الخروج من التاريخ: هل استوعب العرب الماضي ودروسه؟

الخروج من التاريخ: هل استوعب العرب الماضي ودروسه؟


04/11/2020

يبدو أنّ العرب على موعد دائم مع امتحان الخروج من التاريخ، فقد أصبح العالم العربي الذي تسعى تركيا وإيران، وبدعم قطري، لافتراس أجزاء غالية منه، أقرب إلى دويلات عربية تفتقد الأمن والاستقرار، وترتع على أراضيها قوى ظلامية تفرض وجودها على الشعب بقوة السلاح، ومدعومة من دول الجوار، في عودة قديمة إلى عصر ما قبل الدولة القومية والانتقال إلى عهد الدولة الفاشلة، وليبيا واليمن خير مثال على تلك التحولات.

معنى الخروج من التاريخ

يُعرف أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور مصطفى كامل السيد "الخروج من التاريخ" بافتقاد الشعوب والأمم السيطرة على تشكيل مصيرها أو توجيه أوضاعها الداخلية والخارجية، وتحافظ الدول في هذه الحالة على استقلالها الرسمي، ولكن تُملي عليها أطراف خارجية سياساتها الاقتصادية، وتوجهاتها الثقافية، وقد تتدخل في اختيار أشخاص وتركيبة الجماعة الحاكمة فيها، كما تحدد هذه الأطراف الخارجية نمط علاقاتها بجيرانها الأقربين بل وبالقوى الإقليمية والدولية.

العرب يرسبون في اختبار التاريخ

لم يكن الاختبار الحالي هو المرة الأولى التي شهد فيها العالم العربي مثل تلك الاختبارات التي تهدد حياة الأمم ووجودها واستمرارها؛ فالأمة العربية شهدت انتقال الخلافة العباسية من بغداد إلى القاهرة التي اجتاحتها جحافل المغول، وسقوط آخر الممالك العربية في الأندلس ثم احتلال الإمبراطورية العثمانية لأغلب أرجاء الوطن العربي منذ القرن السادس عشر.

العرب على موعد دائم مع امتحان الخروج من التاريخ كل فترة

كما استقر على أراضيها التتار والصليبيون والعثمانيون والقوى الاستعمارية الكبرى لقرون، ولكن تلك الموجات العدوانية انكسرت وفشلت في سحق العرب برغم ما تركت على الشخصية العربية من ندوب وتشوهات، ونجاحها أحياناً في إقصائهم بصورة مؤقتة من التاريخ.

العالم العربي يعيش الآن مضاعفات أمراض مزمنة ظل يعاني منها لعقود طويلة

ولكن يبدو أنّ حظ العرب من النجاح في اختبار التاريخ هذه المرة يتضاءل بمحض إرادتهم في مشهد أقرب إلى الانتحار الجماعي، فلهيب التطرف والإرهاب ينتشر في ربوع الوطن العربي، يُحرق الضحايا وتُلتهم مقدراتهم وثرواتهم.

اقرأ أيضاً: الشيشاني ورأس معلم التاريخ المقطوع

لكن يجدر هنا التأكيد أنّ الأزمات والتحديات التي يواجهها العالم العربي هي تحولات كيفية ناتجة عن تغيرات كمية بالتعبير الهيجلي الماركسي؛ فالعرب عانوا في القرن الماضي من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وحروب كان لها تداعياتها على واقعهم السياسي.

ثلاثة أسئلة تبحث عن إجابة

 لا يمكن أن نحلل ما يجري دون أن نرى كيف تكونت تلك الظاهرة الاجتماعية محل الدراسة ودور التاريخ في تأسيس تلك الظاهرة، ويوضح أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة عين شمس الدكتور فوزي منصور في كتابه "خروج العرب من التاريخ"، الصادر في طبعته العربية في العام 1993، أنّ هناك ثلاث مجموعات من التساؤلات يجب الإجابة عليها لفهم ما جرى للعرب وما يجري. فما هو دور الأوضاع الداخلية والظروف الخارجية في إيجادها؟ وأين ينتهي الماضي ويبدأ الحاضر؟ وما هو العنصر المسيطر بين مختلف العناصر التي تتكون منها الظاهرة؟

غلاف الكتاب

ينسى العرب دائماً أنهم جزء لا يتجزأ من العالم الثالث حين أُدمجت هذه البلاد في النظام الاقتصادي العالمي في أوقات مختلفة، لكن هذا الدمج حدث دائماً في وقت كان فيه البلد المُدمج في مركز ضعف شديد سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً وثقافياً، مما ساهم في تشكيل الكثير مما يحدث في تلك البلاد على نحو يخدم الاحتياجات الاقتصادية والجغرافية السياسية للمركز المسيطر في النظام بدلاً من أن يخدم احتياجات تطورها المستقل.

انكسرت الموجات العدوانية وفشلت في سحق العرب برغم ما تركت على الشخصية العربية من ندوب وتشوهات

وأسوة ببقية بلاد العالم الثالث، قاومت البلاد العربية بطرق شتى افتئات النظام الاقتصادي العالمي على استقلالها، ويجب هنا الإشارة لطبيعة النظام الاقتصادي العالمي فوفقاً لمنصور فهو نظام اقتصادي إمبراطوري يتكون من منظومة من الاقتصادات الوطنية البسيطة المنقسمة إلى نوعين؛ هما الاقتصادات الوطنية المسيطرة والاقتصادات الوطنية التابعة، وهي منسقة على هيئة تراتبية، ويستمد هذا النظام تماسكه من طبيعة الطرق الخاصة التي يتدفق الفائض الاقتصادي عبرها إلى المركز، ويتدعم هذا النظام المركب سياسياً بشبكة معقدة من التحالفات الطبقية.

اقرأ أيضاً: كيف استغل أردوغان تزييف التاريخ العثماني في ليبيا؟‎

ولفهم علاقة العرب بالماضي الذي يُلقي بظلاله الكثيفة على علاقتهم بالحاضر يتساءل صاحب كتاب "خروج العرب من التاريخ" حول مدى استيعاب العرب للماضي ودروسه وهل تجاوزوه ليصبح دعامة لواقع حي أم أنّه يمثل قيداً على الحاضر ويعوقه عن اللحاق بركب العالم المعاصر بحجة صراع الأصالة والمعاصرة وتضخيم مسألة التراث في الوعي العربي، بل قد يتطاول الماضي فيقدم نفسه على أنه بديل عن الحاضر.

ينسى العرب دائماً أنهم جزء لا يتجزأ من العالم الثالث فقد أُدمجت هذه البلاد في النظام الاقتصادي العالمي في أوقات مختلفة

في الحالة الأولى، تكون مشاكل آنية معاصرة، ينبغي أن تفهم وأن تحل وفقاً لطبيعتها ومتطلباتها، بينما قد ينبغي النظر في الحالة الثانية في شتى مناحي الحياة الاجتماعية المعاصرة بحثاً عن جذور هذا الماضي الذي يزاحم الحاضر على الحياة لكي نتعرف على سر حيويته وسلطانه.

التنمية المستقلة

وضع منصور وصفة علاجية اقتصادية؛ فهو يرى أنّ الحل هو التنمية المعتمدة على النفس المتمركزة على الذات، وأنّ البديل ببساطة هو استمرار تبعية العالم العربي للنظام الاقتصادي العالمي من موقف يزداد ضعفاً باطراد فهذا المسار الذي سار فيه العرب حد النهاية يؤدي إلى تآكل أي مشروعية لا تزال باقية للدول القائمة، وإلى تصاعد الحركة التشتيتية التي تقوم بها الأقليات الإثنية والدينية في داخلها، والحل الواقعي يكمن في اندماج اقتصادي يعزز الاستفادة من الموارد المتنوعة التي توضع تحت تصرفه وتتسع أسواق منتجاته، حتى تسخر موارد العرب الموزعة على أجزاء الوطن العربي بصورة غير متكافئة للغاية.

 يبدو أن حظ العرب من النجاح في اختبار التاريخ هذه المرة يتضاءل بمحض إرادتهم

ربما يبدو هذا الخطاب للقارئ أنه قد تجاوزه الزمن، خاصة بعد تغير الأولويات بحيث توارى حلم الوحدة العربية أمام انقسامات العرب وتفكك العديد من دولهم، وتبدُّل التحديات التي تهدد المنطقة ليصبح التناقض الرئيسي الآن مع التيارات الإسلامية المتطرفة المدعومة من تركيا وإيران وقطر، ولكن كما تؤكد قوانين التاريخ أنّ العالم العربي يعيش الآن مضاعفات أمراض مزمنة ظل يعاني منها لعقود طويلة، أهم أسبابها موقعه التابع اقتصادياً وسياسياً في النظام العالمي؛ فالعرب الآن يجنون ما زرعوا من إخفاقات في القرن الماضي حتى أصبح الانسداد التاريخي، على حد تعبير الباحث هاشم صالح، هو سمة الحاضر العربي ومرضه القاتل.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية