العلمانية واستقبالها في البناء الأيديولوجي الشرقي الإسلامي.. في استقلال الذات العربية (1-2)

العلمانية واستقبالها في البناء الإيديولوجي الشرقي الإسلامي (في استقلال الذات العربية) (1-2)

العلمانية واستقبالها في البناء الأيديولوجي الشرقي الإسلامي.. في استقلال الذات العربية (1-2)


21/02/2023

"الكائن الذاتي يصنع ذاته بذاته، وبالعمل على ذاته" .. ناصيف نصار

يعاني العقل الإسلامي من غياب غير تام للقدرة على تحديد المفاهيم التي ينطلق عادة منها ويتحدث باسمها، وينتج عن هذا الغياب تشوش وتشوه معرفي غير قليل، خاصّة إذا لم تكن غالبية هذه المفاهيم عربية المنشأ، ولكنّها عربية الاستقبال.

والتاريخ الإمبريالي الغربي صاغ نمط استقبال يشيطن كل ما هو غربي داخل العقل الإسلامي، فكل ما هو غربي يمثل، بشكل أو بآخر، ومن زاوية أو أخرى، لدى البعض، إحدى الأدوات الاستعمارية المنشأة خصيصاً للنيل من العقل الإسلامي والدين الإسلامي، الذي يرى فيه هذا التيار ميزته الكبرى.

وما أحاول طرحه هنا هو الاشتباك مع الكيفية التي استقبل بها العقل الإسلامي أحد أهم المفاهيم التي تحمل ما يكفي من الالتباسات؛ وهو مفهوم العلمانية، وتمثل العلمانية (يتم التجاوز عن الفوارق البحثية بين العلمانية والعلمانوية والعلمنة؛ لأنّها لا تقع ضمن اعتبارات الشرق الإسلامي، ومجاوزة لمنطقة الحديث المعنية هنا) تمثل بالنسبة إلى البعض طوق النجاة للمجتمعات العربية لما تعانيه من أزمات ومشكلات، ولا يرى فيها أيّ تعدٍّ على الدين كـ "ناصيف نصار"، و"عبد الإله بلقزيز"، و"عزيز العظمة" وغيرهم. في المقابل فإنّ العلمانية تمثل تهديداً واضحاً وصريحاً، بل أداة هدم صيغت خصيصاً للنيل من الدين الإسلامي لدى التيار الأصولي والتيار السلفي.

 يختلف التياران في الشرق الإسلامي، ولا يحاولان الالتقاء، فنجد التيار المناصر للعلمانية يتهم التيار الرافض لها بالإفلاس الفكري، ويتهم التيار الرافض للعلمانية التيار الآخر بالإفلاس والتآمر العقائدي. ويمكن أن نسمّي التيار المناصر للعلمانية التيار الحداثي؛ باعتبار العلمانية أحد منتجات الحداثة، ويرى التيار الحداثي (الوسطي منه وغير المتطرف) أنّ العلمانية تمثل تقنية سياسية تسعى لنمط حكم أفضل أقلّ ديكتاتورية، ويطالب التيار المحافظ (الرافض للعلمانية) بفهم العلمانية كونها تقنية سياسية؛ ومن ثم فهي ليست تعدياً على الدين. ولكنّه يغفل صورة الدين في العقل المحافظ؛ وهي صورة تتخذ طابعاً شمولياً، فتضع السياسة ضمن بنية الدين، وتضع الحفاظ على الدين كأول مهام السلطة السياسية وسبب وجودها.

التاريخ الإمبريالي الغربي صاغ نمط استقبال يشيطن كل ما هو غربي داخل العقل الإسلامي، فكل ما هو غربي يمثل، بشكل أو بآخر، ومن زاوية أو أخرى، لدى البعض، إحدى الأدوات الاستعمارية المنشأة خصيصاً للنيل من العقل الإسلامي والدين الإسلامي، الذي يرى فيه هذا التيار ميزته الكبرى

في المقابل، يضع التيار الديني المحافظ، أحياناً، العلمانية كمرادفة للإلحاد، رافضة للنمط الديني، وربما تكون العلمانية تمثل تعدياً عمّا يراه حقاً للدين في الإدارة السياسية، ولكنّه يراها رفضاً للدين بالكليّة.

وبين هذا وذاك، نجد موقف المفكر العربي القومي محمد عابد الجابري، الرافض للعلمانية؛ كونّها تمثل رفضاً للكهنوت والوساطة بين الإنسان والله، وتبعاً لهذا المفهوم؛ يرى الجابري أنّه لا معنى لوجودها في السياق الإسلامي، فالدين الإسلامي قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله، فهو لا يعترف بأيّ وسيط. ويطرح الجابري ما يسميه الديمقراطية والعقلانية، بديلاً عن العلمانية، فالديمقراطية تعني حفظ الحقوق: حقوق الأفراد والجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية. والعلمانية كما طرحت نفسها لم تكن تعني سوى ما ذكره الجابري تحت مسمّى العقلانية، ويتضح هذا في السطور التالية:

العلمانية كتساؤل عمّا هو أفضل

بالرغم من تعدد تعريفات العلمانية، إلّا أنّ هذه التعريفات تفتقر لرؤية العلمانية كمنجز بشري في رحلة بحث الإنسان عمّا هو أفضل، فالتاريخ الإنساني يمثل سعي الإنسان لسبل أكثر راحة ورفاهية، واستجابة لحاجاته الإنسانية. فنتجت العلمانية عن اختمار معرفي لما قدّمه العقل الغربي (لوثر، كالفن، ميكافيلي، هوبز، سبينوزا، لوك، روسو، فولتير، كانط) حيال أزماته، وبدأت بمحاولة "كسر احتكار الكنيسة للإيمان الديني، وذلك برده إلى الذات البشرية"، والتي كانت تمثل رحلة البحث عن حرية الاعتقاد، وإعادة تشكيل العلاقة بين الزمني والديني، بحيث لا يخضع الزمني للديني، ولكن يتحرر الزمني من الديني وتستقل السلطة السياسية عن الدينية، المرتبطتين في هذا الحين، وما نتج عن ذلك من نظام حكم ثيوقراطي مطلق بطبيعة الحال، جاء هذا الاستقلال من خلال البحث عمّا هو أفضل في الحياة الدينية والسياسية، وكشف هذا البحث الستار عن الاستغلال الفاضح للدين من أجل خدمة أهداف العرش، وهذا دفع في نهاية الأمر إلى استقلال السياسة عن الدين.

أمّا من ناحية العلم، فقد كانت السلطة الكنسية تناصبه العداء، وتضع العلم اللاهوتي في أعلى سُلّم العلوم جميعها، فهو الذي يعطي لباقي العلوم شرعيتها، وهو ما جعل كافة العلوم ومنجزاتها مرهونة بقبول رجال الدين لها، وما يقتضيه هذا من معرفة رجال الدين بهذه العلوم حتى تتمكن من الحكم عليها؛ لذا جاء موقف العلم كرد فعل على طغيان وسلطة الكنيسة الواسعة، التي وضعت نفسها بديلاً عن كافة العلوم الدنيوية ورقيباً عليها، وكان رد الفعل ـ تبعاً لقانون نيوتن ـ مساوياً لقوة الفعل، مضاداً له في الاتجاه، فحاول العلم الإنساني الخروج على الكنيسة، بل دفع انتشار العلم وعدم نخبويته والانبهار بنتائجه الواقعية، إلى سعى العقل الإنساني حينها إلى محاكمة الدين بآليات العلم، وهو ما انتهى به إلى رفض الدين وتقويضه؛ وعليه جاءت النبوءات الحداثية بتراجع الدين وتلاشيه.

 التساؤل عن مستقبل الدين والتنبؤ بتراجعه وتلاشيه

أفضت النزعة المنهجية التي أفرزتها الثورة التنويرية إلى وضع مناهج العلوم الطبيعية كنموذج للمنهجة والمعرفة الحقة، وهو ما وضع الدين في مأزق، فالغيبيات الميتافيزيقية تُعدّ أهم مضامين الدين، ولا تخضع للمنهج على كل حال، ممّا أدّى إلى عدم صمودها أمام العلم وتراجعها، وهذا ما أفضى بنظريات ونبوءات تراهن على تلاشي الدين وتراجعه. تنبأ أوجست كونت بزوال الدين، مع تنامي قدرة العلم وتراجع الدين الذي كان يحتكر الإجابة عن كل شيء، والعلم اليوم يجيب عن الكثير منها، وفي مراحله الأكثر تطوراً سيتمكن من الإجابة عن التساؤلات الغيبية، التي يحتكر الدين الإجابة عنها؛ فتكلم عن مراحل (3) للتاريخ: "الأولى غيبية لاهوتية (خرافية)، والثانية عقلية (تجريدية)، والأخيرة نهائية تتوج بانتشار العقلانية العلمية".

لم يكتب النصر للدين على العلم ولا العكس، ولا للفلسفة على كليهما، بل إنّهم يتجادلون ويتداخلون بطرق شتى؛ تؤدي إلى إبراز أحدهم تبعاً لحاجة المجتمع وظرفه المرهون به، دون نفي الآخرَين وإلغائهما بشكل تام ونهائي

بيد أنّ الواقع أوضح أنّ تلاشي الدين أمر غير مقبول وقوعه، وهذا ما جعل السؤال عمّا هو أفضل بالنسبة إلى الحياة ينحو منحى آخر، وهو ما يسمّيه عبد الجواد ياسين (من نبوءة الزوال إلى فرضية التحول)، فانتقل الفكر الإنساني من نبوءة زوال الدين إلى فرضية إصلاحه وتحوله، وهذا ما يراهن عليه هابرماس وهو يتحدث عن إمكانية المصالحة بين الدين والعلمانية في كتابه: "مستقبل الطبيعة الإنسانية". فالدين الذي يمكن أن يتصالح مع العلمانية هو نسخة معدلة من الدين التقليدي، يتصور ظهورها بالضرورة تحت ضغط التطور، الأمر الذي ينطبق على العلمانية أيضاً. ويمثل هابرماس مرحلة الدمج بين النقيضين في الجدل الهيجلي، ويطالب هابرماس الأرثوذكسية العلمانية في الغرب بالكفّ عن المطالبة بإزاحة الدين والمراهنة على ذلك، في مقابل استنطاق عقلانية الدين ومضامينه، وعلى الدين تفهم الصيرورة الجديدة للعالم، وألّا يكون متحجراً ومعزولاً عنها.

العلمانية كعازل بين الدين والسياسة

وتأتي مرحلة ما بعد الحداثة في تبلورها أكثر إدراكاً للطبيعة الإنسانية، التي لا يمكن اختزالها في البعد العقلي فقط، فهنالك أبعاد روحية تعزّ على الإثبات المنطقي والوضعاني، وفي الوقت عينه لها فاعلية في حياة الفرد لا تقلّ أهمية عمّا يمكن إثباته منطقياً أو وضعانياً، ويقع الدين في إطار هذه الأبعاد الروحية، فهو يمثل إجابات مقنعة ومشبعة لمعتنقيه، كما أنّه متجذر في الروح الإنسانية، وهذا ما تسانده التجربة التاريخية، فلم يتمكن الوجود الإنساني من نفي الدين عن المجتمع الإنساني؛ لذا ترك للدين مساحته، شريطة أن يلتزم بدوره الروحي ولا يتجاوزه؛ ليصبح رقيباً على العقل الإنساني والإنتاج العلمي، ومن ثم يصبح عقبة أمام التطور الإنساني.

لم يكتب النصر للدين على العلم ولا العكس، ولا للفلسفة على كليهما، بل إنّهم يتجادلون ويتداخلون بطرق شتى؛ تؤدي إلى إبراز أحدهم تبعاً لحاجة المجتمع وظرفه المرهون به، دون نفي الآخرَين وإلغائهما بشكل تام ونهائي، بل إنّ الدين كثيراً ما استعان بالعلم لإثبات بعض معتقداته وقضاياه، وكذلك لا يمكن نفي الدور الذي لعبته الفلسفة مع المعتقدات الدينية، خاصّة المسيحية والإسلام، واستغلال الدين لغة الإقناع والعقل الفلسفية للبرهنة العقلية لمعتقداته وقضاياه والدفاع عنها؛ لذا يأتي العقل المعاصر مطالباً كلّاً منهم التزام مساحته ومنطقته، خاصّة الدين لطابعه السيادي، الذي عادة ما يسعى إلى فرضه وتنصيب نفسه كرقيب ومشرعن لباقي الأنساق الأخرى.

وعليه أخذ الفكر الإنساني منحىً مختلفاً -أكثر نضجاً- يحاول فيه وضع الدين في إطاره الروحي، دون تدخله في السلطة السياسية، مقابل أن تضمن السلطة السياسية للدين حرية ممارسته دون التدخل في مضامينه أو استغلاله، وتحول التساؤل عن مصير الدين إلى التساؤل عن موضع ودور الدين، لذا كان من الحري بالدين (نمط التدين القائم) التنازل عن السلطة المطلقة والتدخل في الشأن الدنيوي، في مقابل أن تتنازل العلمانية عن تمسكها بالمنهج العلمي كمعيار لما هو حقيقي؛ لتفضي في النهاية إلى نمط تدين أكثر انفتاحاً وتسامحاً، وعلمانية أكثر واقعية وإدراكاً للأبعاد الإنسانية.

من خلال تطور رحلة البحث عمّا هو أفضل، وتنامي أدوات البحث وتعمقها، تجاوز العلم حالة الافتنان بما هو تجريبي، وتخلى عن نبرة الثقة المفرطة في العقلانية، ونبت مفهوم مختلف عن العلمانية يضع ضمن اعتباراته الحاجة الإنسانية للدين، وغياب إمكانية نفيه عن الحياة العامة؛ لتصبح العلمانية تمثل "حياد الدولة المبدئي بالنسبة إلى الدين، ولا يقتضي حياد المجتمع وأفراده بالنسبة إلى الدين، لأنّ الدولة ليست المجتمع بكليته". أو كما يقدّمها الباحث والمفكر السوري حسام الدين درويش: "التمايز البنيوي (العملي أو الواقعي)، والتمييز البنيوي (النظري أو المعرفي) بين الدين أو الديني، وما هو ليس بدين أو غير الديني"، والتمايز حسب ما يطرحه درويش ليس الفصل التام، بل "قد يتضمن اتصالاً وترابطاً بين المتمايزين"؛ لتصبح العلمانية بذلك إحدى التقنيات السياسية التي تقدّم رؤية لنظم وإدارة الدولة، محاولة تفادي الاستغلال الديني للوصول إلى السلطة المتخذة الطابع الثيوقراطي والمطلق.

*باحث مصري متخصص في الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات التأويلية والقرآنية، حاصل على درجة الماجستير في الفلسفة



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية