الجمهور الصامت في العراق وأدواره السلبية

الجمهور الصامت في العراق وأدواره السلبية


31/08/2022

الجمهور صفة دالة على الكثرة من الأفراد، وقد ينقسم إلى الجمهور الحزبي والجمهور الشعبي والجمهور الرياضي والجمهور الفني والجمهور النخبوي وغيرها، وبغضّ النظر عن طبيعته فإنّ كثافة الجماهير السياسية التي تؤيد الأحزاب الحالية في العراق، يقابلها جمهور صامت لا يؤيد الأحزاب، ولا يشترك بالانتخابات أصلاً، ويُعدّها غير ذات جدوى، حسب تعبيره.

الصمت في بعض الأحيان دلالة على الحياد والاستقلالية، ولكن ما يحدث في العراق من صمت سياسي من قبل إعداد كبيرة لا يمكن فهمه أنّه حياد واستقلالية؛ بل هو عدم تحمّل المسؤولية الوطنية في إبداء الرأي والاختيار، والانتظار والاتكال على الآخر لكي يمارس الدور بدلاً عنهم.

مارس العراقيون ما بعد التغيير السياسي (9/4/2003) سلسلة من الانتخابات، فقد تم إجراء (5) انتخابات (2005 ـ2010 -2014 -2018 -2021)، وفي جميع هذه الانتخابات كان هناك جمهور صامت لم يشترك، ومع أول انتخابات عام 2005 كان عددهم بحدود 30% بالقياس إلى الجمهور الفاعل والمشارك، وفي الانتخابات الأخيرة 2021 أصبح عددهم يقترب من 70%.  

بدون المشاركة الواسعة من قبل الجمهور الصامت، سوف يبقى العراق في دوامة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، وسيبقى الجميع يدور في حلقة مفرغة ينتظر الحل دون أن يساهم في إيجاده

المقاطعون الصامتون ليسوا على وتيرة واحدة، فبينهم النخبة المثقفة (طبيب، أستاذ،...)، ونخب مترفة (تجار، رجال أعمال)، وبينهم الطبقة الوسطى؛ بل أعداد كبيرة من الطبقات الفقيرة التي لم تجد أيّ جدوى من المشاركة في تغيير الواقع الاقتصادي نحو الأفضل؛ بل العكس؛ فالوضع الاقتصادي بدأ بالتراجع بشكل واضح، خاصة مع زيادة البطالة وارتفاع الأسعار.  

وأسباب مقاطعتهم ليست على وتيرة واحدة، فمنهم من هو معارض للعملية السياسية،   ومنهم من هو متكاسل من تحديث بطاقته وسجله الانتخابي، ومنهم من هو يائس من مخرجات الانتخابات مع كل دورة، ومنهم من يستغل هذا الحدث المهم الذي تعطي فيه الدولة عطلة رسمية لكي يذهب مع عائلته في نزهة، ويتمنّى أن يشارك غيره في إحداث التغيير.  

أبرز أسباب وجود جمهور صامت لا يشارك في إبداء رأيه في الانتخابات هو توقع التزوير في النتائج مسبقاً، وهذا أكبر خطأ وقع فيه الجمهور الصامت، ودائماً يتم تكرار عبارات متداولة مع بداية كل انتخابات (النتائج جاهزة وقد أعدّت سلفاً، القضية منتهية لصالح الكتل السياسية الحالية، النتائج محسومة وموزعة بين الكتل بالتساوي، مهما فعلت، فسوف يتم التزوير،... وغيرها). ونعتقد أنّ التفكير الجمعي عند الأغلبية الصامتة أعطى جائزة كبيرة للكتل السياسية وجماهيرها، فقد ساهمت هذه الإجابات في الفشل، والسبب الرئيس الذي يساهم في تعبيد الطريق لكلّ من يريد أن يعبث، حيث إنّ الإقبال على الانتخاب يقلل وجود أوراق انتخابية زائدة ممكن أن تستثمر سلباً، والإقبال على الانتخاب يُصعّب التلاعب بالسجلات الانتخابية، مثلاً التوقيع بدل آخر، أو استعمال اسم آخر... وغيرها ، ثم حتى وإن افترضنا أنّ وسائل التزوير كثيرة ومتعددة، فسيكون هناك فرق كبير بين أن تكون عقبة أمام طرق التزوير، وبين أن تكون سبباً في التزوير .

هناك عدد من الأسئلة تدور حول طبيعة هذا الجمهور الصامت؛ من هم؟ وهل دورهم السلبي ووقوفهم على التل يؤثر على واقع العراق السياسي ومستقبله؟

الجمهور الصامت في العراق هو ما يشار فيه إلى تلك الأعداد الكبيرة من المواطنين ممّن يحق لهم التصويت في الانتخابات، ويرفضون المشاركة، ويقاطعون كلّ انتخابات تجري في العراق، والغريب أنّ هذا الجمهور في تزايد، على خلاف الجمهور الحزبي الذي هو دائماً على استعداد للانتخاب وللتظاهر وغيرها من النشاطات السياسية.   

صحيح أنّ الجمهور الصامت له رؤيته الخاصة في عملية المقاطعة، وله مبررات يحددها قبيل كل انتخابات، ولكن لا بدّ من توضيح أبرز الآثار السلبية لهذا الجمهور الصامت في العزوف عن الانتخابات العراقية، لعل من أبرزها:

1- مشاركة الجمهور الحزبي وغياب الجمهور الصامت في الانتخابات جعل الكتل السياسية والأحزاب السياسية متواجدة في جميع الدورات الانتخابية ثابتة دون صعود أو اختلاف في طبيعة الكتل والأحزاب المهيمنة على المشهد السياسي منذ 2003 لغاية 2022.
2- غياب الجمهور الصامت يمنع حصول كتلة معينة على الأغلبية التي تمكنها من تشكيل حكومة قوية ومتجانسة.
3- غياب الجمهور الصامت سوف يسهل عملية التزوير والتلاعب بالنتائج، كون الأوراق الانتخابية الفائضة متوفرة والحقول المخصصة في السجلات فارغة.  

إذن، كيف يحدث التغيير والجمهور الصامت يرفض المشاركة في الانتخابات، وهي الطريقة السلمية الوحيدة للتغيير؟ فهو غير قادر على إحداث التغيير العنيف عن طريق الثورة الشعبية، وكذلك غير قادر على إحداث التغيير بالطرق السلمية بالانتخابات، فالجمهور الصامت يعوّل على المجتمع الدولي أن يحدث التغيير كالذي حدث عام 2003، وهذا مستحيل، لأنّ الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة على النظام الدولي، كون الأخير أحادي القطبية، لن تشترك بأيّ حرب برّية أو أيّ هجوم برّي نحو أيّ دولة أخرى؛ لأنّ التجربة في العراق كانت باهظة الثمن، وجعلتها تجربة ودرساً قاسياً استفادت منه في تغيير إستراتيجيتها في التعامل مع الدول المختلفة مع توجهاتها، فقد بدأت تتجه إلى الحرب الاقتصادية، وفرض العقوبات دون المجازفة بالحرب التقليدية.  

ما يحدث في العراق من صمت سياسي من قبل إعداد كبيرة لا يمكن فهمه أنّه حياد واستقلالية بل هو عدم تحمّل المسؤولية الوطنية في إبداء الرأي والاختيار

في الآونة الأخيرة ظهرت تظاهرات للتيار الصدري وتيارات مضادة للإطار التنسيقي،   وهنا أيضاً كان غياب الجمهور الصامت واضحاً، فهم لم يدعموا طرفاً ضد طرف، وبقي أغلبهم في المنازل، بل الأكثر من ذلك ظهر دور صامت للنواب المستقلين، فهم لم يُشكّلوا كتلة مستقلة موحدة، ولم ينضموا إلى التيار، ولا إلى الإطار، ممّا جعل مواقفهم صامتة،   وأعدادهم هنا ليست بالقليلة، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فإنّ الجمهور المؤيد للتيار وفق آخر انتخابات تقريباً (850.000) ألف ناخب، وجمهور الإطار بحدود (1.800.000) ناخب، والمجموع بحدود (2) مليون ونصف تقريباً، وعدد من يحق لهم الانتخاب في آخر انتخابات جرت في 10/10/2021 كان بحدود (23) مليون ناخب، ممّا يعني أنّ الجمهور الصامت عن هذه التظاهرات يُقدّر بحوالي (20) مليوناً، ممّا يعني أنّ الجمهور الصامت عن تظاهرات التيار والإطار هو الأغلبية الصامتة التي لم تحدد موقفاً انتخابياً، ولم تحدد موقفاً احتجاجياً.

لذلك، لا بدّ لهذا الجمهور الكبير والمؤثر أن يبدي موقفه، وأن يعمل على المشاركة الواسعة، كون التغيير السلمي عن طريق الانتخابات سوف يُجنب العراق وأهله العنف   والقتال، ونستغرب من أنّ البعض يقلل من أهمية الانتخابات في التغيير، وعلى العكس لو حدثت مشاركة واسعة في الانتخابات تقترب من 90%، فسوف يتمّ إيجاد نخب سياسية جديدة، وقد تحمل في أفكارها حلولاً عجزت عن تقديمها الكتل السياسية التقليدية.   

وبدون المشاركة الواسعة من قبل الجمهور الصامت، سوف يبقى العراق في دوامة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، والجميع سوف يبقى يدور في حلقة مفرغة ينتظر الحل دون أن يساهم في إيجاده.

*أكاديمي في كلية العلوم السياسية/ جامعة بغداد



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية