الحرب الروسية الأوكرانية ومحاكاة معضلة العربة الجامحة

الحرب الروسية الأوكرانية ومحاكاة معضلة العربة الجامحة

الحرب الروسية الأوكرانية ومحاكاة معضلة العربة الجامحة


27/12/2022

تخيل أنّك تقف بالقرب من خط الترام، ترصد عربة جامحة، تتدحرج بسرعة فوق القضبان باتجاه (5) عمال، لا يمكنهم الانتباه إليها، بينما هي قادمة لتدهسهم، وحتى لو اكتشفوا ذلك، فلن يكون بوسعهم الابتعاد عن طريقها في الوقت المناسب.

بينما تلوح هذه الكارثة في الأفق، ترى رافعة إذا قمت بسحبها، فسيتم تحويل العربة إلى مسار آخر، يوجد به عامل واحد، غافل تماماً مثل زملائه، والآن، هل ستسحب الرافعة ممّا يؤدي إلى وفاة شخص واحد وإنقاذ (5)؟

هذا هو جوهر المعضلة الكلاسيكية المعروفة باسم معضلة العربة، التي طرحتها فيليبا فوت في العام 1967، وطورتها جوديث جارفيس طومسون في عام 1985.

وتمنحنا معضلة العربة مساحة للتفكير في عواقب أفعالنا، والنظر فيما إذا كانت قيمتها الأخلاقية تتحدد من خلال نتائجها فقط، أم أنّ هناك مؤثرات أخرى؟ وبالتالي تبدو التجربة كأداة مرنة لفحص حدسنا الأخلاقي.

العربة الجامحة في خيرسون

كانت خيرسون أول مدينة رئيسية يستولي عليها الروس في الأيام الأولى من الحرب، وفي الأشهر الـ (8) التي تلت ذلك، باتت العاصمة الإقليمية الوحيدة التي يهيمن عليها الروس، كما كانت إحدى الأماكن التي ضمها فلاديمير بوتين رسمياً، في أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي.

بدأت القوات الأوكرانية في شن هجمات مضادة محدودة تستهدف منطقة خيرسون، في وقت مبكر من أيّار (مايو) الماضي. وفي الصيف بدأت في استخدام أنظمة الصواريخ التي تم الحصول عليها حديثاً، ممّا أدى إلى عزل القوات الروسية في المنطقة عن طرق ضرب خطوط إعادة الإمداد، قبل أن يبدأ هجوم أوكراني واسع النطاق لتحرير خيرسون في بداية أيلول (سبتمبر) الماضي، ومع الضغط وهجمات القناصة أصبح الجيش الروسي تحت حصار صعب، وجاء مقتل الرئيس الإداري للاحتلال في خيرسون كيريل ستريموسوف؛ ليضيف إلى معاناة الروس في المدينة المزيد من المصاعب.

تمنحنا معضلة العربة مساحة للتفكير في عواقب أفعالنا، والنظر فيما إذا كانت قيمتها الأخلاقية تتحدد من خلال نتائجها فقط، أم أنّ هناك مؤثرات أخرى؟

وبحسب روب لي، الزميل الأول في معهد أبحاث السياسة الخارجية، فإنّ انهيار القوات الروسية إلى الغرب من نهر دنيبرو، كان كفيلاً بوضع المزيد من الأهداف العسكرية الروسية داخل مدى صواريخ GMLRS الأوكرانية، بما في ذلك النقاط اللوجستية في شبه جزيرة القرم، ممّا يضر بقدرة روسيا على تعزيز الوحدات الأخرى على الأراضي الأوكرانية؛ وبالتالي كان الانسحاب ضرورياً رغم تكلفته العالية.

كان الجيش الروسي أمام خيارين؛ إمّا التمسك بخيرسون، والاستعداد لتحمل خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، في ظل انقطاع الإمدادات اللوجستية، بالإضافة إلى حلول الشتاء، وإمّا الانسحاب وتحمّل تبعات الخسائر المتوقعة جراء التراجع الذي قد يتحول إلى عملية فوضوية، إذا شن الجيش الأوكراني هجوماً انتقامياً، بالإضافة إلى حتمية التخلي عن كمية كبيرة من المعدات، واحتمالية غرق عدد غير قليل من الجنود في نهر دنيبرو، والتضحية بمجموعة من الجنود تقرر إبقاؤها داخل المدينة  لشغل القوات المهاجمة، حتى يتم إكمال الانسحاب. وفي المقابل فإنّه إذا تمكنت روسيا من سحب وحداتها دون خسائر فادحة، فمن المحتمل أن تكون في وضع أقوى للاحتفاظ بخطوطها الأمامية الحالية؛ ومن ثمّ تستطيع تحريك هذه القوات بسهولة في دونباس وزابوريزهزيا.

وعليه، اختارت القيادة الروسية تحويل دفة العربة إلى المسار الثاني، وأمر وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، والقائد الجديد للقوات الروسية في أوكرانيا، سيرجي سوروفيكين، بسحب القوات الروسية من المدينة، واختيار التضحية بجزء من القوات لإنقاذ الباقين. وبالفعل، وفي غضون ساعات، تحركت القوات الأوكرانية بسرعة عبر ضواحي خيرسون، حيث واجهت مقاومة ضعيفة، قبل أن تكمل سيطرتها على المدينة.

قتل الأسرى على طريقة البدين الوغد

تخيل أنّك تقف على جسر للمشاة فوق مسارات الترام، وترى العربة الجامحة وهي تندفع نحو العمال الـ (5) المطمئنين، لكن هذه المرة لا توجد رافعة لتحويل مسارها. وبدلاً من ذلك هناك رجل بدين يقف بجانبك على جسر المشاة، وأنت واثق من أنّ حجمه سيوقف الترام إن قمت بدفعه نحو المسار، فهل ستدفع الرجل نحو القضبان، وتضحي به من أجل إيقاف العربة، وبذلك تنقذ (5) آخرين؟

على الرغم من أنّ نتيجة هذا السيناريو مماثلة لتلك التي تمخض عنها استخدام الرافعة لتحويل العربة إلى مسار آخر: وفاة شخص؛ وبقاء (5) أشخاص على قيد الحياة، لكنّ الشيء المثير للاهتمام هو أنّه في حين أنّ معظم الناس رأوا ضرورة استخدام الرافعة، فإنّ قلّة قليلة منهم وافقوا على دفع الرجل البدين نحو القضبان.

انهيار القوات الروسية إلى الغرب من نهر دنيبرو، كان كفيلاً بوضع المزيد من الأهداف العسكرية الروسية داخل مدى صواريخ GMLRS الأوكرانية

وبالطريقة نفسها قدّم لنا طومسون وفلاسفة آخرون سيناريوهات أخرى حول معضلة العربة، مثل: هل تقتل المريض السليم وتحصل على أعضائه لإنقاذ (5) آخرين؟

العواقب كما هي في المعضلة الأولى، لكنّ معظم الناس يرفضون تماماً فكرة دفع الرجل البدين، أو قتل المريض السليم. ذلك أنّه، وبحسب فوت، هناك فارق بين القتل والسماح بالموت، ممّا يعني أنّ حدسنا الأخلاقي ليس ثابتاً أو متعلقاً بالنتائج، أو الطرح المنطقي المجرد من المشاعر الإنسانية، أو ما يُطلق عليه مبدأ التأثير المزدوج، والذي ينص على أنّه يجوز التسبب في ضرر بشكل غير مباشر، إذا كان الإجراء ينتج عنه مصلحة أكبر. ومع ذلك، لا يجوز التسبب في ضرر بشكل مباشر، حتى في السعي وراء منفعة أكبر.

ولكن ماذا لو كان الرجل البدين وغداً؟ وماذا لو كان هو الذي عرّض حياة الأشخاص الـ (5) للخطر؟ في هذه الحالة يتجلى التبرير الأخلاقي لدفعه نحو القضبان، وإنقاذ الـ (5) الآخرين، بشكل يبدو إلزامياً.

أثارت سلسلة من مقاطع الفيديو التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي  جدلاً حول ما إذا كانت القوات الأوكرانية ارتكبت جرائم حرب، أثناء محاولتها القبض على مجموعة من الجنود الروس الذين قُتلوا بعد ذلك.

تُظهر مقاطع الفيديو التي تم التحقق من صحتها من قبل صحيفة "نيويورك تايمز"، مشاهد مروعة، حيث يبدو أنّ (11) أسيراً روسياً على الأقل، شوهد معظمهم ملقى على الأرض، قُتلوا بالرصاص من مسافة قريبة.

تمّ تداول مقاطع الفيديو لأول مرة عن طريق قنوات الأخبار الأوكرانية، وقنوات التواصل الاجتماعي، التي استخدمتها للإشادة بالبراعة العسكرية لقواتها المسلحة، والإعلان عن استعادتها للأراضي التي احتلتها روسيا في وقت مبكر من الحرب. ويبدو أنّ القيادة الأوكرانية استراحت إلى مفهوم البدين الوغد؛ كمبرر لقتل الأسرى الروس، بدافع الانتقام من جهة، وتوجيه رسالة من شأنها تدمير الروح المعنوية المنهارة في الأساس لدى الجنود الروس، ورفع الروح المعنوية للأوكرانيين في المقابل.

عمليات القتل وقعت عندما استعاد الجيش الأوكراني السيطرة على قرية ماكييفكا، في منطقة لوهانسك في 12 تشرين الثاني الماضي

مارتا هورتادو، المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أكدت لوكالة "رويترز" للأنباء أنّه يجب إجراء تحقيق سريع وكامل وفعال، في مزاعم الإعدام التي جرت بحق أشخاص عاجزين عن القتال، ومحاسبة الجناة بموجب القانون الدولي.

جدير بالذكر أنّ عمليات القتل وقعت عندما استعاد الجيش الأوكراني السيطرة على قرية ماكييفكا، في منطقة لوهانسك، في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، حيث تكبدت القوات الروسية خسائر فادحة، وأظهرت مقاطع فيديو من الخطوط الأمامية في شرق أوكرانيا استسلاماً واضحاً لعدد من الجنود الروس، في حادثة انتهت بوفاتهم، واتهمت روسيا، فيما بعد، القوات الأوكرانية بإعدام مجموعة من الأسرى الروس، في إجراء وصفته بأنّه جريمة حرب.

يمكن القول إنّ الحرب وضعت الجميع أمام تحديات أخلاقية صعبة، وإنّ الموت المجاني صار قدراً محتماً، بعد أن أصبح الجميع في اتجاه العربة الجامحة، والتي لم يُغنِ خيار تحويل مسارها عن إزهاق أرواح آخرين، بل وجدت الضحية تبريراً أخلاقياً لسفك الدماء، وإشباع شهوة الانتقام.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية