الانتماء إلى الجماعات الدينية.. مسألة دينية أم اجتماعية؟

الانتماء إلى الجماعات الدينية.. مسألة دينية أم اجتماعية؟


03/03/2020

ما زال البحث والتأمل في دوافع الإقبال على الانضمام إلى الجماعات الدينية، يُشّكل تحدياً للباحثين والمخططين للسياسات الاجتماعية والسياسية، فقد صعد الدين في العالم باعتباره مكوناً رئيسياً في تَشكّل اتجاهات وأفكار وانتماءات الأفراد، ومشاركاتهم السياسية والاجتماعية، وعاملاً مؤثراً في سياسات الدول والقيادات السياسية، وفي بناء الهويات الوطنية والاجتماعية للأمم.

اقرأ أيضاً: هل يساعد الدين المجتمعات في أداء رسالتها؟
تُقدّمُ الجماعات الدينية نفسها، رغم تعددها واختلافها بين الأديان وفي عالم الدين الواحد؛ على أنّها الاستجابة الصحيحة لما يريده الله من الناس، وترى في الإقبال عليها دافعاً دينياً مستقلاً عن أيّ سياق اجتماعي أو اقتصادي أو نفسي أو بيولوجي، فالدين يبدو مستقلاً عما يدور في العالم الأرضي، إذ إنّه الرسالة التي نزلت من السماء تحمل الحق الواضح، الذي يقود الناس من الظلمات إلى النور، ومن الخطأ إلى الصواب، حيث ترفض هذه الجماعات محاولة تفسير الإقبال عليها أو الإعراض عنها بأسباب اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.

ترى الجماعات الدينية في الإقبال عليها دافعاً دينياً مستقلاً عن أيّ سياق اجتماعي أو اقتصادي أو نفسي أو بيولوجي

ولكنّ الباحث العقلاني في تفسير الظواهر والتشكلات، سواء كان مؤمناً بالدين والرسالات السماوية، أو في حالة حياد أو عدم يقين، يشغله أن يجد الأسباب والعلل التي تجعل الناس يُقبلون أو يعرضون عن الجماعات الدينية؛ بمعزل عن محتوى النص الديني أو اكتشافه؛ فالدين موجود ومعروف للناس، حيث يمارسون تعاليمه أو يتخذون موقفاً منها في اتجاهات ومناهج متعددة ومتباينة؛ ما يجعل ردّها أو تفسيرها بالمحتوى الديني غير متماسك، وقد صارت مقولة سائدة وواسعة الاستخدام؛ أنّ فهم النصوص الدينية وتطبيقها ونشرها في الفضاء العام أو ممارستها في سلوك الفرد واعتقاده هي عمليات إنسانية متعددة ومتباينة، تتأثر حتماً بالعلم والتجارب والمعرفة والبيئة الاقتصادية والاجتماعية المحيطة والمُنشِئة، وكذا المعرفة واللغة والثقافة، وحتى أعضاء ومؤيدو الجماعات الدينية أنفسهم صاروا يستخدمون المناهج المعرفية والعلمية العقلانية في أعمالهم الجامعية والفكرية، بدراسة الظواهر والاتجاهات الدينية في فضائها الاجتماعي والسياسي، وإن كانوا يستخدمون الأدلة العقلية والمعرفية أحياناً، لتعزيز وتأكيد أيديولوجيات دينية؛ يعتقدون أنها نزلت من السماء، وأن صوابها مستمد من هذه "العقيدة"، وليس من التأييد العلمي والعقلي!

اقرأ أيضاً: كيف يمكن للمتديّنين المساهمة في المجال العام؟
لقد مثّلت الجماعات الدينية على اختلاف اتجاهاتها وطبيعتها؛ ملاذاً اجتماعياً للأطفال والناشئة والشباب، حيث أتاحت لأعضائها بيئة اجتماعية متماسكة، وزودتهم بقدر من الشعور بالرضا والانتماء والمشاركة، والارتقاء الروحي والنفسي في بعض الأحيان، كما منحت بعض الجماعات أعضاءها مشاعر قوية بالتميز والاستعلاء.

لا يمكن أن تتشكّل الرغبة بالانخراط في تنظيمات اجتماعية وقانونية من غير الدافع للبحث عن المعنى والجدوى

إنّ البحث عن المعنى والجدوى مسألة وجودية قوية لدى الإنسان، تُمثّل مكوناً مهماً في حياته، وهما (المعنى والجدوى) مطلبان ضروريان للأفراد والجماعات، يلحّان على مشاعر الإنسان وضميره على نحو يجعله غير قادر على مواصلة عمله وحياته دون إجابة مرضية عن هذا السؤال الملحّ، وهو شعور لم يكن خاصاً بمجتمعات الوفرة أو المجتمعات الأكثر تقدماً، بدليل ما توافر وتراكم لمجتمعات تُصنف بالبدائية، لا تقرأ أو تكتب، ولكنها أنشأت أفكاراً ومهارات علمية وثقافية مدهشة ومتقدمة؛ ما يعني بالضرورة أنّها شُغلت كثيراً بالأسئلة الكبرى والأساسية التي شُغلت بها العلوم والفلسفات في المجتمعات والحضارات المتقدمة، وببساطة؛ لا يمكن أن تتشكل الرغبة بالانخراط في تنظيمات اجتماعية وقانونية، من غير الدافع والمحرك الأساسي في البحث عن المعنى والجدوى، وربما يساعدنا هذا المدخل في التفكير والبحث عن الشفاء والسلام النفسي والاجتماعي، وفهم ظاهرة العنف والتطرّف؛ فحين تعجز الأمم عن توفير بيئة اجتماعية اقتصادية تمنح الأفراد والمجتمعات السلام والرضا، تتقدم الجماعات الدينية لتملأ الفراغ. 

حين تعجز الأمم عن توفير بيئة اجتماعية اقتصادية تمنح الأفراد والمجتمعات السلام والرضا تتقدّم الجماعات الدينية لتملأ الفراغ

ويُفترض أن يتشكل معنى الوجود وجدواه تلقائياً، ويجب ألّا يُمثّل ذلك أزمة إلا لفئتين صغيرتين في المجتمعات؛ الأولى هي الرواد والأكثر ذكاءً وإدراكاً، الذين يمنحون، بقلقهم، الأفراد والمجتمعات آفاقاً جديدة للتطوير والمراجعة، أمّا الفئة الأخرى، فتضم العاجزين عن الاندماج في المنظومة الاجتماعية والثقافية بسبب نقص اجتماعي أو لتجارب خاصة تنفرهم من المجتمع أو لأسباب تكوينية تجعلهم يميلون إلى العزلة أو تحدُّ من قدراتهم ومهاراتهم النفسية والاجتماعية، ولذلك؛ تجتذب الجماعات الدينية نسبة كبيرة من الأذكياء والقياديين والطامحين الذين لم يجدوا مكاناً في مؤسسات الدولة والمجتمع، كما تجتذب الذين تعرضوا لأزمات وإساءات وتجارب نفسية واجتماعية أيضاً.
لكنّ معنى الوجود يتشكل على نحو شبه تلقائي في مجتمعات ومدن حقيقية، تشكلت حول موارد وأسواق حقيقية، وفي ذلك ينشئ الناس علاقاتهم ومؤسساتهم، ويديرون وينظمون مواردهم، إلّا أنّ الأزمة تنشأ، بطبيعة الحال، عندما تنفصل حياة الناس وعلاقاتهم وتشكلاتهم الاجتماعية عن المدن والأمكنة والمصالح والموارد، وهي في الواقع أكثر من أزمة، إذ إنها متوالية من الفشل والشرور، فتعجز المدن عن إقامة وإدارة وتنظيم مؤسساتها الأساسية وقياداتها الاجتماعية، وتتحول الخدمات الأساسية؛ كالتعليم والثقافة والرياضة والفنون والحدائق والمكتبات والتضامن الاجتماعي والعلاقات، إلى سلع يوردها مقاولون، كما تعجز الانتخابات البلدية والنقابية عن تقديم قيادات اجتماعية حقيقية، ولا تعود تعكس جدلاً بين البرامج والأفكار لتطوير الخدمات والأعمال، ثم تولد الأزمة الكبرى؛ عندما يتحول وعي الوجود ووعي الذات إلى خدمات وأفكار وحلول منفصلة عن هذا الجدل.

اقرأ أيضاً: ما هي أبرز التحولات الدينية التي رافقت التطور التكنولوجي؟
ويتحوّل سؤال الجدوى والمعنى إلى جحيم أو كابوس؛ عندما لا تعمل المدن والمجتمعات على نحو إيجابي، فتتكوّن جماعات وطبقات مهمشة وغاضبة أو محرومة من مكاسب وموارد الدول والمجتمعات والأسواق، حيث يعكس الانتماء إلى الجماعات الدينية والمتطرفة الغضب والشعور بالظلم والحرمان، وهنا تتحول العلاقة مع الأيديولوجيا، سواء كانت دينية أو قومية أو فكرية، إلى إطارٍ للتمرد والاحتجاج والتعبئة ضد الدول والمجتمعات.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية