البجعة السوداء التي لا يبحث عنها أحد في الحرب الروسية الأوكرانية

البجعة السوداء التي لا يبحث عنها أحد في الحرب الروسية الأوكرانية

البجعة السوداء التي لا يبحث عنها أحد في الحرب الروسية الأوكرانية


10/11/2022

يشير مفهوم البجعة السوداء، الذي نحته نسيم نيكولاس، إلى الحدث النادر أو اللامتوقّع، والذي يفاجئ الجميع؛ فيقلب الأمور رأساً على عقب، تماماً مثلما فعل الهولندي ويليام دي فلامينج، حينما اكتشف وجود بجع أسود اللون في أستراليا، في العام 1697.

والبجعة السوداء تشير كذلك إلى متغير يدفع الأمور إلى مسار مباغت ومختلف، بعيداً عن كل السيناريوهات المتوقعة، ومن ثمّ كان لزاماً على المراقبين وصناع القرار البحث باستمرار عن البجع الأسود، من أجل امتصاص عامل المفاجأة، والتقليل من أثر الصدمات قدر الإمكان، ذلك أنّ ما يُعرف في علوم السياسة بــ "العمى عن البجع الأسود"، يفضي إلى نتائج شديدة السوء، حتى ولو كانت المفاجأة سارة لطرف من الأطراف؛ بسبب انتفاء عامل الاستعداد، الذي يؤدي بالضرورة إلى الفوضى والكوارث الإنسانية، كتلك التي جرت في برلين، في أعقاب انتحار أدولف هتلر، أو العراق في أعقاب اختفاء الجيش العراقي إبان الغزو الأمريكي في العام 2003.

سيناريوهات معتادة لمآلات الحرب الروسية الأوكرانية

تتواصل التوقعات حول نتائج الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ تسعة أشهر، والتي لا تخرج عن ثلاثة سيناريوهات نمطية: يفترض الأول منها نجاح آلة الحرب الروسية الضخمة في كسر المقاومة الأوكرانية، وبالتالي تسليم أوكرانيا بالأمر الواقع، وإقرارها بضم روسيا للأقاليم الأربعة: دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا، مع الإذعان لكل المطالب الروسية الأخرى، والثاني يرتكز على نجاح خطة الغرب في استدراج روسيا لحرب استنزاف طويلة المدى؛ تنجح فيها أوكرانيا بفضل الإمدادات العسكرية الغربية المتطورة، في هزيمة الروس ودحر العدوان، بينما لا يخرج السيناريو الثالث عن فرضية جلوس الطرفين إلى مائدة المفاوضات، والوصول إلى حلول وسط، يقدم فيها كلّ طرف تنازلاته.

أشارت تقارير غربية إلى وجود توتر في العلاقات بين ألكسندر بورتنيكوف، رئيس جهاز الأمن الفيدرالي والرئيس الروسي بوتين

وتخلو كلّ تلك السيناريوهات المحتملة من وجود بجعة سوداء واحدة، ذلك أنّ كل هذه الاحتمالات طبيعية ومتوقعة ووارد حدوثها في أيّ صراع مسلّح، ويمكن لأيّ متابع التنبؤ بها، وترتيب المعطيات التي قد تؤدي إلى كل منها.

الانقلاب على بوتين.. بجعة سوداء أخيرة

في تشرين الأول (أكتوبر) 1917، وفي أثناء انشغال جيش القيصر بالحرب العالمية الثانية، قامت الثورة البلشفية في روسيا، كحدث مباغت لم يتوقعه الحلفاء، ترتب عليه الإطاحة بعائلة رومانوف، وانسحاب الجيش الروسي من الحرب؛ بتوقيع معاهدة سلام منفردة (معاهدة بريست ليتوفسك) مع ألمانيا وحلفائها.

والآن، هل يمكننا التفكير بعيداً عن السيناريوهات المعتادة، بتوقع حدث مشابه، قد يقلب الأمور رأساً على عقب؟

يقول المحلل السياسي الروسي، دميتري أوريشكين، في تصريحات لصحيفة "كييف إندبندنت": "لقد أصبح بوتين رمزاً، وبمجرد أن يشعر الناس بخيبة أملهم في هذا الرمز، سينهار النظام؛ ذلك أنّ النظام بأكمله يرتكز عليه".

تسلط الاضطرابات بين الرتب العليا من الضباط النظاميين في الجيش الروسي، الضوء على أخطاء القيادة في التخطيط للحرب، ما أدّى إلى فشل موسكو في تحقيق هدفها العسكري الأساسي

كما أشارت تقارير غربية متعددة، إلى وجود توتر في العلاقات بين ألكسندر بورتنيكوف، رئيس جهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، والرئيس الروسي الذي أصبح  غير راضٍ عن خليفته المحتمل؛ بسبب تزويده بمعلومات غير صحيحة عن أوكرانيا، أدّت إلى إخفاقات عسكرية، وخسائر فادحة للجيش الروسي.

وتشير التقارير كذلك إلى تشكل جبهة من العسكريين المتقاعدين، باتت ناقمة على بوتين، وعلى رأس هؤلاء جينادي جودكوف، النائب السابق والعقيد المتقاعد بالأمن الفيدرالي، كما حدث نوع من الانقسام بين النخبة السياسية الموجودة حول بوتين، حيث استقال أناتولي تشوبايس، وهو رجل سياسي ثقيل، خدم بوتين وسلفه بوريس يلتسين لعقود من الزمن، من منصبه كمساعد للرئيس وغادر روسيا، كما انتقد أركادي دفوركوفيتش، نائب رئيس الوزراء السابق قرار الحرب ضدّ أوكرانيا، واستقال من منصب كرئيس لمؤسسة سكولكوفو، وهي مؤسسة عالية التقنية تمولها الدولة.

وعلى صعيد الأوليغاركية (النخبة) الروسية، وصف كبار رجال الأعمال: ميخائيل فريدمان، وأليكسي مورداشوف، وفلاديمير ليسين، الحرب بأنّها مأساة ودعوا إلى السلام، كما وصف قطب صناعة الألمنيوم، أوليغ ديريباسكا، الحرب بــ "الجنون" الذي سيخجل منه الأجيال القادمة.

تجنب بوتين تعيين أشخاص مستقلين وطموحين ومؤهلين في الجيش؛ بسبب الخوف من أن يطيح الأخير بالحكومة في أي وقت

وبحسب "كييف إندبندنت"، قال المحللان السياسيان الروسيان؛ أوريشكين، وجورجي ساتاروف، إنّ تصريحات الأوليغاركية الروسية تشير إلى وجود انقسام واضح داخل النخبة السياسية. بينما أكد جينادي جودكوف: "أنّ الأوليغاركيين يفكرون في الانقلاب بالفعل على بوتين منذ فترة طويلة، لكنّهم يخشون التحدث عن ذلك لأنّهم سيُقتلون".

ولكن ماذا عن فرص حدوث انقلاب عسكري في روسيا؟

يقول الفيلسوف السياسي الروسي سيرجي سازونوف، إنّ الجيش الروسي، على عكس الجيش الألماني النازي، غير قادر على تنظيم انقلاب، حيث تجنب بوتين تعيين أشخاص مستقلين وطموحين ومؤهلين في الجيش؛ بسبب الخوف من أن يطيح الأخير بالحكومة في أي وقت. وأضاف أنّه في حالة حدوث انقلاب، فمن المرجح أن يتم تنظيمه من قبل مسؤولي جهاز الأمن الفيدرالي؛ فهو أكثر كفاءة واستقلالية نسبياً من الأجهزة الأمنية الأخرى. بالإضافة إلى موظفي خدمة الحماية الفيدرالية (FSO) لأنّهم هم من يحمي بوتين.

تطهير سياسي

وبحسب التقارير الواردة، فإنّ بوتين بدأ بالفعل عملية تطهير في الدوائر المحيطة به، حيث أكد الصحفي الاستقصائي الروسي، أندريه سولداتوف، والناشط الروسي في مجال حقوق الإنسان فلاديمير أوسيتشكين، نقلاً عن مصادرهما الخاصّة، أنّ سيرجي بيسيدا، رئيس الدائرة الخامسة لجهاز الأمن الفيدرالي، ونائبه أناتولي بوليوخ، وُضعا رهن الإقامة الجبرية. وزُعم أنّه تم التحقيق معهما بشأن اختلاس الأموال المخصصة لعمليات التخريب في أوكرانيا، وتقديم معلومات كاذبة حول الوضع السياسي في أوكرانيا.

في غضون ذلك، استقال رومان جافريلوف، نائب رئيس الحرس الوطني الروسي ونقل الصحفي الاستقصائي البلغاري كريستو غروزيف، عن مصادره، أنّ جافريلوف خضع للتحقيق في قضية تتعلق بتسريب معلومات عن تحركات القوات الروسية في أوكرانيا، وعن العمليات العسكرية الروسية الفاشلة التي شارك فيها الحرس الوطني، وتكبد خسائر فادحة.

التراجع العسكري يضرب استقرار الجيش

كان السقوط السريع لمنطقة إيزيوم في مقاطعة خاركيف، هو أسوأ هزيمة عسكرية لروسيا منذ أن أجبرت قواتها على التراجع من العاصمة الأوكرانية كييف في آذار (مارس) الماضي، ما دفع  الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، حليف بوتين الذي كانت قواته في طليعة الحملة العسكرية، إلى التأكيد على أنّه إذا لم يتم إجراء تغييرات في إدارة العملية العسكرية الخاصّة، فإنّه سيضطر للذهاب إلى القيادة، لشرح الوضع الكارثي على الأرض.

جنود أوكرانيون في المناطق المستعادة بإقليم خاركيف

أثار صمت موسكو التام تقريباً بشأن الهزيمة في شمال شرق أوكرانيا، غضباً كبيراً بين بعض المعلقين المؤيدين للحرب، والقوميين الروس على وسائل التواصل الاجتماعي، ومع توالي الهزائم، نشرت وزارة الدفاع الروسية لقطات فيديو، لما قالت إنّها قوات يتم إرسالها إلى منطقة خاركيف، بينما لم يعلق بوتين، ولا وزير الدفاع سيرجي شويغو، علانية على الهزيمة الكبيرة.

تغييرات بالجملة وغضب في الأوساط العسكرية

عُيِّن الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، الذي اشتهر على مدار 44 عاماً بتكتيكات الأرض المحروقة، في الحملات التي قادها في الشيشان وسوريا، قائداً عاماً للعمليات في أوكرانيا في نيسان (أبريل) الماضي، واستمر حوالي 7 أسابيع قبل إقالته؛ كجزء مما بدا أنّه استجابة للخسائر الفادحة والفشل الإستراتيجي.

في الوقت نفسه تقريباً، تم تجريد الكولونيل جنرال أندريه سيرديوكوف، القائد العام لقوات النخبة المحمولة جواً، من منصبه بعد أن تكبدت جميع فرق القوات المحمولة جواً خسائر فادحة.

وفي أسبوع واحد فقط، تمت إقالة الكولونيل جنرال ألكسندر جورافليف، رئيس المنطقة العسكرية الغربية المسؤولة عن خاركيف، حيث فقدت القوات الروسية مساحات شاسعة من الأراضي في أوائل أيلول (سبتمبر) الماضي، وفقاً لصحيفة RBC اليومية الروسية، والتي قالت مؤخراً إنّ قائد المنطقة العسكرية الشرقية في روسيا، الكولونيل ألكسندر تشيكو، قد تم استبداله أيضاً باللفتنانت جنرال رستم مرادوف، ولم يتم تقديم تفسير لذلك.

بدورها، قالت وزارة الدفاع الروسية، إنّها أبعدت الجنرال المسؤول عن الدعم اللوجستي للقوات المسلحة، ديمتري بولجاكوف، وعينت مكانه العقيد ميخائيل ميزينتسيف، والمعروف بلقب "جزار ماريوبول".

يقول المحلل السياسي الروسي، دميتري أوريشكين: لقد أصبح بوتين رمزاً، وبمجرد أن يشعر الناس بخيبة أملهم في هذا الرمز، سينهار النظام؛ ذلك أنّ النظام بأكمله يرتكز عليه

بالتوازي مع ذلك، تم فصل 8 جنرالات، على الأقل، أو إعادة تعيينهم أو تهميشهم بأيّ شكل، منذ بدء الغزو في 24 شباط (فبراير) الماضي، وقالت تقارير الحكومات الغربية إنّ 10 جنرالات، على الأقل عزلوا، وقتل آخرون في المعارك، وهو رقم مرتفع بشكل ملحوظ، وجدير بأن يسبب نوعاً من الغضب المكتوم داخل الأوساط العسكرية الروسية،  كما يتعرض وزير الدفاع الروسي لضغوط في الداخل مع تراجع القوات، وهي ضغوطات من شأنها أن تزيد من حالة الاحتقان والغضب المكتوم ضدّ الرئيس.

تسلط الاضطرابات بين الرتب العليا من الضباط النظاميين في الجيش الروسي، الضوء على أخطاء القيادة في التخطيط للحرب، ما أدّى إلى فشل موسكو في تحقيق هدفها العسكري الأساسي، وهو الاستيلاء السريع على كييف، والإطاحة بالحكومة الأوكرانية، وتعكس عمليات الإقالة المتتالية، تدافع النخب السياسية لإلقاء اللوم على الحرب المكلفة والمتعثرة، حيث يتصاعد النقد الصريح، لا سيما بين الصقور المؤيدين للحرب. وعليه أصبح قادة القوات المسلحة أهدافاً سهلة للنقد، بما في ذلك وزير الدفاع سيرجي شويغو، ورئيس الأركان العامة فاليري جيراسيموف، والرئيس فلاديمير بوتين نفسه.

ربما يفضي كلّ هذا الارتباك والغضب إلى تحرك مفاجئ، من قبل الجنرالات الغاضبين داخل الجيش الروسي، يطيح بالرئيس بوتين، ما يؤدي إلى نزع فتيل الحرب المدمرة، لكنّ خطوة مباغتة كهذه تتطلب قدراً من الاستعداد، لما قد يترتب عليها من كارثة إنسانية، تضرب القوات الروسية في خيرسون وغيرها، بالإضافة إلى الفوضى التي قد تؤدي إلى أزمات فادحة، إن هي حدثت في دولة بحجم روسيا الاتحادية، علاوة على الآثار المترتبة على ذلك الصعيد الدولي، خاصّة في سوريا وليبيا والبلقان.

مواضيع ذات صلة:

"دافوس" انتهى كما ابتدأ: أوكرانيا ووعود تعافي الاقتصاد

كيف توظّف روسيا الحسناوات لكسب العرب في الحرب ضد أوكرانيا؟

أردوغان يفعلها مجدداً: حسابات الربح والخسارة من الحرب في أوكرانيا



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية