السطو على عبد الحليم بعد أم كلثوم... والمستقبل القاتم!

السطو على عبد الحليم بعد أم كلثوم... والمستقبل القاتم!

السطو على عبد الحليم بعد أم كلثوم... والمستقبل القاتم!


01/06/2023

شريف صالح

توعد ورثة عبد الحليم حافظ كل من يحاول محاكاة صوته - بواسطة الذكاء الاصطناعي- وتقديم أغان ليست له. رداً على تجربة أحد المهندسين بمحاكاة العندليب وهو يغني ثلاثة أغان لعمرو دياب هي: "ما يتحكيش عليها"، و "شكراً من هنا لبكره" و"صدقتني". وبرر اختيار الاثنين باعتبارهما أيقونتين لجيلين، مع التشديد على احترامه لحقوق الملكية، وأن المسألة مجرد "تجربة".

يأتي ذلك بعد أيام من إعلان الملحن عمرو مصطفى عن محاكاة صوت أم كلثوم في أغنية من تلحينه، وهو ما اعترض عليه الورثة أيضاً.

كلها تجارب خجولة تستثمر في إمكانات هائلة يقدمها الآن الذكاء الاصطناعي وتعد بما يفوق خيالنا. ولا يقتصر الأمر على الغناء وتوليف موسيقى إلكترونية، بل يمتد إلى كتابة الشعر والمقالات وتأليف القصص والروايات ورسم اللوحات.

فإذا كان فعل الإبداع خاصاً بأفذاذ البشر، ويتطلب مواهب عظيمة وقدرات غير عادية، مما لا يقدر عليه معظم الناس، فإنه سوف يتحول بفضل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، إلى فعل "آلي" يقدر كل إنسان على ممارسته بالاستعانة بأي تطبيق.

لكنّ مشكلة تلك التجارب - حتى الآن - في ركاكتها الآلية لأنها تفتقر إلى العاطفية والتخييل، مع ذلك يراهن العلماء إلى أن الآليين سوف يتفوقون على الإنسان خلال العشر سنوات المقبلة.

تهديد وجود

ربما تتأخر قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة الإبداع الإنساني المتفرد، ولن يقدر بسهولة على كتابة روايات بعبقرية "الحرب والسلام" أو "مئة عام من العزلة"، أو تقديم أغنية مثل "موعود" و"زي الهوا" بحساسية صوت العندليب وحنانه.. لكنّ المؤكد أن تطبيقاته ستحدث انفجاراً معلوماتياً هائلاً قد يهدد وجود الإنسان.

فإذا كان البشر يعتمدون الآن في المطارات والمحطات والخدمات الهاتفية على النداءات والردود الآلية، فإن الكثير من المهن ستنتقل في القرب العاجل من يد البشر إلى عقل الآلة، مثل مهن الطب وقيادة السيارة والصحافة والتدريس والحرف اليدوية كالنجارة والسباكة.

توعد ورثة عبد الحليم حافظ كل من يحاول محاكاة صوته - بواسطة الذكاء الاصطناعي- وتقديم أغان ليست له

لكن نسبة المهن التي سيتراجع حظوظ البشر فيها ما زالت مجرد تخمين. وإن كانت الأرقام مخيفة وتدعو للقلق، فبعض التقارير ترى أن نحو 800 مليون شخص سيفقدون وظائفهم بحلول عام 2030 ونصف هذا العدد تقريباً سيحتاج إلى تطوير مهاراته أو تغيير مهنته.

أما المهن التي يُستبعد أن يتقنها الذكاء الاصطناعي سريعاً فهي القضاء، والعمل في الصحة النفسية والعقلية وتصميم الأزياء وجراحة الأسنان.

شبح الواقع

يقود الملياردير إيلون ماسك الثورة الحالية عبر شركة "أوبن آيه آي" التي أطلقها عام 2015 لتعزيز أنظمة الذكاء الاصطناعي. ومنذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي مع الألفية الجديدة، وعلاقة البشر بواقعهم في تراجع، فالأيدي والعيون معلقة على الشاشات على مدار الساعة، وبات الوعي يدرك ذاته ومحيطه عبر تلك الوسائط، وليس عبر احتكاك مباشر بالواقع الحي.

فضاعف التوسع التقني والرقمي اغتراب الإنسان عن محيطه وذاته، وليس عن الآخرين فقط. لذلك فالمخاوف من المستقبل المظلم ليست حكراً على ناس عاديين، بل تشمل علماء ومبرمجين مشهورين. لأن علاقة الإنسان بالواقع والطبيعة من حوله باتت مشوشة، وشبحية؛ فتلك الأنظمة المعقدة ستكون بارعة جداً في خلط الصدق بالكذب والتلاعب بالحقائق.

لنتخيل مثلاً بعد سنوات قليلة حين تكون هناك أغنيات بصوت عبد الحليم حافظ ولا نستطيع التفريق بين صوته الحقيقي والمُحاكي الآلي! لنتخيل عناء الإنسان لأيام وشهور في رسم لوحة، ثم يأتي الآلي وينفذها في دقائق!

حتى قوانين الملكية الفكرية الحالية، ستفقد قدرتها على ملاحقة تلك التغيرات، فإذا نجح مبرمج في صنع محاكاة متقنة لصوت عبد الحليم واستثمره في أغنيات جديدة، مع التأكيد أن الصوت مجرد تقنية آلية، فهل يحق للورثة في هذه الحالة منعه من استثمار الصوت المُحاكي؟

إن الواقع كله، وليس صوت عبد الحليم وأم كلثوم فقط، مهدد بأن يصبح شبحاً في عالم افتراضي بالغ التعقيد.

مخاوف مشروعة

ينقسم الناس إزاء ثورة التكنولوجيا إلى فريقين. الأول يثمن مكتسبات الذكاء الاصطناعي، والاقتراب من صنع فردوس أرضي ينتهي فيه شقاء الإنسان، ويرى هؤلاء أن هناك دائماً مخاوف مبالغ فيها من المستقبل، ومن المجهول الآلي، وهجوم مسبق على أي تطور تقني.

بينما الفريق الآخر يطرح العديد من المخاوف المشروعة، المتعلقة بإضعاف وجود الإنسان نفسه والتباس علاقته بالواقع، وضعف ذاكرته التي باتت اعتمادية كلياً على الإنترنت، وسهولة سرقة الأفكار والإبداعات، والتلاعب بالعقول، وانتحال الإبداع، وفقد الوظائف، وتدني التواصل الحميم بين الناس.

إن التصور البسيط للذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لخدمة الإنسان وتوفير الوقت والسعادة له، قد يتحول إلى تصور معقد ومرعب

إن التصور البسيط للذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لخدمة الإنسان وتوفير الوقت والسعادة له، قد يتحول إلى تصور معقد ومرعب. آلات وتطبيقات تزيح البشر عن مقاعدهم، وتستبعدهم من مهن ألفوها، وتنافسهم في أرقى وأصعب ما برعوا فيه: الإبداع.

فالذكاء الاصطناعي سيتولى كل عمل... وسوف يرقص ويرسم ويغني.. بينما الإنسان يتفرج عليه منزوياً في ركن صغير.

يوتوبيا علمية

الطريف أن المبدعين واكبوا وناقشوا الآمال والمخاوف المتعلقة بالتكنولوجيا عبر العصور.

وظهرت في القرن الثامن عشر كلمة Robot مشتقة من اللغة التشيكية وتعني "العمل"، حيث أصدرت إمبراطورة النمسا آنذاك تراخيص تحدد ساعات العمل للأجراء في إقطاعيات النبلاء.

وبحسب طه محمد طه مترجم مسرحية "إنسان روسوم الآلي"، انتشرت الكلمة في كل اللغات بعد عام 1923 مع ظهور هذه المسرحية التي كتبها كاريل تشابيك وحملت نبوءة بما يحدث الآن بعد مئة عام.

كان الإنسان يُحلم بصنع آلات توفر عليه الجهد والوقت وتقربه أكثر من السعادة، ثم فكر في صنع آلات تشبه ما خلقه الله، وآلات لا تحتاج إليه في تشغيلها، ثم زاد طموحه في خلق كائنات تحاكي الإنسان نفسه في كل شيء.

ومثلما فكّر ونظّر لإنجاز يوتوبيا أخلاقية ومثالية، تردد صداها عند فلاسفة أمثال أفلاطون وصولاً إلى توماس مور، فكّر أيضاً في يوتوبيا علمية. عالم كامل قائم على التنكولوجيا يجعل الإنسان سيداً للكون بلا منازع، ويقضي على الفقر والبؤس، بل على الموت نفسه.

تأسست تلك اليوتوبيا على الخيال العلمي وأثمرت آلات السفر عبر الزمن، وسفن تُدار بلا قباطنة، ورحلات عبر الأجرام، وحروب الفضائيين، وعوالم السايبورغ.

لكن خلق "يوتوبيا" من الآلات والعقول الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، قد ينقلب إلى "ديستوبيا"، أي مدينة مقبضة، فاسدة، ومخيفة، تستعبد الإنسان بدلاً من أن تُسيده. بمجرد أن تعرف تلك الآلات كيف طور نفسها ذاتياً، وتنفصل عن برمجة الإنسان لها.

تلك المخاوف ناقشها تشابيك في مسرحيته حيث نقرأ فيها: "إن ما تتحدث عنه يشبه الجنة إلى حد كبير. لقد كان العمل لذة جميلة يا دومين. كان العمل شيئاً عظيماً في الإنسانية. آه، لقد كان هناك نوع من الفضيلة في الكدح وفي التعب".

حتى قضية الإبداع البشري التي تُثار في أيامنا مرت عليها المسرحية أيضاً: "ولكن الآلة الكاملة يجب ألا ترغب في العزف على الكمان وألا تشعر بالسعادة".

فأي مصير ينتظر الإنسان إذا صنع آليين يفوقونه ذكاء وإتقاناً للعمل، وإبداعاً، وعاطفة وتخييلاً؟ وإذا خلق كائنات تحيا ولا تموت... وتملك ما لا يملكه... فهل سيكون سيدها حقاً أم ينقلب عبداً لها؟ وبدلاً من أن يستثمر مزاياها الخارقة لإنجاز "فردوسه الأرضي"، سوف توظفه هي لصالحها، وتبيد تاريخه البشري ومنجزه الأخلاقي والفكري والإبداعي!

عن "النهار العربي"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية