التشيع في البلاد التونسية: قراءة في واقع المذهب بين الممارسة الثقافية والتبعية السياسية

التشيع في البلاد التونسية: قراءة في واقع المذهب بين الممارسة الثقافية والتبعية السياسية

التشيع في البلاد التونسية: قراءة في واقع المذهب بين الممارسة الثقافية والتبعية السياسية


02/11/2023

تثير قضية التشيع في تونس، في ذهنية عدد من الباحثين، الكثير من النقاط التي تتعلق بالتعددية المذهبية في الدين، وأخرى ترتبط بمسألة توظيف الدين في العمل السياسي واستثمار حضوره، وأثر معتنقيه على البيئة المحلية، خاصّة في ظل مراحل الفراغ والتحولات التي تمر بها المجتمعات خلال الثورات، والتي تؤدي إلى هشاشة البنى المؤسسية في الدولة.

نحو ذلك، تكتسب دراسة ظاهرة التشيع في تونس، بشكل عام، وما طرأ فيما بعد العام 2011، أهمية لافتة، لا سيّما أنّ الأمر تماهى مع تحول نمط التشيع نحو المذهب الاثني عشري، ممّا طرح جملة من النقاط، التي تسعى نحو فض الاشتباك فيما بين الديني والسياسي صوب الحالة الشيعية في تونس، ومدى استغلال ذلك سياسياً، فضلاً عن اختبار تموضع ذلك، كونها حالة ثقافية نخبوية محدودة، لا يمثل نشاطها أيّ روابط في الشأن السياسي.

يذهب عدد من الباحثين إلى أنّه على المستوى الداخلي في تونس، لم يكن الشيعة يطمحون قبل الثورة إلى أيّ نشاط سياسي، ولم يكن لهم توجهات ظاهرة صوب الأوضاع السياسية والاجتماعية في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، غير أنّهم انقسموا بعد العام 2011 إلى (3) فرق؛ الأوّل رأى ضرورة الانخراط السياسي في المشهد، وآخر رأى أنّه لا داعي لخوض دوامة السياسة، وأصر فريق ثالث على أنّ شيعة تونس نشطون أصلاً في عدد من الأحزاب القائمة، مثل: حركة النهضة، ونداء تونس، والجبهة الشعبية وغيرها.

 

بسام الجمل: مر التشيع في تونس بثلاث مراحل؛ "التشيع الوجداني والسياسي"، و"التشيع الاجتماعي"، و"التشيع الاثني عشري" 

وبرّر معارضو المشاركة السياسية موقفهم بعدم تحقيق الثورة التونسية كامل أهدافها، وإن أطاحت بنظام الحكم، ولذا لم يكن من المفيد خوض غمار السياسة. وعوضاً عن ذلك، فضلت هذه الفئة التركيز على التكوين الثقافي والعقدي للشيعة التونسيين؛ عبر إنشاء عدد من المكتبات الدينية الشيعية والجمعيات النشطة ثقافياً.

بجانب هذه الهيئات والمنظمات غير الحزبية، بدأت القيادات الشيعية المهتمة بالمشاركة السياسية تتحرك لتأسيس أحزاب، حيث برز حزبان سياسيان اتخذا من المرجعية الشيعية أساساً لهما؛ أوّلهما "حزب الله التونسي"، الذي تأسس في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، على يد سيف الدين العجيلي، لكنّه لم ينل الموافقة القانونية على ممارسته السياسة، أمّا الثاني، فهو "حزب الوحدة" الذي تأسّس أواخر كانون الثاني (يناير) 2013، وهو حزب ذو مرجعية شيعية، لكنّه لا يفصح عن ذلك. ويطالب الحزب بضرورة تقرير حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، كما يؤكد ضرورة التزام المؤسسة الدينية الرسمية الحياد بين جميع المذاهب والآراء الإسلامية، على أن يذكر ذلك بوضوح في الدستور. هذا وشارك حزب الوحدة في الانتخابات التشريعية العام 2014، لكنّه لم يحصل على أيّ مقعد.

في هذا السياق، صدر للأكاديمي التونسي صلاح الدين العامري مؤلفه الذي جاء تحت عنوان " التشيع في البلاد التونسية، بحث في النشأة والتحولات"، الكتاب صدر عن دار نشر مؤمنون بلا حدود، وقدّم له الدكتور بسام الجمل، أستاذ التعليم العالي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية.

غلاف الكتاب

وذهب الجمل في مقدمته نحو القول إنّ المؤلف صلاح الدين العامري أقام البرهان في كتابه على أنّ التشيع في تونس مر بمراحل (3)؛ هي: "التشيع الوجداني والسياسي" أوّلاً، و"التشيع الاجتماعي" ثانياً، و"التشيع الاثنا عشري" ثالثاً. وكان المؤلف واعياً بأنّ أخبار التراث الإسلامي في موضوع التشيّع أنتجت خطاباً عبّر عن حقائق دينية لدى منتجيه ومروّجيه ومستهلكيه. ومن ثم، فإنّ الباحث يتعامل مع تمثلات تاريخية تداخلت في صياغتها عدة اعتبارات؛ منها: ثقافة منتج الخبر وراويه، الانتماء المذهبي، الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة، طبيعة المعرفة في سياق ثقافي محدد، انتظارات المتقبّلين وآفاقهم الذهنية. كلّ ذلك يبرر استعمال المؤلف عبارات من قبيل "التمثلات الواعية واللّاواعية"، و"صناعة التاريخ المفقود".

نشاط ثقافي صرف

يضيف بسام الجمل في موضع آخر خلال تقديمه الكتاب بقوله: ولعل من أهم فصول الكتاب، ذاك الذي تفحص فيه صاحبُه أوضاع الشيعة بتونس بعد "حراك" أو "ثورة" السابع عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر)  2010، ذلك أنّ المؤلّف عوّل على شهادات تاريخية، ومقابلات أجراها بنفسه مع عدد من الشيعة التونسيين المعاصرين، على ما في هذا الاختيار المنهجي من صعوبات وعراقيل، مردها إلى ما يحيط بموضوع التشيع بتونس اليوم من تكتم شديد، زادته مقالة "التقيّة" الإماميّة الاثني عشريّة رسوخاً. وأمكن بفضل تلك الشهادات والمقابلات، عقد مقارنات بينها، ساعدت الباحث على رسم خارطة التشيّع بتونس، وذلك من ناحيتيْ التوزيع الجغرافي للشيعة، وإقامتهم بعدد من المدن التونسية من جهة، وعدد الشيعة التونسيين، وإن على سبيل التقريب والترجيح، من جهة أخرى. ولعلّ القارئ سيتفاجأ حين يُعْلِمه مؤلف الكتاب صلاح الدين العامري، بوجود حسينيّات بتونس اليوم، تقام فيها احتفالات الشيعة. وهذه الحسينيات رأى فيها صاحب الكتاب امتداداً للزاوية. وقد تأكّد لديه أنّ نشاط الشيعة التونسيين اليوم ثقافي صرف، لا يربطه بالشأن السياسي أيّ رابط.

أثر الثورة الإيرانية

خصّص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب للتشيع بالمعنى الفكري المذهبي الاثني عشري. وكانت بداياته في الستينيات، مع التيجاني السماوي، بشكل فردي، بيد أنّه ارتأى أنّ البداية الفعلية كانت مع نجاح الثورة الإيرانية العام 1979م. فقد استهوت الثورة وقائدها جانباً من الإسلاميين في تونس، فاندفعوا وراءها بشكلين: الشكل الأوّل بالمدح والثناء إلى حدّ البيعة من قبل بعض رموز الفكر السنّي. والشكل الثاني تمّ بإعلان الانسلاخ عن المذهب السنّي، واعتناق المذهب الشيعي، من قبل عدد من أبناء الاتجاه الإسلامي، مثل: امبارك بعداش، ومحمّد الرصافي المِقداد، وعماد الدين الحمروني وغيرهم.

مؤلف الكتاب: توجد حسينيّات بتونس اليوم تقام فيها احتفالات الشيعة، وهي امتداد للزاوية، فنشاط الشيعة التونسيين اليوم ثقافي صرف لا يربطه بالشأن السياسي أيّ رابط

 

ويتابع العامري بملاحظة أنّ التشيّع الاثني عشري في البلاد التونسية شهد تراجعاً سريعاً، رغم جهود جماعة "المسلمون السائرون على خطّ الإمام"، بسبب عدم التجاوب الاجتماعي والتضييق السياسي المشدّد من قبل السلطة على التيارات الإسلامية كافّة، في ثمانينيات القرن الماضي. ولكنّه عاد ليظهر من جديد بعد الإنجازات العسكرية لحزب الله اللبناني مع العام 2000م، وبتأثير مباشر من شخصية أمينه العام حسن نصر الله.

تشيع أم تعاطف؟

رغم تبنّي الاثني عشرية التونسيين الإيديولوجيا الشيعية المعاصرة، فإنّهم لا يبدون انضباطاً كليّاً لمبادئها، وبقوا منشدّين إلى الذهنية الدينية التونسية في مستوى الممارسة، باعتبار أنّ غالبيتهم لا يلتزم بمسائل مميّزة للمسلم الشيعي مثل: تقليد المرجع الديني في المسائل النظرية والعملية في الصيام والإفطار، ودفع الخمس، وكيفية إحياء المناسبات الشيعية وغيرها من التفاصيل الغائبة.

الأكاديمي التونسي صلاح الدين العامري

تسهّل هذه المعطيات على الباحث تصنيف التونسيين الشيعة ضمن المتعاطفين مع المذهب الشيعي، أكثر من كونهم شيعة عقائديين، وإن حرص بعضهم على إظهار تشيّعه العقدي. فالمعلوم أنّ التشيّع الاثني عشري المعاصر يغلب عليه الطابع السياسي، ولكنّ الشيعة التونسيين ينخرطون فيه باعتباره اتجاهاً ثقافيّاً ذا طابع فقهي أساساً. وبدا للباحث من خلال مقابلاته معهم أنّ عدداً منهم منشدّ إلى قراءة التاريخ الإسلامي القديم، بشكل ومضامين تختلف عمّا تقبّله في البداية من المصادر السنيّة. ومن أسباب عدم انسجام التونسيين الشيعة مع المنظومة الاثني عشريّة، هو بقاء التشيّع حالات فرديّة معزولة عن بعضها البعض، لأسباب اجتماعية وأمنية. ويعني هذا الوضع أنّه يصعب الحديث عن جماعة شيعية في تونس بالمعنى السوسيولوجي، أو عن طائفة بالمعنى الديني والمذهبي.

ويلفت مؤلف الكتاب نحو ملاحظة منهجية، ذهب إلى كونها جديرة بالتذكير، حين قال: "إنّ ما بذلناه من جهد في الحفر في الحالة الشيعية المعاصرة في تونس، لا نعتبره نتائج نهائية، بل نعدّها لبنة مهمّة في هذا السياق، تقبل التعديل والمراجعة مع كلّ حادث أو اكتشاف"، وهذا طبيعيّ بسبب السريّة التي رافقت نشأة هذه التجربة وظهورها وتواصلها.

بين التشيع السياسي والتشيع المذهبي

في المقابل، يذهب الأكاديمي التونسي عبد الله جنوف إلى القول: إنّ ثمة تمييزاً في تونس بين "التشيّع السياسي" والتشيع المذهبي"، إذ  نشأ الأوّل في سياقين هما: الثورة الإيرانية، ونشاط الاتجاه الإسلامي في الجامعة.

فأمّا الثورة الإيرانية، فقد أيدها التيار الإسلامي في تونس ودافع عنها، واعتبرها ثورة إسلامية، وتأثر بالجانب الإيديولوجي منها، في حالة كانت تفسر الإسلام تأويلاً سياسيّاً، وتوظفه في مواجهة الخصوم السياسيين. ويبدو هذا الأمر في أهداف الثورة كما لخصها زعيم حركة النهضة راشد الغنّوشي يومئذٍ، وهي "محاربة الاستبداد"، ومحاربة الفوارق الطبقية"، و"محاربة التبعية السياسية للإمبريالية العالمية"، و"تحرير المجتمع الإيراني من الثقافة الاستعمارية المائعة". وليس في هذه الأهداف سوى هدف واحد يخصّ المجتمع الإيراني، وقد اقترن "بالثقافة الاستعمارية المائعة"، التي يرى الإسلاميون أنّها غزت بلادهم وأنّهم مكلّفون بمواجهتها.

وأمّا الأهداف الأخرى؛ فيمكن تطبيقها في المجتمعات الإسلامية كلّها. وهذا يعني أنّ الثورة الإيرانية كانت عند الإسلاميّين مثالاً يمكن القياس عليه، وأنّها نبّهتهم إلى قدرة الإسلام على قيادة الثورات لإسقاط الاستبداد، وبعثت فيهم أملاً قويّاً، في نجاح "الصحوة الإسلامية" في قيادة "المشروع الحضاري" الذي كانوا يتحدّثون عنه، وولّدت في نفوسهم إعجاباً بالقيادة الدينية والصبر الشعبي.

وأمّا نشاط الاتّجاه الإسلامي في الجامعة، فالمقصود به ما جرى في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وقد كانت الجامعة التونسية يومئذٍ ميداناً لصراع إيديولوجي بين اليساريين والقوميين والإسلاميين. وكان الطلبة اليساريون يستفيدون من الدراسات الفلسفية العربية والغربية، في مجادلتهم للإسلاميين الذين كانت كتب الإخوان والكتب الدينية "السنيّة" عامّة مصدر ثقافتهم. ولم يكن فيها جواب عن كلّ سؤال. ووُجد الجواب في كتب مؤلّفين من الشيعة؛ أشهرهم: علي شريعتي، ومحمّد باقر الصدر، وجلال الدين الفارسي. ثمّ تداول الطلبة والتلاميذ كتب مرتضى مطهّري، ومحمّد حسين فضل الله، وهادي المدرّسي، ومحمّد تقيّ المدرّسي، ومحمّد حسين الطباطبائي. وقد نشأ في إطار عمل الاتجاه الإسلامي تيّار إسلامي متشيّع سُمِّي "طلبة خطّ الإمام"، واسمهم اقتباس لاسم الطلبة الإيرانيين (دانشجویان مسلمان پیرو خط إمام)، الذين اقتحموا السفارة الأمريكية في إيران في تشرين الثاني (نوفمبر) 1979. وفي هذين السياقين تشكّل ما يُعرف في تونس بالتشيع السياسي، وهو موقفٌ سياسيٌّ مؤيّدٌ لإيران، غيرُ مؤسَّس في نشأته على اعتقاد دينيّ شيعيّ.

مواضيع ذات صلة:

هكذا تُعسكِر إيران التشيع في العراق

إيران تكثف حملات التشيع في سوريا... ما الجديد؟

المغرب في مواجهة التشيع الإيراني في غرب أفريقيا



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية