التاريخ تكتبه الصور أيضاً

التاريخ تكتبه الصور أيضاً

التاريخ تكتبه الصور أيضاً


22/12/2022

فاروق يوسف

كان لابد لأسطورة ليونيل ميسي أن تتوج بالانتصار الارجنتيني في مونديال قطر.

ربما كان ذلك سببا لإنزعاج الأوروبيين. ليس بدافع العنصرية وهو أمر موضع التباس ولكنهم لا يرغبون في أن يروا نجم ملاعبهم متوجا باعتباره ارجنتينيا.

لو أن الكاميروني كليان مبابي حمل الكأس باعتباره فرنسيا لشعر الأوروبيون بالراحة بالرغم من أن سحنته الأفريقية كانت ستبقيه في نهاية السلم الاجتماعي لولا أنه وهب فرنسا أهدافها الثلاثة.

ولو أن مبابي لعب مع فريق بلاده الأصلية لما نال أي اهتمام يُذكر. الكرة ليست عادلة لأن العالم الذي يقف وراءها لا يرعى عدالته إلا في سياق أفكاره عنها.

المفارقة أن النجمين سيعودان إلى ناديهما بعد أن انتهيا من المعركة الحاسمة بين دولتين تفصل بينهما الاف الكيلومترات والعواطف.

هل سيظل ميسي باعتباره ارجنتينيا محبوبا في فرنسا؟ وكيف سينظر مبابي إلى نجوميته التي لم تنقذ فريقه وهو فريق وطنه البديل قياسا للهويات العرقية من الخسارة؟

ليس من باب التكهن القول إن ميسي الذي خطف الكأس من فرنسا ومنحها لبلاده الأصلية للمرة الثالثة سينهي حياته الكروية وهو في القمة مثله في ذلك مثل البرازيلي بيليه ومواطنه ماردونا. أما مبابي فإنه سيظل عالقا في انتظار فرصة يهب فرنسا من خلالها الكأس. وهي فرصة قد لا تأتي.    

ولأن كرة القدم لعبة معولمة فإن الهويات فيها تكاد أن تختفي. كليان مبابي ولد في باريس، والده كاميروني وأمه جزائرية.

لا ينسى الفرنسيون أن مبابي ليس فرنسيا. الوثائق وحدها تقول ذلك. ولكن تلك الوثائق لا تهب المرء هوية حقيقية. لا تصنع منه مواطنا إلا على الورق. حين يغادر مبابي الملعب ويعتزل كرة القدم فإنه سيعود كاميرونيا. فالهوية الأوروبية طاردة وليست جاذبة كما هو الحال مع الهوية الأميركية.

تلك مشكلة لن تحلها كرة القدم.

تحول ميسي إلى مواطن عالمي حين جلب إلى بلاده الارجنتين الكأس ولكن مبابي بالرغم من أهدافه الثلاثة التي وهبها لفرنسا تظل هويته أفريقية.

ولهذا يمكن القول إن كرة القدم تخفي أسرارا كثيرة. صحيح أن الأقدام فيها تتحدث أكثر من الألسن غير أن هناك حقائق مجاورة يمكنها أن تدحض كل النظريات التي يؤمن بها جمهور كرة القدم.

لقد لعب ميسي ضد مبابي وهما في الأساس يلعبان من أجل جمهور أوروبي مغرم بهما. الفرق بينهما أن ميسي استعاد هويته وكان منسجما مع شخصيته. أما مبابي فقد كان يمثل دورا مسرحيا مؤقتا، بالرغم من قناعته بأن ذلك الدور ينسجم مع مواطنته التي تربى عليها. فهو ولد في باريس ودرس في المدارس الفرنسية وفي إمكانه أن يردد بيسر كلمات النشيد الوطني الفرنسي.

فُجع الكثيرون لأن ميسي ارتدى العباءة العربية وهو يحمل كأس العالم. لم يكن ذلك سلوكا مجانيا، بل كان رسالة محكمة إلى دعاة الإنغلاق على الهويات. وكانت تعبيرا عن شكر مفعم بالمحبة للبلد المضيف الذي وهبه كل هذا الحب. وكان ميسي لحظتها ارجنتينيا بمعنى الانتماء إلى عالم الجنوب الذي يواجه أوروبا.

من المؤكد أن ميسي كان محظوظا على المستوى الإنساني. لعب بانسجام كامل بين هويته الأصلية ورغبته في أن يكون نجما في حين كان مبابي يلعب في ظل اضطراب قلق بين هويته ورغبته في أن يكون سببا لفوز فريق قد يغادره من غير أن يكون سوى جزء مستعار من مكان آخر. هويته هي ذلك المكان. سيُقال "الكاميروني الذي كان هدافا لمونديال 2022".

تلك معادلة هي بمثابة أفق لمستقبل الهويات المتناقضة، الرجراجة والقلقة والتي قد تكون حسب تعبير أمين معلوف "قاتلة".

يصدق المرء أحيانا وفي ذروة الحماسة والانفعال أن الكرة لا هوية لها. ذلك ليس صحيحا. فبغض النظر عن محاولة الرئيس الفرنسي ماكرون كما لو أنه تلقى الصدمة بروح رياضية فإن هناك شعور عميق بالأسف. ذلك لأن فرنسا هُزمت ولم يُهزم الفريق الكروي الفرنسي وحده. جزء عظيم من الشعب الفرنسي سيظل في انتظار المونديال القادم ليستعيد قدرته على أن ينسى.

أما ميسي فإنه برشاقته المنغمة كتب في التاريخ الشعبي الارجنتيني سطرا ذهبيا ستحتل العباءة العربية جزءا مميزا فيه. التاريخ تكتبه الصور أيضا.

عن "ميدل إيست أونلاين"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية