العلمانية في السياق العربي: مفهوم الالتباس

العلمانية في السياق العربي: مفهوم الالتباس

العلمانية في السياق العربي: مفهوم الالتباس


18/09/2023

بالمجمل، يعرف مفهوم العلمانية بما هي نمط من التعامل مع المعطى الديني، وفق شروط هذا العالم، وقد يتخذ هذا التعامل عدة أشكال بدون أن يثبت في نموذج أحادي، ومن خلال هذه الدينامية التي يعكسها المفهوم، تحضر قابليته للتعاطي مع السياقات المختلفة، ومن هنا يمكن القول إنّ فعل التعاطي مع الجانب الديني لا يعني حذفه خارج المجال البشري، فإذا ما حاولنا قراءة وضعنا العربي إزاء هذه المساءلة؛ نجد أنّنا غالباً ما ننطلق من مسلّمة مفادها: أنّ العلمانية تتمركز حول أنّ الغرب عمل على نفي الدين خارجاً، ممّا يجعلنا نتخذ دوماً دور المدافع/ المهاجم، الخائف على نفي الدين خارجاً، أو على العكس من ذلك، الاستغراق في وهم الاستبعاد ونفي الدين خارجاً،  فهل فعلاً هناك قابلية لحذف الدين، أو القطع معه خارج مجال العيش المشترك؟ عملية الحذف أو القطع هنا تحيل مبدئياً بأذهاننا بإمكانية وجود معطى ديني قابل للتحديد، وكذا التحجيم، قصد الإمساك به وإلقائه خارجاً، فهل يستقيم الأمر؟   

نتخد مفهوم العلمانية تارة لملئه بإيديولوجية تديننا، وتارة رفض هذا التوجه الديني بدعوى عرقلته لعملية التحديث، وهو ادّعاء إمكانية البناء بعد عملية الهدم الشامل، وهو أمر غير متاح

لننطلق من رصد المفهوم في سياقه الغربي، حيث تمّ مرافقة بناء المفاهيم الحداثية نوع من سقوط الحدود الدينية، أو حتى تهميشها أحياناً؛ عبر عملية قلب الأدوار، واستبدال إطلاقية بإطلاقية أخرى معاكسة، في إطار الاستجابة لمنطق التحدي، الذي فرضه السياق الحداثي الغربي، لكن رغم هذه الرؤية العقلانية، ظلّت هذه العقلانية في العمق عملية استيطانية لأعضاء العناية الإلهية، داخل أنساق فلسفية حداثية تخص حيثيات هذا العالم. فالإطلاقية الدينية استبدلت بشكل تدريجي بإطلاقية دنيوية، وهو استبدال لا يعني تغييب أحدهما للآخر، بقدر ما يعني نزع آليات تسلط الدين في المجال الدنيوي، هذا النزع أو السلب، هو ما منح إمكانية الفاعلية البشرية وفق عقلية علمية، لذلك فإنّ التجارب التاريخية التي يمكن وصفها بأنّها تجارب استطاعت الخروج عن الدين، لا تمنحنا إغلاق النقاش الدائر حولها بشكل نهائي؛ لأنّ الخروج النهائي أمر غير متاح بعد، وإنّما هي مجرد فرضية، تقوم على أساس تهميشه؛ قصد تحقيق نزع لإطلاقيته، أو تقليص لها إزاء العالم المعيش، إنّها عملية رفع الحدود التي رسمها الدين، أو تأجيل مساءلته إلى حين، هذا الأمر ألبس مفهوم العلمانية مغالطات عدة، تخص كلّاً من التوجه العلماني والتوجه اللّا علماني في السياق العربي، فما معنى ذلك؟.

في الحقيقة؛ التوجهان معاً يستبطنان فوبيا التغيير، فتارة نخاف على المعطى الديني الذي يشكّل نقطة أرخميدية في مخيالنا العقلي، حتى وإن لم يكن راهننا يحيل على وجوده بشكل واقعي، وتارة نخاف على عجلة نهضتنا؛ بدعوى عدم توافق تديننا ومفهوم التحديث. التوجهان يستخدمان ذريعة للاحتماء من فشلنا إزاء الإبداع الذاتي، أو الإبداع التفاعلي، رغم أنّ الغرب نفسه لم ينفصل عن الدين أو لم ينفه خارجاً، بل عمل على صبغه بوظيفة عملية؛ تتجلى من خلال قيم المواطن، هو نوع من عقلنة التصور بما هو عالم يخضع لمنظومة قوانين، فالفاعلية البشرية المنكبة على هذا العالم، هي السبيل الوحيد للخلاص الدنيوي. إنّ إزالة وهم الخلاص الديني ليس نفياً للتداخل بين الدنيوي والديني، بل إنّه فرصة لبناء المعنى من جديد، وتوجيه دفة الوجود نحو اتجاه معاكس. ترجيح كفة العيش هنا، وترجيح الكفة لا يعني بالضرورة إزاحة الدين خارجاً، فهذا الأمر غير ممكن وغير متاح. فزوال الدين هو سقف ما بعد حداثي، لم تأتِ به الحداثة، بقدر ما انطوى على طموح ما بعد حداثي، كنوع من رفع التحدي لتجاوز ظرفية سياقية غربية، ورفع التحدي لا يعني ترجمته واقعاً معاشاً.

النقاش حول استبعاد أو إبقاء الدين هو نقاش بيزنطي؛ يجعلنا نطيل البقاء في مستنقع اللّا فعل، وربما يحتاج الأمر إلى تأجيل الحكم، ووضع الأمر بين قوسين إلى حين

 

يمكن القول إنّنا نتخد مفهوم العلمانية تارة لملئه بإيديولوجية تديننا، التي ترنو تسجيل الاصطفاء الإلهي، أكثر من تحقيق تفاعل البناء الدنيوي، وتارة رفض هذا التوجه الديني بدعوى عرقلته لعملية التحديث، وهو ادّعاء إمكانية البناء بعد عملية الهدم الشامل، أو عملية مسح الطاولة لإعادة ترتيبها وفق منظور غربي، وهو أمر غير متاح، فالهدم يولد ركاماً، لا يمكن إخراجه أو رميه خارجاً، إذ يظل هنا شاهداً على بعثرة مشوهة لهذه العملية الاستئصالية لجزء يعبّر عنا ويمثلنا.

إنّ الأمرين معاً يترجمان توجهاً إيديولوجيّاً أكثر منه واقعاً حداثياً، وهو نوع من الاستمالة للقول: إنّ قوتنا هي في عكس المنظور الغربي، أو عكس هويتنا، بالنهاية لا يخرج القول هنا عن نوع من الارتكان إلى موقع الدفاع أو الهجوم؛ بناءً على معركة وهمية دونكيشوتية، نعيش فصولها في أذهاننا؛ وتجعلنا نغطي على الشعور بالدونية النهضوية، وتعويضها بالتفوق الوهمي للانتماء الديني، أو رسم معالم فكر ارتكاسي، يستمد توجهاته من اللّا فعل الذاتي؛ لاستلهام حيثيات الفعل الغيري. إنّ النقاش حول استبعاد أو إبقاء الدين هو نقاش بيزنطي؛ يجعلنا نطيل البقاء في مستنقع اللّا فعل، وربما يحتاج الأمر إلى تأجيل الحكم، ووضع الأمر بين قوسين إلى حين.

بالنهاية، التوجهان ينتعشان على مستنقع الانغلاق، الذي يخندق وجودنا وفق رؤية تبسيطية، تدين للدين بانغلاقها، أو تزيح الدين بدعوى انفتاحها؛ وما هو سوى انغلاق/ انفتاح الخائف/ العاجز عن المشي خارج الأرضية التي اعتقد بثباتها ولا حركيتها، نحو أرضية رخوة، يعرف مسبقاً بلا جدوى طهرانيته الدينية أو اللّا دينية فوقها.

مواضيع ذات صلة:

هل ساهمت العلمانية في بروز الإسلام السياسي؟

العلمانية ليست ضد الحجاب

العلمانيوفوبيا: رهاب العلمانية في خطاب التنظيمات الراديكالية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية