الذكاء الإنساني والاصطناعي.. أيهما ينتصر؟

الذكاء الإنساني والاصطناعي.. أيهما ينتصر؟

الذكاء الإنساني والاصطناعي.. أيهما ينتصر؟


21/02/2023

تقترب الإنسانية شيئاً فشيئاً من امتحان مصيري عنوانه الحسم في التعامل مع معضلة الذكاء الاصطناعي، ولهذا نعاين صدور عدة أعمال بحثيّة حول الموضوع، وخاصة في المجال الغربي، في شقيّه؛ الأوروبي والأمريكي، مقابل تواضع الإصدارات في المنطقة العربية، وإن كنا نعاين خلال الأعوام الأخيرة صدور بعض الترجمات، لكنّها متواضعة إجمالاً، مقارنة مع الطلب على الموضوع، أو على الأقل مقارنة مع ما هو مطلوب من دور النشر والمؤسسات البحثية من جامعات وكليات.

في هذا الصدد، نشرع بين الفينة والأخرى في التوقف عند بعض هذه الأعمال، وقد ارتأينا افتتاحها بأحدث أعمال الباحث الفرنسي من أصل مغاربي إدريس أبركان، ويشتغل على ما يُصطلح عليه تبسيط العلوم للمتلقي، وهو باحث ومتتبع جيد للقضايا المرتبطة بالذكاء الاصطناعي وصراعات القوى العظمى حول تكنولوجيات المستقبل، وأعماله المنشورة تشهد له بذلك، ومنها كتابه هذا الذي يحمل عنوان "انتصار الذكاء: لماذا لن تعوّضكم الآلات قط"، ويُحيل العنوان على انتصار الذكاء الإنساني على نظيره الاصطناعي. ومن الأعمال السابقة للمؤلف نفسه نذكر كتاب "اقتصاد المعرفة" (2015)، "حَرّروا عقولكم" (2016)، و"عصر المعرفة" (2018).

تفيد فرضية كتاب إدريس أبركان أنّ المصير النهائي للذكاء لن يخرج عن ثنائية الخير والشر، أيّاً كانت معالم هذا الذكاء، وأنّ هذه الثنائية تحسم فيها نتائج أو تطبيقات الذكاء المعني

جاء الكتاب موزعاً على مقدمة و(14) فصلاً وخاتمة، موزعة على (310) صفحات، الطبعة الأولى 2022، وكانت عناوينه كالآتي: الذكاء الاصطناعي مثل الري، الفرادة، الطبيب والآلات القاتلة، عالم غير متوقع، تحليل ماركسي للذكاء الاصطناعي، الذكاء ومؤشر الذكاء: الخديعة الأكاديمية الكبرى، العودة الكبيرة لإيديولوجيا تحديد النسل، السيليكون الكلبي، خوارزميات ضد الفيزيوريتمات، علم التحكم الذاتي، الآلات والعبيد، قدرات اقتصادية ضخمة، أخلاقيات وقانونية الآلات، نحو قرصنة البيانات الضخمة، وأخيراً فصل بعنوان السايبربانك".

غلاف الكتاب

نقرأ في مقدمة العمل أنّ الكتاب لا يخرج عن التوعية والإخبار بدقائق هذا الموضوع، في حقبة تتميز بعودة خطاب تحديد النسل من منظور عرقي متطرف، والتفكير المؤسساتي في تعويض التصويت الانتخابي بمضامين البيانات الضخمة الخاصة بالمواطنين. كما يروم أيضاً التذكير بقاعدة إنسانية وكونية؛ مفادها أنّ الإنسان أسمى من اختراعاته، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي الذي لا يعدو أن يكون أحد هذه الاختراعات التي من المفترض أن تبقى أدنى من سمو الإنسان، وعلى الذكاء الاصطناعي بالتالي أن يتذكر مكانه الطبيعي هذا.

افتتح أبركان كتابه هذا بفصل تمهيدي عبر عرض مجموعة اقتباسات لبعض الأعلام الفكرية، فرنسية ولبنانية، ونخص بالذكر المفكر الفرنسي إدغار موران الذي اشتهر بدعوته إلى تبنّي الفكر المركّب في معرض قراءة أحداث الساحة، وتفيد إشارته الواردة في الكتاب إلى أنّنا نواجه عدة تعقيدات عندما نأخذ بعين الاعتبار أنّ العالم معقد وغير يقيني، بينما تفيد إشارة نسيم نيكولا طالب إلى أنّه من الأفضل للإنسان أن يكون غبياً وصاحب مناعة، على أن يكون قوياً تغيب عنه المناعة. ولأهمية أعمال هذا الأخير، فقد كان الفصل السادس من الكتاب مخصصاً بشكل كبير للتعريف بها، أو الاستئناس باجتهادات ومواقف نسيم نيكولا طالب، وهو كاتب لبناني أمريكي، وباحث في الإحصاء الرياضي ومحلل مخاطر، متخصص في أمور المعرفة وعلاقتها بالعشوائية. يُحرر في إبستمولوجيا الأحداث ذات الصلة بالمصادفة، بهدف حُسن التعامل مع مجالات العشوائية واللامعلوم، كما جاء في نظريته المسمّاة نظرية "البجعة السوداء".

تفيد فرضية كتاب إدريس أبركان أنّ المصير النهائي للذكاء لن يخرج عن ثنائية الخير والشر، أيّاً كانت معالم هذا الذكاء، وأنّ هذه الثنائية تحسم فيها نتائج أو تطبيقات الذكاء المعني، مضيفاً أنّ الحلول السحرية في مواجهة الأزمات التي تمرّ بها الإنسانية لا تأتي بقدر ما نعاين الحلول الصغيرة أو الجزئية، والتي غالباً ما أنقذت الأرواح، وهذا الدرس الدارويني نفسه، الذي يُفيد بأنّه ليست بالضرورة الكائنات أو الحيوانات الكبيرة والقوية والذكية أيضاً تلك التي أنقذت نفسها، وإنّما الحيوانات التي تأقلمت مع الظروف، وأصبحت أكثر مرونة.

قد نعاين روبوتات تقتل الإنسان، لكنّ التحدي هنا الوعي الاستباقي بهذه المخاطر، وبالتالي التمهيد للتعامل معها وتفاديها

تضمن الفصل الأول تعريفات عن ماهية الذكاء الاصطناعي، حيث يُشبهه المؤلف ببنية تحتية لا مادية، مذكّراً القارئ بأنّ هذه البنيات كانت موجودة قبل اكتشاف شبكة الإنترنت، من قبيل التقليد الشفهي أو التعبيرات الجسدية، إلّا أنّ الجديد مع الذكاء الاصطناعي يكمن في الانطلاق من برامج خوارزمية تروم التحليل وإصلاح الأخطاء بشكل تلقائي، ومن نتائج هذا التحول التقني الرقمي أنّه يهم عدة مجالات بحثية وإبداعية واقتصادية وسياسية وأمنية وغيرها، على سبيل المثال، في المجال البحثي الصرف، ما كان يحظى بالإعجاب من طرف الأكاديميين من (100) عام لن يُصبح كذلك بالضرورة بعد اليوم، بما يُهدد العديد من المسارات الأكاديمية. وما يزكي هذا الطرح الكشف منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 عن برنامج "شات. جي. بي. تي" [ChatGPT]، أي البرنامج المخصص لمعالجة اللغة عبر التفاعل مع المستخدم من خلال الحوار كتابةً على الموقع الإلكتروني الخاص به.

أمّا الفصل الثاني، فقد خُصّص لعرض بعض المخاطر أو الهواجس المتداولة حول معضلة الذكاء الاصطناعي، لأنّنا حسب المؤلف إزاء مشروع مفتوح على عدة جبهات واحتمالات، بل إنّه مؤسَّسٌ على مؤشرات قوية، لكنّه مؤسَّسٌ أيضاً على جهل، ليس الجهل بطبيعة الذكاء الاصطناعي، وإنّما بسبب تبعات هيمنة النزعات المادية على الإنسانية خلال القرون الـ (3) الماضية، وخاصة المادية المتطرفة.

يُشبه المؤلف الذكاء الاصطناعي بالماء، ومن ذلك حيوية هذه المادة، لولا أنّ التعامل مع الماء يتراوح بين شربه وبين التسونامي، وبالتالي القدرات التي يملكها الذكاء الاصطناعي تتميز بالفورة والإبهار كما تتميز بالمفاجأة.

 المفكر الفرنسي إدغار موران اشتهر بدعوته إلى تبنّي الفكر المركّب في معرض قراءة أحداث الساحة

كما يُحذّر المؤلف من غلاة التطرف العلمي، أو من أهل "الفاشية العلمية" بتعبيره، ويقصد بها أتباع الفاشية العصبية الذين لا يؤمنون بدور الحكمة، بدليل احتقارهم لها. ولهذا الغرض، تضمن الكتاب عدة وقفات تُحذّر من الغلو في النزعة المادية في معرض تدبير الذكاء الاصطناعي، ومن ذلك تبنّي خيار علمي عنوانه الفصل عن القيم، وهذا محور الفصل السابع من العمل.

ما دام الموضوع يهم آفاقاً مستقبلية مفتوحة على عدة سيناريوهات، فقد توقف المؤلف عند أحد الأسماء التي اشتهرت في مجال علم الاستشراف أو الدراسات المستقبلية، والحديث عن المفكر الأمريكي جيريمي ريفكين، وقد اشتهر بداية بأعماله في علم الاجتماع والاقتصاد، كما ساهمت رؤاه الاستشرافية في أن يُصبح لاحقاً مستشاراً لدى عدة حكومات ومن ضمنها مجلس الاتحاد الأوروبي. ويعتبر صاحب نظرية "مجتمع التداخل"، وتركز أعماله الأخيرة على تأثيرات التطور العلمي والتقني على عالم العمل والاقتصاد والمجتمع والبيئة.

من النقاط المهمّة التي جاءت في كتاب أبركان، تلك المرتبطة بسؤال المرجعية النظرية في معرض قراءة معضلة تقنية رقمية معاصرة ما زالت عصية على الفهم والتفاعل عند الجمهور الواسع. ومن النقاط التي تُحسب للمؤلف كثرة الأسئلة المفتوحة مع اقتراح أسئلة انطلاقاً من اجتهادات أهل الاختصاص، وهذا ما تضمنه الفصل الثاني عشر.

من إشارات العمل تبنّي طرح مؤرق مفاده أنّ الذكاء الاصطناعي سيتسبب في طحن الإنسان، وهذا أمر لا مفر منه، لكنّ منافعه أكبر من شروره، لأنّنا قد نعاين روبوتات تقتل الإنسان، لكنّ التحدي هنا الوعي الاستباقي بهذه المخاطر، وبالتالي التمهيد للتعامل معها وتفاديها، مضيفاً أنّه من لم يفهم الزمن، فلن يفهم الحرب، ومن لا يفهم الزمن في الحقبة الراهنة، فمن باب أولى لن يفهم الذكاء الاصطناعي. ومن بين الأمثلة العملية في هذا السياق، وأحال عليها في مقام آخر من الكتاب، أنّه طيلة عمر دولة نيوزلندا، كانت أسوأ عملية إرهابية تعرضت لها مصدرها دولة غربية حليفة، قبل قدوم حادث الاعتداء الذي تعرضت له الجالية المسلمة في 2019 من طرف أحد أعضاء اليمين، من المتأثرين بخطاب "التخويف من الإسلام"، لكن ما الذي سيحصل عندما يُصبح أمر التقتيل بين أيدي آلة تقنية مبرمجة بالذكاء الاصطناعي، مستقلة كليّاً عن أيّ قرار سياسي؟

من الملاحظات على الفصل الخامس وعنوانه "تحليل ماركسي للذكاء الاصطناعي" أنّه تضمن عدة إحالات على مرجعيات صوفية إسلامية، كما اعتبر أنّ الأدبيات الماركسية مفيدة في قراءة الذكاء الاصطناعي، متحدثاً عن "الدرس الماركسي"، ملخصاً تلك الدروس في ضرورة الجمع بين المعرفة والحكمة، حتى نتفادى التورط في الترويج للنزعة المادية المعادية للإنسانية، ونتفادى في المقابل مخاطر التقنية المنفصلة عن القيم النافعة للإنسان.

من بين إشارات الكتاب الدالة والجديرة بالتأمل في آنٍ واحد أنّه بسبب مضامين البيانات الضخمة التي تملكها شركات العالم الرقمي، وفي مقدمتها "الغافام" [إحالة على مؤسسات "غوغل" و"آبل" و"فيسبوك" وأمازون" و"مايكروسوفت"]، فإنّنا نهدي هؤلاء كماً ونوعاً من البيانات التي لم تكن تحلم بها المخابرات النازية، والأدهى أنّنا نفعل ذلك بمحض إرادتنا وبشكل مجاني مقابل تطبيقات تقنية بسيطة.

يجب أن يكون الذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسان وليس العكس

توقف المؤلف أيضاً عند مجموعة أسئلة تتطلب الحسم النظري حتى نفتح باب المسؤولية القانونية في تطبيقات الذكاء الاصطناعي؛ منها: من المسؤول عن برنامج يهم آلة تشتغل بخوارزميات تخول لها التحرير التلقائي؟ هل يتعلق الأمر بتفاعلات الآلة المعنية مع الخارج؛ أي مع الإنساني/التقني المعني بالبرمجة، أم إنّها مسؤولية الآلة نفسها؟

تفاعلاً مع الشق القانوني، كانت هناك وقفة حقوقية إنسانية النزعة، تطلبت من المؤلف نقد السلطوية التقنية السائدة في الصين، والتحذير من تكرار النموذج الصيني نفسه في الساحة الأوروبية، مشبهاً ما تقوم به السلطات الصينية في هذا الصدد، خاصة مع بعض الاختبارات الرقمية التي تهم بعض المناطق في أفق تعميم التجربة، بما كان يقوم به جهاز الستازي النازي، مضيفاً في خاتمة الفصل أنّ قرصنة البيانات الضخمة، من المفروض أن تكون تابعة لديمقراطية شاملة وحقيقية، قوامها تعقيم المجتمع ضد التلاعبات التي تقوم بها المؤسسات الأكاديمية والإعلامية، شرط أن تبقى تلك البيانات متاحة أمام الجميع، بما يسهل اتخذ قرارات عمومية نافعة للمجتمع.

تضمن الكتاب فصلاً مخصصاً لمشاريع "ما بعد الإنسان" [Transhumanism]، مصنفاً التيارات الأوروبية على الخصوص والداعية إلى تحسين النسل بشكل غارق في التطرف العرقي في صلب هذا المشروع، كأنّنا إزاء إحياء نزعات خطاب النازية والعرق الآري، هي فرع من مشروع "ما بعد الإنسان". وبالنسبة إلى الجمهور الفني، وعلى غرار ما نعاين في العديد من الإصدارات التي تهم الاشتغال على الذكاء الاصطناعي والتعريف به للجمهور الواسع، غالباً ما نقرأ إحالات على بعض الأعمال السينمائية، والنموذج في كتاب أبركان هنا مجموعة من الأفلام، ومنها فيلم "مرحباً بكم في غاطاكا"، لأنّ الفيلم الصادر عام 1997 كان استباقياً بخصوص بعض المخاطر المرتبطة بمشروع يلخص هذه المخاطر المرتبطة بمشروع "ما بعد الإنسان".

وأخيراً، يخلص أبركان إلى أنّه إجمالاً يوجد الإنسان المعاصر بين خيارين في معرض التعامل مع التحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي: الأول أن تكون في خدمة الإنسان وليس العكس، والثاني أن يكون التحكم فيها من طرف حكماء وليس من طرف علماء فاسدين وبلا أخلاق، وذلك لعدة اعتبارات أحال عليها في بعض فصول الكتاب، وتدور في فلك استحضار الحكمة والتعقل، ومن ذلك تذكيره للقارئ بأنّه إذا كان الشعب حكيماً، فإنّ احتمال تفوق الذكاء الاصطناعي عليه لا يمكن إلّا أن يكون ضعيفاً.

في مضامين الفصل الرابع عشر والأخير استشهد إدريس أبركان بقول شهير صدر عن أندريه مالرو، مفاده أنّ القرن الـ (21) سيكون روحياً، أو لا يكون، معتبراً أنّ تحديات ومخاطر الذكاء الاصطناعي تتطلب تحيين هذا القول نحو الصيغة الآتية: مع القرن الـ (21) سيكون الذكاء الاصطناعي روحانياً، أو لا يكون.

مواضيع ذات صلة:

الذكاء الاصطناعي.. الدماغ لن يعود حكراً على الإنسان

غناء بالذكاء الاصطناعي: جوقة رهبان بوذيين يقودها روبوت




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية