السرّ المخبوء: السادات وعبد الناصر والإخوان.. من المسؤول عن البعث الثاني للجماعة؟

مصر

السرّ المخبوء: السادات وعبد الناصر والإخوان.. من المسؤول عن البعث الثاني للجماعة؟


04/07/2019

بزيّه العسكري المارشالي، أظهرت عدسات التلفزيون العربي "مسمى التلفزيون الرسمي للدولة المصرية آنذاك"، الرئيس الجديد، أنور السادات، وهو يهمّ بخطوات جادة في اتجاه معتقل طرة السياسي، ليحمل معولاً يدك به جدران زنزانة رقم (1)، وهو مبتسم، ساد التصفيق والهتاف الذي ضجت به الساحة من حوله.

اقرأ أيضاً: هل كان السادات ينوي التخلي عن منصبه قبل اغتياله؟
كان مشهداً رمزياً ذا دلالة صارخة، صنعه السادات بنفسه، واستذكر فيه كلّ ما لاقاه من ويلات في هذه الزنزانة، حين كان حبيساً فيها في عهد الملك فاروق.
ختم الرئيس الراحل ذلك المشهد بكلمات خرجت بصوت رخيم، ذات إيقاع بطيء ومتقطع، قائلاً: "اليوم، وأنا آتي لسجن طرة، كي أعلن سقوط الإجراءات الاستثنائية، وكل ما يحل من كرامة وإنسانية الإنسان المصري، ونحمد الله أننا اليوم نعلن كلمة الحق وسيادة القانون، لنبني مجتمع الحب، وليس الحقد".
تبنّى السادات شعار دولة العلم والإيمان وأطلق على نفسه "الرئيس المؤمن"

علامات القيامة الثانية
بعدها دوّى صرير أبواب السجون ليخرج من بينها ما تبقى من فلول جماعة الإخوان، الذين كان قد زجّ بهم سلفه، الرئيس جمال عبد الناصر، على ذمة قضايا إرهاب كانت قد ارتكبتها الجماعة ونظامها السري.
لم يأت ذلك بغتة؛ فقد خاض الرجل حين كان نائباً لرئيس الجمهورية، تحركات سرية، لتوطئة الأرض ليس لعودة جماعة الإخوان فحسب؛ بل لقيامة التيار الإسلامي كله وبعثه مجدداً في إهاب جديد، أما هدفه فكان ما يزال غامضاً.

جامع: بعد القضاء على مراكز القوى فكّر السادات بدعوة قيادات الإخوان الهاربة للعودة وكانوا هم على استعداد للتعاون معه

كان هناك شاهدان على ذلك؛ الأول منهما كان ذا رتبة عالية في جهاز المباحث السياسية، ومسؤولاً عن ملف الجماعات، هو اللواء فؤاد علام، الذي قال في كتابه "الإخوان وأنا"؛ إنهم رصدوا زيارات نائب الرئيس عبد الناصر، السادات، وهو يذهب لمنزل الإخواني محمود جامع، ليلتقي بعدد من قادة الجماعة والرموز الإسلامية الآخر، بيد أنّ السادات كان يستقل سيارات مؤسسة الرئاسة.
أما الشاهد الثاني: كان محمود جامع نفسه الإخواني، صديق السادات؛ إذ روى هذه الواقعة في كتابه "عرفت السادات".
يقول جامع في كتابه: "شعر السادات بأنّ صحة الرئيس عبد الناصر قد بدأت في التدهور، فحاول مبكراً، تحقيق مصالحة تاريخية مع الإخوان، الذين كانوا في خصام وقطيعة كاملة مع الدولة، لكن هذه المصالحة لم تكتمل؛ لأن أمرها قد انكشف في وقت مبكر".
كشف جامع أنّ لقاءات تمت بين السادات وقادة الإخوان، وكان على رأسهم القيادي التاريخي في التنظيم، لاشين أبو شنب، ثم روى كيف أنّ هذه التحركات كانت قد اكتشفت وأجهض الأمر.
مات عبد الناصر عام 1970

الجماعة تجدد شبابها
مات عبد الناصر عام 1970؛ ونعاه السادات واصفاً إياه بأنّه "رجل من أغلى الرجال، رجل من أشجع الرجال، رجل من أخلص الرجال"، انتهى السادات من نعيه ليجلس بعدها على عرش مصر، ويبدأ في إخراج سياساته التي دفنها في عقله طيلة ما يقرب من عقد من الزمن.
بيد أنّ عقبات كؤود كانت تحط في طريقه الذي اعتزم أن يمهده بالتخلص من مراكز قوى نظام سلفه (ناصر)، المتحالفة مع السوفييت، ليخط بعدها مساره الجديد على أرض قد حرثها هو بيديه.

اقرأ أيضاً: قصة يرويها الأسواني.. أحد المتهمين باغتيال السادات
بدأت أفواج الإخوان المساجين تترى بعد أن غزاهم الشيب، لكن وحش التنظيم كان قد بدأ يتململ داخلهم، فعادت أحلام قيامة الجماعة من جديد، بعد أن استشعروا أنّ اللحظة المناسبة لذلك قد هبّت فانسجمت مع رغبة الرئيس الجديد، الذي كان ما يزال لتوّه خارجاً من معركة استطاع أن يقصف فيها جبهة خصومه من مراكز القوى التي تمترست على دعم يساري كبير قادماً من الاتحاد السوفيتي، ومن أرضية اشتراكية أورثها لها سلفه عبد الناصر، كانت ما تزال تحظى بدعم في الشارع، وتغلغل خطير في مفاصل الدولة، وكانت القوى الإسلامية العائدة مرشحة لكبح جماح اليساريين.

الرئيس والوسيط
استقر الأمر للسادات، وطرد آلاف الخبراء الروس من مصر، ولم يستطع الاتحاد السوفييتي وقف جماح الرئيس الجديد، الذي بدأت إرهاصات تحوله في اتجاه المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تلوح مبكراً؛ حين كان نائباً لسلفه عبد الناصر، وكان السوفييت مراقبين له.
يقول جامع في كتابه: "بعد القضاء على مراكز القوى، فكر السادات في دعوة قيادات الإخوان الهاربة بالخارج، إلى العودة لمصر، وكانوا هم أيضاً على استعداد للتعاون معه، ذهبت أنا والتقيت ببعضهم في الخارج، بتكليف من السادات كان منهم: يوسف القرضاوي، وأحمد العسال، وسالم نجم، ...".

بعد انهيار الجماعة بمصر وإدراجها على قوائم الإرهاب في العديد من الدول أعلنت أفرع الإخوان فكّ ارتباطها بالجماعة الأم

يكمل جامع: "بدأ السادات بداية مشجعة معهم، فأفرج عن عبد القادر حلمي، وصالح أبو رقيق بناء على وساطتي، وأرسل لهما، بالاتفاق مع الدكتور سعيد النجار، الأستاذ الجامعي ورئيس جمعية النداء الجديد الآن، أرسله إلى ليمان طرة سراً للتشاور معهما، وكان محكوماً عليهما بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولما ذهبت إليهم، أبلغتهم بنية السادات في فتح صفحة جديدة معهم، وأنه يريد أن يتعاونوا معاً لبناء البلد، وأعطى السادات تعليمات بإعادة الجنسية إلى الذين سحبت منهم جنسياتهم".
اختار السادات مستشاراً له هو، محمد عثمان إسماعيل، الذي كان أحد من سانده في التخلص من مراكز القوى، وكانت المباحث السياسية تشكّ في ولائه للإخوان، للقيام بمهمة تكوين الجماعات الإسلامية في الجامعات.
يكشف جامع بسفور اتجاه صديقه السادات في هذا الوقت: "كان السادات قد وضع خطة، يعتمد من خلالها على الإخوان، في محاربة الشيوعيين والناصريين، وبالفعل كلّف محمد عثمان إسماعيل، بتشكيل جماعات إسلامية في الجماعات، ورعايتها، والإنفاق عليها من الأموال المخصصة لرعاية الشباب".
صفقة في المنتزه
أعلن السادات إرجاء الحرب المنتظرة، وطرد الخبراء السوفييت، في تموز (يوليو) عام 1972، لتبدأ المصادمات الدامية بين الرئيس وكتلة الشيوعيين في الجامعات، وقتها سأل السادات مستشاره المقرب، محمد عثمان إسماعيل، عما يجب عمله، فأخبره أنه لا سبيل للخروج من تلك الأزمة سوى بعودة تنظيم جماعة الإخوان المسلمين للعمل السياسي، وكان ذلك بهدف ضرب التيار اليساري، وإحداث حالة من التوازن في الحركة الطلابية التي كانت مرتعاً للشيوعيين.

اقرأ أيضاً: هكذا سيطر إخوان مصر على التنظيم العالمي للجماعة 
التقى الرئيس المصري الراحل بعمر التلمساني في حديقة قصره، ووعده بمنحهم حرية الحركة في الجامعات والشارع المصري، بشرط مجابهة الناصريين واليساريين الذين كانوا يرتدون ثوب عبد الناصر، في مقابل عدم الاقتراب من توجيه نقد شخصي له.

عمر التلمساني
قبلها قرر السادات، عام 1971، أن ينص في الدستور الجديد، على أنّ الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وأنّ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس من مصادر التشريع، كما تبنّى شعار دولة العلم والإيمان، وأطلق على نفسه "الرئيس المؤمن".
بعد تفكير، وافق السادات على عودة جماعة الإخوان المسلمين بشرطين، وافق عليهما عمر التلمساني، الأول: ألا يدخل في التنظيم الجديد الذي سيشكله محمد عثمان من كان في الجهاز السري للإخوان المسلمين. الثاني: أن يعود التنظيم باسم آخر غير الإخوان المسلمين، وهنا سأله محمد عثمان بصراحة ووضوح: "أتكلم معهم، يا ريس، في هذا الموضوع؟" أجاب الرئيس: "نعم".

اقرأ أيضاً: الإخوان واستهداف أجيال بالتعليم الموجّه
وفي هذا اللقاء؛ أخبر السادات ضيفه أنّه يصوم الإثنين والخميس من كلّ أسبوع، وأنّه لن يتوانَى عن تطبيق شرع الله، ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الصبر والحكمة، ومزيد من التوازنات.
وخرج الشيخ التلمساني من هذا اللقاء وهو في غاية الاطمئنان، وتحدث إلى زملائه أعضاء مكتب شورى الإخوان بما رآه، وقارن بينه وبين سلفه الرئيس جمال عبد الناصر، وقال لهم: "كان عبد الناصر يخطط لإبادة المسلمين والسادات يخطط لقيام شرع الله، سبحان الله".
عاد الإخوان تحت اسم "الجماعة الإسلامية"، إلا أنّ النظام السري، والتنظيم الدولي، بدأ كخلية عمل نشطة، من وراء ظهر النظام، كان "السادات" قد أدرك ذلك وتغاضى عما هو أدهى وأمر.
الثنائية الأمريكية والسوفيتية
قال مدير مخابرات الخارجية الروسية، ميخائيل فرادكوف، في ندوة مغلقة مع السفراء الروس في العالم العربي والإسلامي؛ إنّ جماعة الإخوان تلقت في البداية دعماً لا محدوداً من بريطانيا، التي اعتمدت في زمن استعمارها للدول العربية على سياسة "فرِّق تسُدْ"، إلا أنّه وفي بداية أفول نجم بريطانيا العظمي، ورثت الولايات المتحدة علاقة الإخوان مع بريطانيا.

اقرأ أيضاً: كيف تسلّل الإخوان إلى منظمات حقوق الإنسان؟
وأشار فرادكوف إلى لقاء حسن الهضيبي، المرشد الثاني للإخوان، مع الاستخبارات الأمريكية، لافتاً إلى أنّ السادات شعر بأنّه مستهدف من قبل رفاقه في الثورة، وأنّ أيامه ليست طويلة في الحكم، فلجأ إلى الأمريكيين لمساعدته، ومن ثم ذهب لإقامة علاقة مع جماعة الإخوان بتوصيات أمريكية، وفكّ التحالف مع الاتحاد السوفيتي.
مدير مخابرات الخارجية الروسية ميخائيل فرادكوف

الفاتح المظفر
خرج الرجل مزهواً بنصره في حرب أكتوبر، ليتحدث عن مرارة الهزيمة وآلامها، وحلاوة النصر وآماله؛ "إنهم أحد عشر يوماً من أهم وأخطر، بل أعظم وأمجد، أيام التاريخ".
يتحدث الزعيم عن فترة "حالكة ساد فيها الظلام، ليحمل مشاعل النور، وليضيء الطريق، حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر، ما بين اليأس والرجاء...".
"عاهدت الله وعاهدتكم على أنّ جيلنا لن يسلم أعلامه إلى جيل سوف يجيء بعده، منكسةً أو ذليلةً، إنما سوف نسلم أعلامنا مرتفعة هاماتها عزيزة صواريها وقد تكون مخضبة بالدماء، لكننا ظللنا نحتفظ برؤوسنا عالية في السماء، وقت أن كانت جباهنا تنزف الدم والألم والمرارة...".

تمرد على المنتصر
لم يعتد الإسلاميون بهذا النصر، فلم يكد يمر على حرب (أكتوبر) سوى شهرين، حتى بدأت جماعة إسلامية تخرج من رحم المظلومية الإخوانية، في أواخر عصر الرئيس جمال عبد الناصر، بالتخطيط للإطاحة بنظام الرئيس الجديد حينها، أنور السادات، الذي لم يشفع له عندها هذا النصر الكبير.

لم يعتد الإسلاميون بنصر أكتوبر فلم يمض سوى شهرين حتى بدأت جماعة إسلامية تخرج من رحم المظلومية الإخوانية بالتخطيط للإطاحة بنظام السادات

لم يكن السادات قد ذهب بعد لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، ولم يفعل سوى أنه فتح أبواب السجون على مصراعيها، كي يخرج منها آلاف الإسلاميين.
بيد أنّ فصيلاً من هؤلاء الإسلاميين، شكل تنظيماً ضمّ المئات، هدف إلى الاستيلاء على مؤسسات الدولة، ونفذ هجوماً على مبنى الكلية الفنية العسكرية، راح ضحيته العشرات، وباءت خطتهم بالفشل الذريع، بعد أن ألقي القبض على قادة التنظيم وعناصره، مطلع العام 1974.
لم تكن ثنائية "الهزيمة والنصر" معياراً عند التنظيمات الإسلامية للخضوع لنظم سياسية، أو منح ولاءات لرؤساء وحكام، ولم يكن رفع الشعارات الإسلامية معوّلاً عليه لتغيير مواقفهم المبدئية، وإلا لما تمردت هذه الجماعات مبكراً على الرئيس المصري الراحل، السادات، وهو من أطلق على نفسه "الرئيس المؤمن"، ومن أشار بصيحة "الله أكبر" عند عبور جيشه إلى الضفة الشرقية من قناة السويس.

عملت هزيمة العرب، في حزيران (يونيو) العام 1967، على إعادة إحياء تيارات الإسلام السياسي

ماذا لو نجح الانقلاب؟
عملت هزيمة العرب، في حزيران (يونيو) العام 1967، على إعادة إحياء تيارات الإسلام السياسي، التي استطاعت أن تنهض مجدداً، على ركام الهزيمة التي أرجعتها إلى "الابتعاد عن الدين، والانخراط في المشروع الاشتراكي، غير المستند إلى مرجعية إسلامية"، وفق ما يدعون.
لم تكن جماعة الإخوان بريئة من محاولة الانقلاب على الرئيس، الذي لم يكد يمضي عامان على إخراجهم من أقبية السجون.

اقرأ أيضاً: لماذا لن ينجح الإخوان بممارسة السياسة؟
ذهب قادة الفنية العسكرية، وعلى رأسهم طلال الأنصاري، لحسن الهضيبي، وزينب الغزالي، فوعدهم الإخوان بأنّ الجماعة لن تتوانى عن تبنّي انقلابهم حال نجاحه فقط.
وكشف الدكتور أحمد الرَّجَّال (أحد قيادات أحداث الفنية العسكرية) دور جماعة الإخوان في قضية "تنظيم الفنية العسكرية"؛ التي كان يرأسها صالح سرية، واستهدفت القيام بانقلاب عسكري على الرئيس الراحل، محمد أنور السادات، في 18 نيسان (إبريل) 1974، عبر السيطرة على أسلحة الكلية الفنية العسكرية، والهجوم على قصر الرئاسة، ومبنى الإذاعة والتلفزيون، وأسفرت عن مقتل 17 وإصابة 65.

الرَّجَّال: اتفاق سري تمّ بين الإخوان وقيادات تنظيم الفنية العسكرية بأنّه في حال نجاح الانقلاب كانت الجماعة ستتسلم مقاليد الحكم

قال الرَّجَّال: إنّ أحد أمراء التنظيم، ويُدعى محمد الباشا، الذي كان ينتمي لجماعة الإخوان، وأحد قياداتها الحركية الفاعلة، هو الذي طالبه بالانضمام إلى تنظيم الفنية العسكرية؛ لتنفيذ انقلاب على السادات.
وأضاف أنّ سيد قطب كان ملهم جميع الإسلاميين في ذلك الوقت، بما فيهم تنظيم "الفنية العسكرية"، وكانت آراؤه طريقاً ممهدة للشباب الإسلامي، وأهمها تقسيم المجتمع إلى مؤمن وكافر، ووصف الحكام بالطواغيت، لافتاً إلى أنّ عمل تنظيم الفنية العسكرية لانقلاب كان له ثلاثة أهداف، هي: إعادة الخلافة الإسلامية، والانتقام لإعدام سيد قطب ورفاقه في السجون، في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتحديداً في 29 آب (أغسطس) عام 1966، والسبب الأخير هزيمة 1967، التي حمَّل مسؤوليتها لعبد الناصر، وبعده السادات.
الرَّجَّال أشار إلى أنّ اتفاقاً سرياً تمّ بين تنظيم الإخوان وقيادات تنظيم الفنية العسكرية، بأنّه في حال نجاح الانقلاب كان الإخوان سيتسلمون مقاليد الحكم، سيما أنّ جميع قيادات وأعضاء تنظيم الفنية العسكرية كانوا من صغار السنّ، وبعد فشل محاولة الانقلاب، والقبض على التنظيم كاملاً، خصصت جماعة الإخوان عدداً من محاميها للدفاع عن أعضائها، ليس حرصاً منها عليهم، وإنما لمتابعة كلّ تفاصيل القضية، ومحاولة إبعاد تهمة تواطؤ الإخوان فيها، وتبرئة ساحتهم من أيّة اتهامات قد توَجه إليهم مستقبلًا، وكان على رأس هيئة الدفاع الإخوانية، عبد الله رشوان، وأحمد عبد الجواد، وهما من القيادات القانونية للجماعة آنذاك.

اقرأ أيضاً: مشاعل البنا تحرق "الإخوان"
أما طلال الأنصاري، أحد قادة تنظيم الفنية العسكرية (حُكم عليه بالإعدام، ثم خُفف إلى السجن المؤبد)، فقال في مذكراته: "صفحات مجهولة من تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة من النكسة إلى المشنقة‏"، عن أنّهم شكلوا تنظيماً سرياً، في الإسكندرية، عام ‏1968، ظلّ قائماً، إلى أن خرج الإخوان من السجون، وذهب إلى علي عبده إسماعيل، أحد كوادر الجماعة بالإسكندرية؛ ليرتب له لقاءً مع زينب الغزالي، التي رتبت لقاء يجمعه بالمستشار حسن الهضيبي، المرشد العام للإخوان آنذاك، وذلك أواخر عام 1972، بمنزله بحي منيل الروضة‏؛ ليقدم له البَيْعَة.‏


كان اللقاء الأول بين صالح سرية والأنصاري، برعاية وترتيب زينب الغزالي، بداية مرحلة جديدة من تاريخ الجماعة‏، وكانت أولى تعليمات "سرية" للشباب، أنه هو وحده حلقة الوصل بالإخوان‏، وأنه اعتباراً من هذا التاريخ، لا بدّ من أن يتوارى عن أيّ دور ظاهر له مع الإخوان، كما ينبغي عدم الإعلان عن أيّة صلة بهم.

اقرأ أيضاً: أسرار العلاقة بين عشماوي والجماعات المسلحة المنبثقة عن "الإخوان"

وعرض سرية أفكاره على قيادات الإخوان، وعلى رأسهم المرشد‏، مع خطته لإدخال تجديد على فكر الإخوان؛ ليكون الوصول للسلطة بالقوة العسكرية خياراً أساسياً‏، مؤكداً أنّ المرشد وافق على مضمون الفكرة.
وقال الأنصاري في مذكراته: "ليس منطقياً القول إنّ تاريخ صالح سرية، ونزوعه إلى الانقلاب والثورة؛ كان خافياً على الإخوان المسلمين في مصر! ‏ لقد احتضنه الإخوان في مصر، ورحبوا به‏! ‏ والأهم من ذلك؛ أن قام الإخوان، وفي بيت من أقرب بيوتهم، بيت زينب الغزالي، بتقديم تنظيمهم الشبابي الوحيد في حينها إلى صالح سرية‏.
العدو السوفييتي
اعترف طلال الأنصاري، بمبايعته لحسن الهضيبي، مرشد الإخوان الثاني، إلا أنّ جهة ما قد تغاضت، ولم يقدم أحد من الإخوان للمحاكمة، كان السادات يعدّ الإسلاميين للدخول في مواجهة عنيفة مع الكتلة الشيوعية، وقدم دعماً مادياً ومعنوياً بلا حدود.
زار السادات أفغانستان، وقابل قادة المجاهدين الأفغان، ووعدهم بتوفير مصر السلاح اللازم لمواجهة الدبابات والطائرات، فضلاً عن تدريب المقاتلين.
شبه السادات دعمه هذا بما كان في صدر الإسلام عندما تضامن الأنصار مع المهاجرين، وقال: "كلّ ما لدينا يجب أن نتقاسمه مع شعب أفغانستان، نحن لسنا أغنياء كالبعض لكننا نشعر بعقيدتنا وبإيماننا وبأخوتنا أغنياء جداً، وسنشرككم فيما نملك سنقتسمه سوياً، الكساء والمال والسلاح والطعام، وكلّ شيء، بلغوا إخوانكم في أفغانستان وصمموا على معركة طويلة النفس".

اقرأ أيضاً: رهانات خاسرة.. لماذا فشل تحالف "الاشتراكيين الثوريين" مع "الإخوان"؟
صلى السادات الجمعة مع قادة الأفغان، وتحدث خطيب الجمعة عن الجهاد، وفضل الإنفاق في سبيل الله.
تحدث السادات عن تأثره بمشهد اللاجئين الأفغان، وعن معاناتهم في الشتاء القارص، وأنّه من أجل ذلك دعا إلى أسبوع من أجل أفغانستان، داعياً الشعب المصري، وكلّ من يستطيع أن يستغني عن ملابس وأغطية وطعام وأموال، أن يرسلها إلى أفغانستان.
لكن، ثمة من رأى أنّ الرجل فعل ذلك، نكاية في الاتحاد السوفيتي "خصمه اللدود"، وهذا ما دعاه إلى التغاضي عن تنامي قوة الإسلاميين، الذين تجرؤوا في الانقلاب عليه ومحاولة اغتياله.
نهاية دامية
خرج مارد الإسلاميين من القمقم، وظنّ السادات أنّه باعتقال قادة جماعة الإخوان أصبح قادراً على السيطرة عليه؛ ففي أيلول (سبتمبر) من العام 1981؛ اعتقل السادات المئات من القادة السياسيين، وسجن دعاة ورموزاً من الإسلاميين، إلا أنّ ذلك لم يحصنه من عملية اغتياله في بداية شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه.

التقى السادات بعمر التلمساني بحديقة قصره ووعده بمنحهم حرية الحركة في الشارع المصري بشرط مجابهة الناصريين واليساريين

شعر السادات بالندم الشديد، وخرج عن توازنه، في خطابه الشهير قبل اعتقالات "سبتمبر"، والذي تحدث فيه عن الإخوان قائلاً: "اتصلنا بالإخوان قبل ثورة يوليو، وتحدث عبد الناصر شخصياً مع الهضيبي، وطلب منهم الاشتراك في الثورة، فجبنوا وخافوا، أنا طلعت غلطان كان لازم خلتهم في مكانهم..".
قال السادات: "ليس هناك جماعة إخوان مسلمين وجماعات إسلامية؛ بل كلهم واحد، وأن تنظيم الفنية العسكرية الذين قتلوا 5 من الجنود، كانوا متفقين مع بقية الجماعات الإسلامية الأخرى".
قبيل مقتل السادات بعدة أيام استقل عدد من قادة جماعة الإخوان طائرات مدنية، في اتجاه الخارج، كان على رأسهم، مصطفى مشهور ومحمود عزت، ولم يعودوا إلا بعد أن استتبت الأمور للرئيس الجديد.
لو كان السادات يعلم أن نهايته ستكون على يد حلفاء صديقه محمد عثمان لأنكر تلك الصداقة، وأعلن عليه الحرب.

اللعب بنار الإخوان
خدعت الجماعة السادات، ولعبت من خلف ظهره، وذهبت لتشكيل نظام خاص جديد، مستحدثة مرشداً خفياً من وراء ظهر الراغبين في العمل العام شبه المفتوح.
فبعد أن خرجت من سجون الحقبة الناصرية، حاولت الجماعة إعادة إحياء نفسها مجدداً، فعقد قادتها اجتماعاً مصغراً لمناقشة شكل العودة، وأي ثياب يمكن أن ترتديها الجماعة في العصر الجديد.
اقترح البعض أن يتحول التنظيم لجماعة ثقافية تعنى بإنشاء دور النشر وإقامة الندوات الثقافية، وكان من بين هؤلاء: محمود عبد الحليم، مؤرخ الجماعة وصاحب كتاب "الإخوان المسلمون... أحداث صنعت التاريخ"، الذي كان قد حكى هذه الواقعة في حوار له مع الباحث، حسام تمام، نشره في كتاب "الإخوان المسلمون... تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم".

خرج مارد الإسلاميين من القمقم وظنّ السادات أنّه باعتقال قادة جماعة الإخوان أصبح قادراً على السيطرة عليه

بينما رأى عدد من القادة ضرورة عودة التنظيم السري للجماعة، وكان من بين هؤلاء؛ مصطفى مشهور، وأحمد حسنين، وهو ما اعترض عليه غالبية الحضور الذي انتهوا في نهاية الاجتماع إلى ضرورة عودة الجماعة بشكل علني وإنهاء العمل السرّي.
إلا أنّ قادة الجماعة من أصحاب النظام الخاص القديم شرعوا في العمل السري، تاركين القادة العلنيين يخطون مسارهم كما رسموه، فباتت هناك جماعتان: واحدة يقودها عمر التلمساني كمرشد علني وحوله مكتب الإرشاد الرسمي، وأخرى تعمل في باطن الأرض لكنها تتمدد وتسيطر على مقاليد الأمور في الجماعة كلها.
نمتلك وثيقة تاريخية تكشف قصة المرشد السري للجماعة، وتكشف اعتراض صاحبها، محمود أبو السعود، على ازدواجية القيادة في الجماعة، وليطعن في شرعية القيادة السرية شارحاً القصة بالتفصيل، رغم أنّه أخفى عدداً من الأسماء، على رأسهم مسمى المرشد "الخفي".
أرسل القيادي التاريخي في الجماعة، الدكتور محمود أبو السعود، هذه الرسالة لقيادات مكتب إرشاد الجماعة في القاهرة، وأرخها في 13/8/1988.

اقرأ أيضاً: فروع رحم واحدة تتقاسم الأدوار لتدارك تهافت الإخوان
تقع الرسالة في 9 صفحات مكتوبة بخط يد أبي السعود، وضمن سلسلة رسائل أخرى، لمكتب الإرشاد، وصلت إلينا عن طريق قيادي آخر في الجماعة، والذي شهد بأنّ هذه الرسائل هي بخط يد أبي السعود.
تؤكد هذه الرسالة أنّ جماعة الإخوان المسلمين قد نصبت "مرشداً خفياً"، بعد وفاة مرشدها الثاني، حسن الهضيبي، ثم بايعت عمر التلمساني مرشداً آخر علنياً، وكان ذلك محلاً للنقد من جانب عدد من قادة التنظيم الدولي للجماعة، ومنهم محمود أبو السعود، الذي رأى أن ذلك يعدّ نقصاً في الشرعية والأهلية.
رغم أنّ عدداً من الصحف أثار قصة "المرشد الخفي" لجماعة الإخوان المسلمين، فإن قادة الجماعة لم تعترف بها أبداً؛ بل أنكرتها القيادة الرسمية للجماعة عندما كانت تواجه بها، ولم تستطع الصحف المصرية أن تدفع بأدلة ووثائق تدعم تلك القصة، وهو ما ساهم في دفنها ونسيانها مبكراً، إلا أنّ هذه الوثيقة لا تثبت قضية "المرشد الخفي" فحسب؛ بل تسوق الرواية من جذورها، وبخطّ يد أحد القادة الذين تشكل على يدهم التنظيم الدولي للجماعة، وتؤكد وجود خلافات في التنظيم وصلت إلى الطعن في الشرعية والأهلية.
رحل السادات وجاء محمد حسني مبارك رئيساً لمصر، عام 1981

الإخوان فوق عرش مصر
رحل السادات، وجاء محمد حسني مبارك رئيساً لمصر، عام 1981، فترك الجماعة للعمل دون أن يعرضها للضغوط الأمنية المكثفة، حتى جاء عام 1992، فاكتشفت أجهزة الأمن المصرية تنظيماً خاصاً للجماعة يعمل وفق خطة محددة، كتبت بخط يد خيرت الشاطر، أحد أبرز قادة الجماعة، أطلق عليها هو "خطة التمكين".
بعدها، خضعت الجماعة لسياسات أمنية جديدة، تترك فيها الدولة الجماعة هامش من الحركة إلا أنها تعود لتقصقص أجنحتها مرة أخرى، عبر سلسلة من القضايا المدنية أو العسكرية، التي يتلقى فيها عدد من القادة أحكاماً لا تزيد عن الــ 5 أعوام.

اقرأ أيضاً: السجن المؤبّد لـ 22 إخوانياً في مصر.. بهذه القضية
ظلّ الحال كذلك، حتى جاءت ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) عام 2011، التي أعلن الإخوان موقفاً سلبياً منها، عند اندلاع الشرارة الأولى لها، وما لبثوا أن قدموا أنفسهم جزءاً من مكوناتها، عندما لاحت بوادر بنجاحها.
أعلن الإخوان أنّهم لن يهيمنوا على مقاليد الحكم، ولن يسيطروا على رئاسة الجمهورية، وما لبثوا أن فعلوا عكس ذلك، بعد الدفع بمرشح رئاسي، جاء ذلك بعد سيطرتهم البرلمان ثم تشكيل حكومة موالية لهم.
ثار الشعب المصري ضدّ حكم الجماعة، في الــ 30 حزيران (يونيو) عام 2013، بعد عام واحد من حكم الرئيس المعزول، محمد مرسي، حتى أطاحوا بحكمه، فكان إعلان الحرب على الدولة المصرية، عبر تفجير الأوضاع الأمنية، وتشكيل عدد من التنظيمات المسلحة، التي ظلت لأعوام تمارس عملية الاغتيال والتفجير.
انتفضت أفرع الإخوان في العديد من الدول، لتعلن تضامنها مع الجماعة الأم، حتى شعروا باليأس، وظهر انهيار الجماعة في مصر، بعد إدراجها على قوائم الإرهاب من قبل العديد من الدول، ذهبوا لإعلان فكّ ارتباطهم بجماعتهم الأم، فكانوا أشبه بنجمة البحر التي تفكك نفسها إذا هي واجهت المخاطر، ثم إذا زالت، عادت من جديد لتجميع أعضائها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية