الاستخدام السياسي للجهاديين وتنامي التطرف والإرهاب

الاستخدام السياسي للجهاديين وتنامي التطرف والإرهاب

الاستخدام السياسي للجهاديين وتنامي التطرف والإرهاب


29/01/2024

خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تزايد بشكل لافت حضور وانتشار الجماعات الإسلامية المنتمية إلى "السلفية الجهادية"، وبات نشاط هذه الجماعات والكيفية التي اتبعتها أنظمة الحكم المختلفة في التعامل مع الظاهرة بمجملها، يشكّلان معاً واحداً من أهمّ مظاهر العنف السياسي في العديد من البلدان العربية. كان مما زاد "التيار الجهادي" قوّة في ذلك الحين اكتسابه خبرات ميدانية عسكرية وتنظيمية، وقنوات دعم ماليّ هائلة خلال سنوات ما عُرف بـ "الجهاد الأفغاني"، والذي مدّه أيضاً بالمزيد من التعصّب الديني والتصلّب الأيديولوجي، فضلاً عمّا تحقق من مكاسب دعائية وأساليب دعوية، برع الجهاديون في تطويرها واستثمارها. بعد ذلك غادر قسم كبير من "المجاهدين" أفغانستان حاملين رؤاهم الأيديولوجية وخبراتهم العسكرية والتنظيمية إلى بلدانهم الأصلية؛ كمصر والجزائر، في حين انتقل آخرون إلى "ساحات جهادية" أخرى؛ كالشيشان والبوسنة وغيرها.

 

مع ظهور القاعدة شرع الجهاديّون يشقّون طريقهم إلى مرحلة أشدّ خطورة وتعقيداً عنوانها الجهاد العالمي

كان من العلامات الفارقة في "الجهاد الأفغاني"، أنّ الرمزية الدينية لمفهوم "الجهاد" في الإسلام جرى توظيفها سياسياً وأيديولوجياً وعسكرياً في سياق الحرب الباردة التي كانت تشارف على نهايتها بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق. فقد دعم الأمريكيون وحلفاؤهم من الدول العربية المقاتلين الإسلاميين، من الأفغان وغيرهم، في القتال ضد السوفييت، بالاستفادة من (وبتعزيز) مشاعر الكراهية والرفض التي حملها الإسلاميون عموماً ضدّ الاتحاد السوفييتي بوصفه معقل "الشيوعية الكافرة". لكنّ التاريخ مارس مكره وجعل من داعمي "الجهاد" ورعاته السابقين ضحايا له بعد حين.

مع ظهور "القاعدة" شرع الجهاديّون يشقّون طريقهم إلى مرحلة أشدّ خطورة وتعقيداً عنوانها "الجهاد العالمي"، لاسيما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، والتي كان من تداعياتها الكارثية اندراج الإسلام عبر أكثر نسخه تطرّفاً؛ أي "السلفية الجهادية"، في المشهد العالمي المتشكّل مطلع الألفية الثالثة. حتى أنّ النظر إلى الإسلام في الكثير من البلدان والمجتمعات بات يمرّ عبر هذه النسخة البائسة، فإرهابها المتلطّي بالدين أصبح ظاهرة منتشرة في شتى أصقاع الأرض. ومما لا يقلّ خطورة، أنّ ذلك الإرهاب أسفر عن ظهور "أدلوجة" جديدة تحت اسم "مكافحة الإرهاب"، أصبحت ذريعة للتدخل في شؤون الدول، وكذلك من أجل قمع الثورات الشعبية.

على أنّه خلافاً لما تقول به التفسيرات "المؤامراتية"، فإنّ استخدام المنظمات الجهادية سياسياً من قبل بعض الحكومات وأجهزتها الأمنية لا يعني بالضرورة أنّ تكون تلك المنظمات "من صنع المخابرات". فإنّ وجود أساس صلب من العقيدة تقوم عليه التنظيمات الجهادية يشكّل العامل الحاسم في تجنيد الأعضاء واستقطاب المناصرين، وهذا يجعل من الصعب والمستبعد أن تتمكّن أجهزة أمن تتبع هذه الدولة أو تلك من تشكيل أو تنظيم جهادي أو التحكم به بشكل كامل ولو من خلف ستار. لكن، من الممكن ضمن ظروف معيّنة، أن تنجح الأجهزة الأمنية وعملاؤها في إحداث اختراق في أحد المستويات القيادية لتنظيم ما، والسعي من خلاله إلى دفع بعض المجموعات التابعة له للقيام بعمل أو الامتناع عنه، خدمةً لمصلحة الطرف الذي قام بالاختراق. وهناك أشكال أخرى للخروقات الأمنية تبدو أقرب إلى "التفاهمات" مع قيادة التنظيم؛ حيث تقوم على التوافق الظرفي في المصالح بين التنظيم المعني وبين هذه الجهة أو تلك. وهنا يعيد "الأمراء" تكييف المبررات "الشرعية" والأيديولوجية ومناقلة الأولويات وتعديل سلّم ترتيب الأعداء مرحليّاً بغية ضمان التزام "المجاهدين" بالعمل وفق الأهداف التي تتطلّبها تلك التفاهمات الخفيّة، فهم أدوات التنظيم وقوته الضاربة.

تحويل الإسلام لأيديولوجيا سياسية من قبل الإسلاميين أفسح المجال أكثر أمام الأنظمة والقوى السياسية لتستثمر في الجهاديين

تجدر الإشارة إلى أنّ الاستخدام السياسي للظاهرة الجهادية لم يعد مقتصراً على البلدان العربية والإسلامية؛ فالتيارات اليمينية الشعبوية الصاعدة في مختلف الدول الأوروبية تستثمر في الظاهرة، وتعمل على تضخيمها إعلامياً لتبرير تطرّفها القومي وعنصريّتها تجاه اللاجئين والمهاجرين المنحدرين من أصول إسلامية، وذلك بالإصرار على ربط الإسلام بالتطرّف والإرهاب والنظر إلى كل مسلم بوصفه "سلفياً جهادياً" محتملاً. والخطورة تكمن في أنّ ذلك سيصبّ في مصلحة الجهاديين الفعليين؛ لأن خطاب كهذا من شأنه أن يدفع بالكثير من اللاجئين الشباب المسلمين إلى التطرّف، نتيجة لما يولّده لديهم من إحباط وغضب، وبالتالي سيصبح هؤلاء هدفاً سهلاً للجماعات الجهادية، التي ستعمل على تجنيدهم لصالحها مستغلّة حالة الغضب والإحباط تلك، خاصّة وأنّها تعتبر نفسها الصورة الأنقى للإسلام. أليست مفارقة غريبة أنّ يصبح استثمار الدعاية "السلفية الجهادية" إستراتيجية مشتركة تجمع بين الجهاديين وبين من يفترض أنّهم خصومهم من الفئات اليمينية المتطرفة، فكلّ منهما يتذرّع بالآخر لتأكيد مواقفه واستقطاب مناصرين جدد.

إنّ تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا سياسية من قبل الإسلاميين، بسياسييهم عموماً وجهادييهم على نحو خاص، بما يعنيه ذلك من عبث بالدين لأغراض سياسية سلطوية، أفسح المجال أكثر فأكثر أمام الأنظمة الحاكمة والقوى السياسية المختلفة لكي تستثمر هي أيضاً في "الجهاديين" كلّ على طريقته، مما جعل "الإسلام" نفسه موضوعاً للتجاذب السياسي، ومادة تعبوية دعائية يستخدمها كلّ فريق تبعاً لمصالحه، على حساب الطاقة الروحية التي ينطوي عليه الإسلام بوصفه ديناً سماوياً، مما يؤثّر سلباً على جوانبه الأخلاقية ومقاصده الإنسانية.

الصفحة الرئيسية