الدراما التاريخية التركية.. ما أبرز الرسائل والإسقاطات الكامنة خلف الرواية؟

الدراما التاريخية التركية.. ما أبرز الرسائل والإسقاطات الكامنة خلف الرواية؟


31/08/2021

"قيامة أرطغرل"، و"عاصمة عبد الحميد"، و"كوت العمارة"، و"محمد الفاتح"، و"المؤسس عثمان"، و"الأسد الباسل"، و"نهضة السلاجقة العظمى"، جميعها أسماء لمسلسلات تاريخيّة تناولت اللحظة التأسيسية والتبلور التاريخي للأمة التركية المعاصرة، وكانت مسلسلات قومية بامتياز، باعتبارها تتبع نشوء وتطور هذه "الأمّة"،  وذلك انطلاقاً من انتقاء لحظات تاريخيّة معيّنة تمثل منعطفات في تاريخها، ومن ثم يكون التركيز على التمجيد والتعظيم بالدرجة الأولى.

ولم تخفِ الدولة التركية اهتمامها ودعمها لهذه الأعمال، وهو ما ظهر عبر دعمها اللوجستي والمعنوي لها، من قبيل إنتاج ودعم التلفزيون التركي الرسمي (TRT) لأهم هذه الأعمال دعم المسلسل وعرضها عبر قنواته، وزيارة الرئيس أردوغان لموقع تصوير مسلسل قيامة أرطغرل، وكذلك اصطحابه عدداً من ممثلي المسلسل في زيارته إلى الكويت عام 2017.

يعود مسلسل "قيامة أرطغرل" إلى لحظة التأسيس والانبعاث و"القيام" الأولى لـ "الأمة التركيّة - العثمانيّة"

في هذا التقرير سنقف عند "قيامة أرطغرل"، باعتباره نموذجاً لتلك الأعمال، نظراً لما حصل عليه من الدعم الصريح والترويج بالشكل الأكبر، وكذلك نظراً لما لاقاه من انتشار ورواج واسع بين المشاهدين، داخل تركيا وخارجها. يتناول المسلسل قصة والد مؤسس الدولة العثمانية، كقائد قبيلة تبوأ لمهمة تكوين دولة جديدة تحمل "لواء الإسلام"، خلال القرن الثالث عشر الميلادي. لقد كان العمل خيالياً بالضرورة، نظراً لكون شخصية "أرطغرل" لم تُسَجّل وتوثق في كتب التاريخ المعاصرة له (رغم ثبوت وجودها من الناحية الآثاريّة)، وإنما ظهرت الكتابات عنها في عصر لاحق وكانت أقرب للحكايات الشعبيّة، وهنا لا تكون المحاكمة والتساؤلات من زاوية التحقق التاريخي من الأحداث، باعتبار ثبوت خياليّتها، وإنما عمّا يقوله ويحاول أن يفصح عنه هذا الخيال.

لحظة انبثاق وتشكل.. طهرانيّة وصفاء

يعود مسلسل "قيامة أرطغرل" إلى لحظة التأسيس والانبعاث و"القيام" الأولى لـ "الأمة التركيّة - العثمانيّة"، وهي لحظة سابقة وممهدة لقيام الدولة العثمانية عام 1299، على يد "عثمان"، ابن أرطغرل. هي لحظة التأسيس والانبعاث، كما يوحي اسم المسلسل. وهو في أساسه مسلسل قوميّ بامتياز يبحث في قصة الأمة والقومية التركيّة المعاصرة، عن بداية حكايتها وبداية تشكّلها كأمة مرتبطة بأرض ووطن، هو تحديداً "الأناضول"، وذلك بعد أن كانت جزءاً من القبائل التركمانيّة المتنقّلة في السهوب الممتدة بمناطق أواسط القارّة الآسيويّة.

يترك "قيامة أرطغرل" المشاهد أمام شعور بالتناقض وتأنيب الضمير بسبب الابتعاد عن اللحظة الطهرانيّة والغرق بعيداً عنها وعن قيمها

وهذه اللحظة هي لحظة حنينيّة بامتياز، هي لحظة طهرانية، بعيدة عن أي كدر وإشكاليات ومسائل خلافيّة، من تلك التي ظهرت وطرأت في تاريخ الدولة العثمانية اللاحق، فلا حديث هنا عن ترف وتقلب في النعم والثروات، أو رغبة في الاستئثار بالملك والسلطة، أو فساد، بل الأساس هو التضحية والتفاني في سبيل "القبيلة" التي ستصبح عماداً ونواةً أولى لـ "الدولة". إنها "الروح التأسيسيّة" للدولة العثمانيّة/التركية، التي يحاول المسلسل أن يبرزها وينقلها للمشاهد.

مثال على مشاهد اجتماعات الصليبيين التآمرية.. محاولة لترسيخ فكرة المواجهة مع الأعداء الأشرار

يصوّر المسلسل زمن ماضٍ سابق على العصر العثماني، تسود فيه التعاليم الدينيّة والتقاليد الصوفيّة وتمتزج مع القيم القبليّة النبيلة، وتنحسر أمامها حظوظ النفس، حيث تدور أحداثه في فترة لا وجود فيها لمظاهر الترف والقصور و"حريم السلطان" التي ارتبطت بالعهود اللاحقة من التاريخ العثماني. وتطغى على امتداد الحلقات الطويلة مشاهد الفروسيّة والشجاعة والملاحم الأسطورية، والاستطراد في سبيل ذلك في تصوير خيالي يتعمد المبالغة، وبحيث يغرق المُشاهِد في ذلك الجو الصافي النقيّ، ولا يعود أمامه سوى التعبير عن التبجيل والاحترام والتقدير التام لتلك اللحظة المتعالية من التاريخ.

اقرأ أيضاً: لا مشكلة مع تركيا.. المشكلة مع أرطغرل

في هذا السياق الدرامي الملحمي، تظهر شخصية "أرطغرل" والمقاتلين من حوله، كإسقاط وتجسيد لما يجب أن يكون عليه العثمانيون عبر تاريخهم، ومن ثم الأتراك والعالم الإسلامي في اللحظة المعاصرة والراهنة، وهو ما يترك المشاهد أمام شعور بالتناقض وتأنيب الضمير بسبب الابتعاد عن تلك اللحظة والغرق بعيداً عنها وعن قيمها، يمتزج بشعور ملحّ للتمسّك بها والمطالبة باعادة استحضارها.

المواجهة المفتوحة مع "الأعداء"

تتمحور قصة مسلسل أرطغرل حول مغادرة القبيلة لأراضي آسيا الوسطى ولجوئها إلى الأناضول هرباً من زحف المغول، وفي الأناضول تبدأ مهمة تأسيس "وطن" جديد، ولكن ذلك لا يكون ميسّراً بل محفوفاً بالصعاب والمخاطر، فالأعداء يحيطون بالقبيلة، وأولهم الصليبيون الذين كانت لهم إمارة حينها في أنطاكيا، وهناك من السلاجقة في الأناضول من يتعاون معهم كذلك.

أمام هذه الظروف يكون السبيل لتأسيس الوطن هو الغزو والجهاد، فتنخرط القبيلة في حرب مقدسة تمتزج فيها مصلحة القبيلة بالقيم والمبادئ الدينية، وتختلط معاني الفروسيّة والتضحية بقيم الجهاد والشهادة. ويتكرر الحديث بين قادة القبيلة عن حُلُم يسعون لتحقيقه هو رفع "راية الله" وراء البحار والجبال والوديان، والتي هي راية القبيلة.

تأتي هذه المسلسلات لتتسق مع مشروع وتوجّه أعمّ في تركيا يعمل على صناعة هوية جديدة للبلاد تقوم بالأساس على إعادة التركيز والاستحضار للإرث التاريخي

لقد كانت الدولة الوليدة عبارة عن تجمع لغزاة على الحدود، يضمّون لأرضهم (وطنهم) ما ينتزعون من أراضي الأعداء على الجبهات والثغور، إذ ترفض القبيلة أي تسوية مع الأعداء الكفار وتصرّ باستمرار على خوض حرب الجهاد المقدّسة، في سبيل القبيلة، الوطن، والدين. وهذه الحرب المستمرة بين الأتراك والآخرين، يصوّرها المسلسل على أنها حرب بين الخير والشر، وذلك مع التأكيد على ذلك من خلال الإخراج، عبر التقنيات البصرية والصوتية التي تُحَبِب المُشاهد بقوى الخير وتنفّره من قوى الشر، يتم ذلك مثلاً عبر إظهار اجتماعات الصليبيين التآمرية في زوايا قاعات القلاع الموحشة، أو عبر إظهار فرسان القبيلة التركية بخيولهم البيضاء، فيما يمتطي الأعداء الخيول السوداء.

شخصية محيي الدين بن عربي.. جاء حضورها بالمسلسل في إطار مساعي التأكيد على الترابط ما بين الدين والسياسة

وهكذا، فإنّ "الأعداء" يحتلّون حصة مهمة من محتوى المسلسل وحبكته، وذلك يحمل بالطبع إسقاطات ورسائل ذات صفة راهنة، بداية من المضامين المتعلقة بالتاريخ التركي المعاصر والسياسات التركية الراهنة، بما في ذلك من مواجهات مع الأعداء والخصوم الكُثر المحيطين بالدولة التركية، من اليونان، والأرمن، والصرب، والبلغار، والأوروبيين، إلى المعارضين الأكراد وحركة الخدمة في الداخل، وهو ركن أساس في الخطاب السياسي التركي الراهن والذي يتردد فيه الحديث عن وجود استهداف ومؤامرات مستترة تحاك لتركيا وتهدد وجودها وتُحرّض على إضعافها، وبالتالي جاء المسلسل ليداعب هذا المخيال ويؤكد عليه ويرسّخه.

مصالحة مع الماضي.. خلق رأي عام محافظ

تأتي هذه المسلسلات التاريخية لتتسق مع مشروع وتوجّه أعمّ في تركيا يعمل على صناعة هوية جديدة للبلاد تقوم بالأساس على إعادة التركيز والاستحضار للبعد الإسلامي والإرث التاريخي باعتباره مكوّناً أساسيّاً في القوميّة التركيّة، وذلك كرؤية مقابلة ومضادّة للتصوّرات القومية العلمانية الحداثيّة، التي قامت على فكرة القطيعة مع الماضي والموروث، وظلّت طاغية منذ تأسيس الجمهورية في عشرينيات القرن الماضي وحتى فترة متأخّرة منه.

اقرأ أيضاً: قيامة "أرطغرل" التركي وحلم الخلافة

في هذا السياق، تؤدي مسلسلات الدراما التاريخيّة دوراً معنويّا داخلياً يتمثل في تنشيط وتعزيز الهوية الإسلامية التركية، وبالتالي استبدال الهوية العلمانيّة التي أرساها مؤسس الجمهورية، أتاتورك. تُركز هذه المسلسلات على التاريخ العثماني، وهي تحرص على إظهاره بطابع إيجابي حيث تسود قيم التضحية، والفروسيّة، والبطولة، وتطغى معاني الجهاد، والفتوحات، والعظمة القوميّة، لتهدف بذلك، بطريقة ناعمة، غير مباشرة، لمصالحة الشعب التركي، وبخاصّة فئة الشباب، مع ماضيه العثماني، وذلك بعد ما جرى إلصاق صفات الظلامية والرجعية بهذه المرحلة الطويلة من تاريخ الأمّة التركيّة، وبالتحديد منذ قيام الجمهورية التركيّة المعاصرة وما صاحبها من إلغاء منصب الخلافة الإسلامية واعتبار كل ما يقترن بمنظومة "الخلافة" إرثاً من الماضي ينبغي تجاوزه والقطع معه. وهنا تأتي هذه المسلسلات ضمن مساعي الدولة التركية لتغذية مشاعر تمزج ما بين القيم القومية والدينية، مع تعزيز الحنين إلى مراحل العصر الإمبراطوري العثماني.

يوصل المسلسل رسالة مفادها أنّ الأتراك هم الأصلح لتولي مهمة إعادة بث روح الإسلام وقيادة العالم الإسلامي

ويبرز في مسلسل أرطغرل تحديداً التركيز على تصوير واستحضار الطقوس والمظاهر الإسلامية وتصويرها بأنها قيم تركيّة مقترنة بالضرورة بالأتراك. فكل حدث في المسلسل له تبرير ديني، وكل خطوة وقرار يتخذه قادة القبيلة هو تنفيذ لمشيئة إلهيّة. وفي هذا السياق أيضاً يبالغ المسلسل بإبراز دور وشخصية المتصوّف الأندلسي، محيي الدين بن عربي (المعروف بـ "الشيخ الأكبر")، والذي عاصر مرحلة أرطغرل وتواجد في مناطق بالمشرق حينها، وتنقّل ما بين مدنه، بما في ذلك حلب وقونية القريبتين من مناطق قبيلة أرطغرل، إلا أنه لم يثبت تاريخياً حصول اللقاء بينه وبين أرطغرل، وبالرغم من ذلك فإنّ المسلسل يجعل منه بمثابة المرشد الديني والمعلّم لأرطغرل، فهو يقدم النصيحة والتعليمات الدينية له ويعزز ذلك بذكر الآيات القرآنية والأحاديث الدينية. ويؤكد هذا الدور الممنوح لابن عربي في المسلسل  على أهمية الدين في الحياة السياسية، ويُعزز المزج ما بين المسوغات التاريخية والدينية لتشكل وقيامة الأمة التركيّة، وهو يتفق بذلك مع خطاب وتوجهات حزب العدالة والتنمية وقاعدته الانتخابية داخل تركيا، ومؤيديه من المتعاطفين معه ومع قيادته في عموم العالم الإسلامي.

في خدمة "القوة الناعمة".. الأتراك وتركيا في القيادة

تتكرر عبر حلقات مسلسل "قيامة أرطغرل" نبؤات تتحدث عن توحيد قبيلة "القايي" المنحدرة من قبائل "الأوغوز"، ومن ثم قيامهم بتوحيد العالم الإسلامي، والتكفّل بمهمة نشر الإسلام وراء البحار وفي "أقاليم الأرض السبعة". وتطغى على المسلسل مشاهد محاربة الأتراك للصليبيين، مع  الانتصار المتكرر على الصليبيين، يترافق ذلك مع المبالغة في إظهار المقاتل التركي في صورة المقاتل الغاية في القوة والبسالة والشجاعة والفتك.

في حين ينبع أساس الجاذبية للمسلسل لدى الكثير من المشاهدين بسبب مداعبته للحنين والنوستالجيا التاريخية، واستغلال الإحساس والرغبة لدى المشاهد بتجاوز حالة الضعف والتفكك والارتقاء نحو الاتحاد الروحي المتمثل بالخلافة. كلّ ذلك، يتوافق مع التوجّه العثماني لدى الدولة التركية، والسعي لتعزيز المَد العثماني/التركي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. إذ يخدم مثل هذا المسلسل غاية تغيير صورة تركيا والإنسان التركي والنظم و"الحضارة" التركية في المخيال العربي والمسلم، وبحيث يتم تصوير تركيا والأتراك  على أنهم أصحاب الرسالة، وأنهم الأصلح لتولي مهمة إعادة بث روح الإسلام، وقيادة العالم الإسلامي.

ينبع أساس الجاذبية للمسلسل من مداعبته للحنين والنوستالجيا التاريخية، واستغلال الإحساس والرغبة لدى المشاهد بتجاوز حالة الضعف والتفكك

ويتعزز التأكيد على الدور التركي في مسلسل "قيامة أرطغرل" مع تجاهل المسلسل التامّ للخلافة العباسية التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وكان في فترة أرطغرل عدد من الخلفاء العباسيين البارزين ممن طالت فترات حكمهم وكان لهم دور مهم في الأحداث السياسية بالمنطقة في حينه، كالخليفة الناصر لدين الله، والمستنصر بالله، والمستعصم بالله.

وبينما يبالغ المسلسل في تقديم بطل المسلسل، أرطغرل، باعتباره القائد الذي هزم الصليبيين، يتغاضى بشكل تامّ عن دور المماليك المصريين، بقيادة سيف الدين قطز، والظاهر بيبرس، والذين بعدما هزموا المغول في معركة عين جالوت، توجّهوا لإمارة أنطاكيّة الصليبية التي دعمت المغول، وقضوا عليها عام 1268، فيتم إغفال السلطنة المصريّة-الشاميّة، والجيوش المنطلقة من مصر، التي كانت القطر ذا الثقل الأهم، مقابل تمجيد وإعلاء شأن قبيلة أرطغرل التركمانية التي كانت مجرد قبيلة رعوية تبحث عن أرض للاستقرار، والسبب وراء ذلك هو أن هذه القبيلة ستصبح النواة والأساس الذي سينطلق منه الأتراك العثمانيون، وامتدادهم، الامّة التركيّة المعاصرة.

وهكذا، فإن المسلسل يهدف إلى خلق وتكريس ما يمكن تسميته بـ "الهوى العثماني" في الرأي العام العربي والمسلم، وذلك بما يخدم دعم الصعود التركي الراهن، وما يستند له من تصورات ومخيلة، وكل ذلك في سبيل خدمة أهداف الدولة التركيّة السياسية، وتعزيز استراتيجية الموقع القيادي في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، حيث يأتي المسلسل ليخلق نوعاً من الشرعية التاريخية الضاربة في عمق التاريخ لهذا الدور القيادي، وليتشابك الزمن الماضي مع الزمن الراهن الذي يتردد فيه - ضمن خطاب القيادة التركيّة - الحديث عن قيادة ورعاية وإغاثة لشؤون وقضايا "الأمة الإسلاميّة"، وهو ما يتكرر مع المناسبات والازمات المختلفة، من إغاثة تركيا لمسلمي ميانمار، إلى المطالبة بحقوق الإيغور، إلى محاولة فك الحصار عن قطاع غزة، إلى تصاعد الخطاب التركي حول الدفاع عن مدينة القدس كما ظهر بعد القرار الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس عام 2017.

الصفحة الرئيسية