الصّحوة... هل ستموت؟

الصّحوة... هل ستموت؟

الصّحوة... هل ستموت؟


26/01/2023

حسن المصطفى

يحيط بنا العشب الذي عمل البستاني على تشذيبه تشذيباً متقناً، ونحن على متّكأ خشبي. جلسنا، والسجادة الخضراء ممتدة باتساع أحداقنا، كأنها تحتضننا وتلقي علينا منها سكينة وسلاماً.
كان مساءً جميلاً، والهواء عليل يمر علينا خفيفاً، وأقداح الشاي المُبهر تدور كقمر خجل من الشمس بين الأكف.

بابتسامته التي لا تخفي شيئاً من التهكم، قال لي: "الصحوة" لم تمت، هي الآن في مرحلة كمون. أجبته بالإيجاب هي كذلك، لأن الأفكار لا تفنى بين عشية وضحاها، وما عملت الإسلاموية على نشره من أدبيات على مدى عقود، يحتاج لجهد تنويري كبير، مستمر، وصبر، كي يثمرَ وعياً مجتمعياً مدنياً يحل مكان البنى المحافظة – المتشددة القديمة!

كان صاحبي يشاركني القلق ذاته، من رواج خطاب يبشرُ بـ"موت الصحوة" وأنها قبرت إلى ما لا نهاية، لأن هذا الخطاب يقود إلى التراخي المعرفي، وأيضاً يجانب الواقع!

استذكرنا تونس، الجمهورية المدنية التي واجه النظام فيها لسنوات طويلة "الإسلامية الحركية"، وتم سن قوانين صارمة ترسخ العلمانية، بل إن هناك مجتمعاً مدنياً متعلماً ومتشرباً بفكر التنوير الأوروبي وفلسفته؛ إلا أنه بعد عام 2011، صعد "الإخوان المسلمون" إلى الحكم، وعادت "حركة النهضة"... وأكثر من ذلك، مثلت تونس واحدة من أكثر الدول التي شارك شبانها وبناتها في تنظيم "داعش" والسفر للقتال في سوريا!
تونس، مثال مقلق ويبعث بإشارات قوية عن أهمية الانتباه لمدى عدم علمية القول بـ"موت الصحوة". 

الحضور الطاغي للتيارات والمجاميع الإسلاموية المسلحة، بمختلف طوائفها في: العراق، سوريا، اليمن، لبنان، مصر، ليبيا؛ والشعبية التي تحظى بها جماعات كـ"الإخوان" و"السرورية" و"حزب الله"، كلها علامات واضحة في رابعة النهار على أن هناك حاجة ماسة للعمل على التأسيس لمرحلة تنوير حقيقية في العالم العربي بعامة والخليج بخاصة.

في السعودية، جاءت "رؤية المملكة 2030" لتعمل على تغيير البنى المجتعية والثقافية الرتيبة، وكان صريحاً ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في حديثه عن خطر "السرورية" و"الإخوان"، وعزمه على القضاء على التيارات الأصولية المتشددة والإرهاب. وهذه السياسات الإصلاحية عمل عدد من مؤسسات الدولة على تطبيقها، كلٌ وفق اختصاصه. إلا أن الوصول إلى النتائج المرجوة، يحتاج إلى الشروع في التأسيس الثقافي والفلسفي لـ"الرؤية"، بوصفها ليست مجرد رافعة اقتصادية للمملكة، بل المحرك الأساس لعملية التنوير، والدافع لها للتقدم نحو الأمام.

هذا التأسيس الفكري، إحدى مهامه الأساسية مناقدة "الصحوة" لا وفق منطق المناكفات القديمة التي كانت تحدث بين الليبراليين والصحويين، بل بناء منظومة معرفية وروحية تحل مكان المنظومة السالفة التي روّج لها المتأسلمون وقدموها بوصفها الحق المطلق الذي على الجميع الاهتداء به.

المنظومة الجديدة يجب أن لا تكون انفعالية، أو خاضعة لردود الفعل، أو قائمة على أداء تكتيكي؛ بل تضع نصوصاً مؤسسةً بمثابة المنهج المعرفي الاسترشادي للكيفية التي من خلالها يكون هنالك "لاهوت تنوير" جديد يحقق للمواطنين، وتحديداً الجيل الجديد، تطلعاته المستقبلية، ويجعل لديه وعياً بماهية مواطنته ومعناها، ومفاهيم الدين والدولة والإنسان.

الإجهاز على "الصحوة" يتم من خلال تفكيك نصوصها المؤسسة لها، وعدم التوجس من مساءلتها، والبعد من وضع خطوط حمر تحجب نقد أفكار بحجة أن أصحابها علماء أفاضل أو شخصيات ذات حيثيات تاريخية ما!

تصنيم الشخصيات، وعبادة التاريخ والنظر إليه وكأنه "الفردوس المفقود"، هي من الأمور التي تبقي "الصحوة" حاضرة حتى في أنفس غير الملتزمين دينياً بها.

المطلوب اليوم، التأسيس لوعي مدني، يجعل الإنسان منسجماً مع حياته الطبيعية التي يمارسها. لا أن يذهب الفرد إلى حفل موسيقي أو مسرحية أو يجلس في أماكن مختلطة، ثم يقول إنه يستغفر الله مما قام به، وكأنه اقترف الكبائر أو أذنب.

هذه الازدواجية المرضية، مفتاح لفهم السبب الذي يدفع حتى بغير المتدينين إلى الالتحاق بـ"داعش" و"القاعدة" والجماعات الأصولية، لأن "الصحوة" كامنة في قلوب هذه الشريحة من الناس، الذين لم يتلقوا ثقافاتهم إلا من إمام الجامع أو أستاذ حلقة القرآن أو مجالس الأهل التي ترتهن للعادات والتقاليد ولخطاب "الصحوة".

كلما ضعفت مواجهة "الصحوة" فكرياً وفلسفياً، بقيت "الصحوة" قادرة على الصمود في المخبأ. لذا، يجب استعادة "الدين" من "الصحويين" وبناء فكر جديد، يتمتع بالقوة العلمية والتأثير الاجتماعي والقدرة على الإقناع والاستمرارية في التطور مع تقدم البشرية، فكر يكون على قطيعة معرفية تامة مع ثقافة العنف والكراهية والانعزالية.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية