعيد بناء هذه الدولة من جديد بعد تحجيم دور هذه الاحزاب وعزلها اجتماعيا واحالة رموزها الى القانون ومساءلتهم عن جرائمهم في سرقة اموال الشعب وتخريب المجتمع وكل ما اقترفوه من اشاعة للوهم والخرافات والعيش في الزيف والبطلان. اللادولة التي انشأتها الاحزاب الدينية والقوى والاحزاب الشوفينية الكارهة للعراق منذ عقدين ستكون، في المستقبل القريب، دولة قوية بُناتُها الوطنيون الاحرار الشرفاء..

عن "المدى"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية