الطاهر الحداد: مجتهد توفي في عزلته بعد مواجهة مع فقهاء التقليد

الطاهر الحداد: مجتهد توفي في عزلته بعد مواجهة مع فقهاء التقليد

الطاهر الحداد: مجتهد توفي في عزلته بعد مواجهة مع فقهاء التقليد


17/01/2024

عندما يطول مكوث المجتمعات في حالة من الركود الاجتماعي والسياسي، يتبع ذلك ركود مماثل في منظومة الأفكار والمعتقدات للمجتمع، ويبقى الحال كذلك حتى يظهر من يحاول إيقاظ محيطه من السبّات، ولكن الاستجابة قد لا تكون إيجابية بالضرورة، وعادةً ما تكون ردة الفعل رافضة ومحاربة، وهذا ما أدركه "الطاهر الحداد"، المجتهد الشاب، الذي جلب له اجتهاده حرباً، تحالف ضده السلطان مع الفقيه مع رجل الشارع، فكيف كان ذلك؟
اطلاع وثقافة واسعة رغم النشأة التقليدية
ولد الطاهر الحداد بتونس عام 1899، لوالد مهاجر من قابس (جنوب تونس) كان يعمل في حرفة متواضعة في سوق الشواشين بتونس العتيقة. وتلقى الحداد تعليماً دينياً تقليدياً، فالتحق بالكتّاب، ثم أكمل دراسته بجامع الزيتونة.

غلاف كتاب: العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية

ورغم عدم إتقانه لغات أخرى، إلا أن شغفه قاده إلى الاطلاع على المعارف والآداب الحديثة، فكان زائراً دائماً للجمعيات والأندية الأدبية ومكتباتها، وكان يقرأ كل ما يقع بين يديه من الكتب المترجمة، إلى أن تشكّلت عنده ثقافة واطلاع على تحوّلات الأفكار والنظم في العالم الحديث، وأدرك مدى ضرورة التحديث والتجديد في الفكر والعلم الشرعي، وهكذا بدأت رؤيته تتبلور منذ مرحلة مبكرة.

الثقافة إلى جانب النضال
وفي عام 1920 تخرّج الحداد من جامع الزيتونة، وسرعان ما برز اسمه بين كتاب الأعمدة في الصحف، رغم صغر سنّه، فكانت تفصح كتاباته عن بصمة وقراءة خاصة بصاحبها، وفي قوالب فكرية مبتكرة بعيدة عمّا هو سائد ومكرر.

لا يرى الحداد الإسلام كنصوص ثابتة عند لحظة تاريخية ما في الماضي وإنما كأحكام متجددة بتجدد الأحوال

وكان الحداد منذ تلك المرحلة منخرطاً في شؤون الاجتماع والسياسة العامّة، فقد شهد المرحلة التأسيسية لـ حزب "التجمع الحرّ الدستوري"، أول حزب وطني تونسي، والحزب القائد للحركة الوطنية التونسية في مواجهة الاستعمار الفرنسي.
كما كان الحداد مقرباً من الاسم الأهم والمنظّر الأول في الحزب، وهو الشيخ الإصلاحي عبدالعزيز الثعالبي، الذي عهد إليه بمهمة إذاعة فكر الحزب ونشره عبر ما يكتب من مقالات، بسبب قدرة الحداد في البيان واتقّاده في الفكر.
كما كان الحداد في تلك المرحلة قريباً من مشهد الحركات النقابية والعمالية الناشئة آنذاك، حيث شهد مرحلة نشأتها وظهورها وتبلورها، بقيادة رفيقه المناضل النقابي "محمد علي الحامي"، وتتوج هذا الانخراط في إصداره كتابه التأريخي الهامّ "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" عام 1927، الذي أرّخ فيه للحراك العمالي.

ومع انخراطه ونضاله في قضايا السياسة، كان الحداد يواصل دراسته وتعليمه، فالتحق بمدرسة الحقوق التونسية، وتخرج منها عام 1930 حاصلاً على شهادة القانون.

تبلور رؤية إصلاحية
وبفضل الثقافة الواسعة متنوّعة المشارب، ومع الانخراط والنشاط في المجتمع والسياسة، وعمله كموثّق للعقود، لمس الحداد صميم مشاكل المجتمع، وتبلورت لديه رؤية إصلاحية تنطلق من الإخلاص للمجتمع وقضاياه وإرادة النهوض به، وهي رؤية مستندة لنصوص الشريعة، وليست منقطعة عنها كما كان سائداً عند حاملي فكر التحديث آنذاك.

وجد الفقهاء في صدور كتاب الحداد الفرصة الأمثل للتغطية على ورطتهم في المؤتمر الأفخارستي

وكانت رؤية الحداد قد ذهبت في اتجاه المنظور المقاصدي لأحكام الشريعة؛ فهو يميّز بين ما هو ثابت في الدين ولا يتغيّر بمرور الزمن، كأحكام العقيدة ومكارم الأخلاق، وما هو قابل للتغيّر والتطوّر، بما يحقق مقتضيات العصر، وهو ما رأى أنه ينطبق على الأحكام الشخصية.

غلاف كتاب: امرأتنا في الشريعة والمجتمع

يرى الحداد بأنّ ثورة الإسلام ورسالته ينبغي أن تتطور وتستأنف، وبما يضمن تحقيق الغايات والمقاصد دائماً؛ حيث لا يرى الطاهر الإسلام كنصوص ثابتة عند لحظة تاريخية ما في الماضي، وإنما هي أحكام متجددة بتجدد الأحوال والأزمان، وبهذا المنطق انطلق الحداد باحثاً في أحكام الشريعة، وفق هذا المنظور المقاصدي، الذي تميزت به بعض اتجاهات المدرسة الفقهية المالكية، ممثلةً في الشاطبي، وكتابه "المقاصد"، ومن بنى عليه وتابعه.

"امرأتنا في الشريعة والمجتمع"
أولى الحداد عناية كبيرة بالمرأة وكل ما يتعلق بأحكامها في الشريعة، وذلك لإدراكه أن لا نهوض متكاملاً للمجتمع دون النهوض بنصفه، وهنا جاء كتابه الأشهر: "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، الصادر عام 1930، والذي تعرّض فيه بالتفصيل لأحكام الشريعة الخاصة بالمرأة، وطبّق فيها منظوره المقاصدي، ودعا فيه إلى تمكين المرأة من حقوقها المدنيّة كالمساواة في حقّ الشّهادة، والامتثال أمام القضاء كفرد مستقل، وحرّية التصرّف في مالها.

اقرأ أيضاً: قاسم أمين.. تحولات في قراءة واقع المرأة
وجاءت الآراء الأكثر جُرأة مع اعتباره مسألة الميراث "قابلة للتغيّر في اتجاه المساواة"، وتطرق لموضوع "تعدد الزوجات" حفاظاً على وحدة الأسرة واستقرارها جهر، كما نادى الحداد بتحكيم القضاء في كل ما يحدث من حوادث الطلاق، وشدد على إنهاء زواج القاصرات.

ارتباك الفقهاء وهجوم مضاد
لم يقتصر التحدي والصدمة التي جاء بها الحداد على الآراء الجريئة غير المعهود آنذاك، بل شكل استناده بشكل كامل على نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف، ارتباكاً لفقهاء التقليد إزاء هذا الطرح الجديد.
حيث كانوا يرون أنّ من يحمل مثل هذه الآراء، منقطع عن الشرع، فيسهل وصمه بالضلال والجهل في أمور الدين.

بدأت الحملة مع نشر الشيخ "راجح إبراهيم" مقالاً مطولاً في جريدة النديم، تهجّم فيه على الكتاب والكاتب، والعجيب ما قاله في نهايته: "الحمد لله الذي برأني من قراءة الكتاب"، فهو هجوم أعمى، دون اطلاع.
ثم جاء رد الشيخ الزيتوني "محمد الصالح بن مراد"، الذي خصص كتاباً كاملاً باسم "الحِداد على امرأة الحَدّاد"، وجعل عنوانه الفرعي: "رد الخطأ والكفر والبِدَع التي حواها كتاب: امرأتنا في الشريعة والمجتمع".
وتبعه كتاب الشيخ "عمر البرّي المدني"، الكاتب في النظارة العلمية لجامع الزيتونة، وأسماه "سيف الحق على من لا يرى الحق".

ما وراء الحملة
وبالنظر إلى سياق الحملة وما سبقها من أحداث، نجد أن كتاب الحداد صدر بعد فترة قصيرة من انعقاد المؤتمر "الأفخارستي" بقرطاج في نيسان (أبريل) من عام 1930، وهو مؤتمر كَنَسي عقده الفرنسيون على أرض تونس لأهداف استعمارية صريحة، وبالتزامن مع احتفالاتهم بمئوية احتلال الجزائر، وقد رفعت فيه الصلبان، كنوع من التحدي، وفي إطار هجمة ومساعي التهديد والاستهداف لهوية الشعب التونسي المسلم.

مع انخراطه في العمل السياسي واصل الحداد دراسته وتعليمه فالتحق بمدرسة الحقوق التونسية وحصل على شهادة القانون

وكان عدد من الفقهاء قد تورطوا في تزكيته، وقبلوا أن تدرج أسماؤهم بقائمة لجنته الشّرفيّة والتزموا بالصّمت عند صدورها، وبعد أن بان لهم حقيقة المؤتمر وخطورته، وبدأت تطالهم هجمة شعبية واسعة، لم يملكوا أمامها سبيلاً للمواجهة، حتى ظهر كتاب الحداد، فوجدوا فيها الفرصة الأمثل للتغطية على ورطتهم، فأثاروا عليه ضّجّة كبرى، ليشغلوا الصُّحف والرأي العامّ به، وليستعيدوا صورتهم والثقة المهزوزة عند الجمهور عبر الظهور في صورة حماة الشريعة وحفظة الإسلام.
وكان ملك البلاد التونسية آنذاك أحمد باي، قد تورّط أيضاً في المؤتمر، فاندفع لتقديم الغطاء والتسهيلات للحملة ضد الحداد.

اضطهاد وعزلة
توّج هذا الهجوم بتكليف النّظارة العلميّة بالزيتونة هيئة من الشّيوخ لتقييم الكتاب وتقديم تقرير عنه، ترأّسها "الطّاهر بن عاشور"، وقدّمت تقريراً أمرت فيه بحجز الكتاب لما جاء فيه من أقوال "تناقض التّعاليم القرآنيّة وتتضمّن عدواناً على مقام النّبيّ الأعظم"، حسب التقرير.

بالإضافة إلى ذلك، أعفي الحداد من عمله كموثّق للعقود، وقد تضمنت فتوى اللجنة وقرار المصادرة والإعفاء من العمل تكفيراً ضمنياً وسلباً لصفة الإسلام عن الحداد، وهو ما كان أكثر صراحةً في الشارع، حيث ذاعت تهمة كفر وزندقة الحداد بين العامة، حيث تحرّك الرأي العام الشعبي ضد الحداد، ما سبب له أذىً كبيراً، فكان إذا خرج للشارع قام الناس بشتمه وضربه ورماه الصبية بالحجارة، ما دفعه للبقاء منعزلاً في منزله.
الوفاة.. من القهر والعجز؟
بقي الحداد في عزلته حتى توفي عام 1935، وهو شابّ في السادسة والثلاثين من عمره، فكان سبب موته أقرب إلى أن يكون شعوره بالقهر والعجز واليأس.
واستمرت مقاطعة الحداد حتى بعد وفاته، فلم يمش في جنازته إلا عشرة أفراد، من أقرب أصدقائه إليه. وقد رثاه صديقه الأديب "الطاهر العبيدي"، بعد ما وقف على قبره، في قصيدة محكمة قال فيها:
قفوا حيّوا المجاهد والعميدا … وصلّوا لنبوغٍ قضى شهيدا
قفوا وابكوا الرجولة والمبادي … فذا معناهما أمسى لحيدا
ثم يقول في ختامها:
أخي إن سامك السفهاء سوءاً … وكان زمانكم نذلاً كنودا
فلا تحزن فذا التاريخ عدل … سيمنح اسمكم منه الخلودا
ولكن فِكر الحداد لم يمت بوفاته، فقد حمله وتأثر به عدد كبير من قادة ومناضلي الحركة الوطنية التونسية، وفي مقدمتهم الحبيب بورقيبة، والذي بادر بعد استقلال البلاد إلى ترجمة واعتماد آرائه في مدونة الأحوال الشخصية الصادرة عام 1956، وما زالت المرأة التونسية تحتلّ الصدارة في العالم الإسلامي من جهة الحقوق المكتسبة، وهو ما كان لجهود الحداد الفَضل الأوّل فيه.

مواضيع ذات صلة:

الزندقة.. سلاح الطغاة والفقهاء لمواجهة المعارضين والعقلاء

حقوق المرأة: هل يمكن أن تصل امرأة تونسية للرئاسة هذا العام؟

- المرأة في خطاب اللامساواة: العفة القهرية وعنف الفقهاء



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية