السودان: من المسؤول عن تكدس آلاف الجثامين مجهولة الهوية في ثلاجات الموتى؟

السودان: من المسؤول عن تكدس آلاف الجثامين مجهولة الهوية في ثلاجات الموتى؟

السودان: من المسؤول عن تكدس آلاف الجثامين مجهولة الهوية في ثلاجات الموتى؟


17/09/2022

لمدة تزيد عن (3) أعوام تمتلئ المشارح الكبرى في العاصمة السودانية الخرطوم بأكثر من (3) آلاف جثمان بشري، مجهولي الهوية، ممّا خلق كارثة بيئية وصحية خطيرة، هددت سكان العاصمة، فضلاً عن المأزق الأخلاقي الناتج عن ترك الجثامين دون دفن في مشارح لا تبلغ طاقتها الاستيعابية سوى (450) جثماناً، ممّا أدى إلى تعفن وتحلل هذه الجثامين، بل حتى انتشار الفئران بينها، فضاعت معالمها، ولم يعد من بقائها دون دفن فائدةً، في سبيل كشف الحقائق حولها، كما يطالب قطاع واسع من معسكر القوى الثورية في السودان.

إكرام الموتى

وفي ظل حالة الاضطراب والفوضى التي تسود السودان منذ الإطاحة بالنظام السابق بقيادة عمر البشير، تكدست آلاف الجثامين مجهولة الهوية في عدد من المشارح في مدينة الخرطوم، دون إتمام الإجراءات القانونية لدفنها، بعد صدور قرار من النائب العام آنذاك بذلك، في انتظار التحقيقات، خاصةً بعد حادث فض اعتصام القيادة العامة الذي خلّف عشرات القتلى.

وباسم التحقيقات في حادث فض اعتصام القيادة ظلت هذه الجثامين حبيسة ثلاجات الموتى في مستشفيات العاصمة، دون أن تتبع إجراءات التعرف على هوية هذه الجثامين، وإجراءات التحقيق التي كانت كفيلةً بتسجيل المعلومات التي تفيد لاحقاً في عملية التحقيق، وتمنح هؤلاء الموتى أبسط حقوقهم في دفن جثامينهم، بدلاً من تركها لتشكل كارثة صحية وبيئية وأخلاقية.

وقد وقع حادث فض اعتصام القيادة في حزيران (يونيو) 2019، وخلّف (66) قتيلاً بحسب البيانات الرسمية، و(250) قتيلاً بحسب بيانات القوى الثورية، وعقب ذلك اتفق المجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد الإطاحة بالبشير مع القوى الثورية التي تجمع قطاعاً واسعاً منها تحت مظلة إعلان قوى الحرية والتغيير، وتم التوقيع على الوثيقة الدستورية التي أفضت إلى شراكة بين العسكريين والمدنيين في السلطة، حتى الإطاحة بالمدنيين في أحداث 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021.

صور من تحلل الجثامين في مستشفيات الخرطوم

ومرّت على قضية تكدس الجثامين عدة أنظمة حكم في البلاد، منها المجلس العسكري، ثم حكومتي رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ثم عودة المجلس العسكري إلى الحكم بشراكة مع قوى الحراك المسلح، بعد استقالة حمدوك، وأحداث 25 تشرين الأول (أكتوبر)، التي تراها قوى إعلان الحرية والتغيير والمعسكر الثوري انقلاباً على الثورة.

الأكاديمي عماد الدين حسين لـ"حفريات": أيّ شخص سيكون في جيبه ما يدلّ على هويته، أو معظم هؤلاء الموتى على الأقل، فأين ذلك؟

وفي آب (أغسطس) الماضي شكلت النيابة العامة لجنة لبحث القضية، وصدر قرار النائب العام في التاسع من الشهر الجاري، بالتصريح بدفن الجثامين المتكدسة، بعد اتباع الإجراءات القانونية، وفق القواعد العالمية في هذا الشأن، وهو القرار الذي لاقى معارضة كبيرة من اللجنة المركزية للأطباء، المحسوبة على المعسكر الثوري، وقوى ثورية عديدة، رأت في الخطوة طمساً للحقيقة بشأن أحداث فض الاعتصام.

وفي حديثه لـ"حفريات" يروي الكاتب الصحفي عبد الماجد عبد الحميد تفاصيل القضية: "تتكدس جثث الموتى داخل مستشفيات ولاية الخرطوم منذ تموز (يوليو) 2019 حين صدر قرار من النائب العام وقتها بمنع دفن الجثث مجهولة الهوية داخل ولاية الخرطوم، وتم ربط هذا القرار العجيب والغريب بالتحقيق في أحداث فض اعتصام القيادة العامة".

من المسؤول؟

وتابع الكاتب السوداني: "منذ ذلك التاريخ، وتحت سيف التهديد الثوري بجريمة فض الاعتصام تتكدس جثث الموتى داخل مشارح مستشفيات الخرطوم. ورغم مناشدات خبراء في الطب العدلي والعاملين المهنيين في هذا المجال، بالتعامل مع هذه الحالات وفق المتعارف عليه من قوانين وأعراف دولية؛ حيث يتم دفن الجثث بعد إجراءات فنية، يتم عبرها حفظ كل المعلومات المطلوبة للتحقيق في أيّ جثة مجهولة حال تم طلب ذلك".

وذكر أنّ مجلس السيادة الانتقالي السابق بشقيه؛ العسكري والمدني، أصدر من قبل قراراً بدفن الجثث المتكدسة، وتم تشكيل لجنة متخصصة للدفن، ولكن فجأة تم تعطيل القرار، وعاد التكدس من جديد".

عبد الماجد عبد الحميد: تحت سيف التهديد الثوري بجريمة فض الاعتصام تتكدس جثث الموتى

وبحسب الكاتب الصحفي عبد الماجد عبد الحميد، تتحمل "مجموعة من أدعياء الحرص على متابعة جريمة فض الاعتصام المسؤولية عن هذه الكارثة." وأضاف "هؤلاء يتلذذون بتكدس الجثث؛ لأنّهم يحملون تفويضاً ثورياً يمنع دفن الجثث المجهولة منذ العام 2019".

ومن جانبه، يقول الباحث والمحاضر بمركز البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة أفريقيا العالمية في السودان حسين الطيب: "مررت بنفسي على أحد المستشفيات التي توجد بها هذه الجثامين، وجدت الروائح تملأ الأحياء السكنية، مسببة حالة من الوضع الصحي والبيئي والإنساني الخطير، وهي جثامين لذكور وإناث من مختلف الأعمار".

وتابع لـ"حفريات": "حدث التكدس نتيجة لوجود تضارب وتقاطع بين الجهات، وما عُرف بالطرف الثالث الذي يعمل على إخفاء البيانات والحقائق عن المسؤول عن قتل هذه الأنفس. وهذا الملف يوزع بين (3) جهات؛ النيابة العامة، والطب العدلي، والشرطة، وإلى الآن تبحث النيابة العامة عن المسؤول عن هذا الملف، واتخاذ قرار عدم الدفن، رغم أنّه جاء من الطب العدلي".

وأرجع الأكاديمي السوداني التخبط في القضية إلى "طبيعة الفترة الانتقالية، والتناقضات بين العسكريين والمدنيين، ابتداءً من فض الاعتصام، الذي كانت أحزاب سياسية معارضة اليوم على علم بقرار الفض، ولهذا هنالك مجموعة من الجهات مسؤولة قانونياً وأخلاقياً عن هذه الكارثة، وصولاً إلى دفن الجثامين دون التوصل إلى حقائق واضحة".

طمس الحقائق

واتّهمت لجنة أطباء السودان المركزية، وهي كيان نقابي غير رسمي، ما وصفتها بالسلطة الانقلابية بطمس الحقائق بقرار دفن الجثامين. وقالت في بيانها: "دفن الجثث مجهولة الهوية المكدّسة في المشارح، في منحى خطير يتعارض مع البرتوكولات والقوانين التي لها صلة بالأمر، نقرأها في سياق الأحداث المتعلقة بانتهاكات السلطة الانقلابية والسجل الخاص بتعامل الأجهزة العدلية مع ضحايا الثورة وشهدائها، وأنّها محاولة لدفن الأدلة الدامغة التي تدين القتل الممنهج عن طريق سلاح الدولة ووأد العدالة".

وطالب بيان اللجنة الجهات الرسمية بالكشف عن المعلومات التي تتعلق بكيفية تسليم الجثامين إلى المستشفيات، والبيانات الخاصة بكل جثمان.

حسين الطيب: هنالك مجموعة من الجهات مسؤولة قانونياً وأخلاقياً عن هذه الكارثة

وفي السياق ذاته، رجح الأكاديمي والخبير الإستراتيجي عماد الدين حسين بحر الدين احتمال وجود شبهة جنائية بشأن هذه الجثامين، "ربما هنالك بعض الإشارات لما ارتبط من فض الاعتصام، والمفقودين، وضحايا الاحتجاجات التي ظلت متأججة في البلاد".

واستنكر الأكاديمي السوداني في حديثه لـ"حفريات" غياب أيّ شيء يدل على هوية عدة آلاف من الموتى حين وصولهم إلى المستشفيات، "أي شخص سيكون في جيبه ما يدلّ على هويته أو معظم هؤلاء الموتى على الأقل، فأين ذلك؟".

وقع حادث فضّ اعتصام القيادة في حزيران 2019، وخلّف (66) قتيلاً بحسب البيانات الرسمية، و(250) قتيلاً بحسب بيانات القوى الثورية

وأفاد بأنّ قرار النائب العام السابق بعدم دفن هذه الجثث ساهم في طمس الحقيقة، "كان من الواجب الإعلان بشكل دوري عن وجود جثث مجهولة الهوية في ثلاجات المستشفيات، ليتسنى لأهالي المفقودين البحث عن ذويهم بين تلك الجثث، ولكن عدم الدفن أو مناشدة ذوي المفقودين يعني أنّ المكوّن العسكري وربما بعض المدنيين عمدوا إلى طمس الحقائق بخصوص هذه الجثامين".

وبمتابعة التقديرات الرسمية وغير الرسمية بشأن القتلى في العاصمة السودانية منذ الثورة على نظام البشير في نيسان (أبريل) 2019، لا يصل عدد ضحايا الاحتجاجات السياسية إلى ربع عدد الجثامين مجهولة الهوية، فضلاً عن أنّه من غير الطبيعي افتراض عدم تسلم الأهالي لجثامين ذويهم ممّن سقطوا ضحايا هذه الاحتجاجات، أو على الأقل معظم الأهالي.

د. عماد الدين حسين: احتمال وجود شبهة جنائية بشأن هذه الجثامين

ويبدو غائباً عن النقاش بشأن هذه القضية عدة عوامل تساهم في شيوع الجثث مجهولة الهوية في الخرطوم، ومنها وجود أعداد كبيرة تُقدر بمئات الآلاف من اللاجئين والنازحين سواء من داخل وخارج السودان، وجزء من هؤلاء لا يحملون بطاقات إثبات هوية.

ويعيش السودان أزمة سياسية حادة منذ الإجراءات التصحيحية/ الانقلاب في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، الذي قام به رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لينهي شراكة قوى إعلان الحرية والتغيير في السلطة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية