الفرح الكروي العربي بين تفاعل أهل الحكمة وتقزيم أهل تزييف الوعي

الفرح الكروي العربي بين تفاعل أهل الحكمة وتقزيم أهل تزييف الوعي

الفرح الكروي العربي بين تفاعل أهل الحكمة وتقزيم أهل تزييف الوعي


21/01/2023

كان مفترضاً أن تكون فعاليات مونديال كرة القدم التي اختتمت منذ أسابيع في قطر، حدثاً كروياً بالدرجة الأولى، لكنّ طبيعة تفاعل العديد من الفعاليات السياسية والدينية والفكرية وغيرها، إقليمياً ودولياً، ساهم في زحزحة الشق الرياضي الصرف للفعاليات، نحو الخوض في قضايا شائكة ومعقدة.

يهمنا في هذه المقالة التوقف عند بعض الدروس الخاصة بتفاعل أهل الفكر في المنطقة العربية، وذلك لعدة اعتبارات؛ لعل أهمها زعم نسبة لا بأس بها من هذه الفئة، أو على الأقل، إيمانها شبه اليقيني بأنّها حاملة مشعل النهضة الفكرية، باعتبار هذه الأخيرة أحد أبواب النهضة الحضارية المنشودة.

فطنت الأقلام الرصينة إلى أنّ كرة القدم في السياق الزمني الراهن ليست مجرد رياضة لأنها تحمل قيماً ورسائل إلى المتلقي في العالم بأسره

ونزعم أنه يمكن تصنيف أهم معالم تفاعل هذه الفئة مع فعاليات المونديال في ثلاثة اتجاهات على الأقل:

ــ الأول عنوانه الحضور التأملي، سواء عبر التدوين الرقمي في مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر نشر المقالات، ولو اقتصرنا على الحالة المغربية، ضمن باقي الحالات الخاصة بدول المنطقة العربية، يمكن ذكر تفاعلات العديد من هذه الأسماء التي تحرر وتؤلف في الحقل الفلسفي، موازاة مع أسماء أخرى تحرر وتؤلف في حقل التاريخ، علم الاجتماع، علم السياسية.. إلخ، ومن هذه الأسماء: محمد المصباحي، أحد المتخصصين في أعمال ابن رشد، إبراهيم بورشاشن الذي صدر له مؤخراً كتاب حول ابن رشد أيضاً، بعنوان "الفقه والفلسفة - النظر الفقهي في فلسفة ابن رشد"، محمد أبلاغ عبد العزيز بومسهولي، عبد السلام بن عبد العالي، ضمن أسماء أخرى يُحسبُ لها تسجيل مواقف وطرح رؤى وقراءات، رغم اشتغالها في الحقل الفلسفي، يتميز أساساً بحضور هاجس التجريد في التأليف والتفاعل، ولكن بالرغم من ذلك، كانت في الموعد، ولم تقزم قط من تلك الفعاليات.

كشف تفاعل أصحاب هذا الاتجاه عن حس نقدي سليم في التعامل مع أجواء الساحة، بما في ذلك على الخصوص قراءة تعامل العامة أو الشارع، داخل وخارج المنطقة العربية مع أخبار المونديال، وخاصة الأخبار التي تهم أداء دول المنطقة، وفطنت هذه الأقلام إلى أنّ كرة القدم في السياق الزمني الراهن ليست مجرد رياضة، ليس لأنها تلقب بأكبر رياضة شعبية في العالم وحسب، فهذا جزء نسبي من الصورة، ولكن لأنها تحمل قيماً ورسائل إلى المتلقي في العالم بأسره.

 

ــ أما الاتجاه الثاني، وبه تتضح أولى قلاقل تفاعل فئة المفكرين مع هذه الأحداث، فلم يخرج عن شعار القلاقل، حيث تبنّى أصحابه خطاب الوصاية على الشارع والرأي العام، بما في ذلك إطلاق بعض الأوصاف التي لا تليق بأهل الفكر، من قبيل وصف الجماهير التي خرجت للشارع احتفالاً ببعض الانتصارات من قبيل انتصار المنتخب السعودي على نظيره الأرجنتيني أو انتصارات المنتخب المغربي، بأنها جماهير من "القطيع" أو "الرعاع" [كذا]، مع إصرار غير سوي عنوانه التعامل مع الفعاليات من منظور اختزالي غارق في التناول الإيديولوجي.

بل وصل التردي في التعامل لهؤلاء مع احتفالات شعوب المنطقة بالسخرية من تلك الاحتفالات والتقزيم منها؛ لأن هناك قضايا سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية أهم من التركيز على حدث رياضي كروي عابر في الزمان والمكان، وواضح تأثير خطاب تزييف الوعي لهذا الصنف في التعامل، مع الإشارة إلى أنّ المعنيين بالتزييف هنا ينهلون من عدة مرجعيات أو إيديولوجيات دينية ومادية.

وصل التردي في تعامل البعض مع احتفالات شعوب المنطقة بالسخرية لأن هناك قضايا سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية أهم من التركيز على حدث رياضي كروي عابر في الزمان والمكان

ــ وأخيراً، كان هناك اتجاه ثالث، عنوانه التجاهل الكلي والصمت عن أي تفاعل، ولا نتحدث هنا عن عدم نشر مقالات رأي وحسب، فالناس أحرار في ذلك، لكن وصل الأمر هنا إلى درجة عدم التفاعل الرقمي أساساً، والاقتصار على نشر تدوينات تهم انشغالات ما قبل انطلاق فعاليات المونديال، كأن المونديال لم يكن قائماً قط، بينما العالم بأسره منشغل بأهم حدث رياضي يُنظم مرة كل أربع سنوات.

وإذا كان المبرر الذي يُفسر تعامل الاتجاه الثاني مع تلك الأحداث، مرده تأثير الحالة النفسية لأصحابه، كما عاينا ذلك عملياً مع العديد من الحالات، أو تأثير خطاب تزييف الوعي، فإنّ الأمر لا يبعث على التفاؤل مع الاتجاه الثالث، خاصة أنّ الأمر يهم العديد من الأسماء البحثية المحسوبة على أهل الفكر والنظر.

لن نتحدث عن أتباع تزييف الوعي باسم الدين، بصرف النظر عن وجود مراجعات عند نسبة من هؤلاء، على اعتبار أنّ مرور الإنسان من مرحلة الانضمام إلى مشروع إسلامي حركي ما، يجعله متأثراً بالأدبيات الإيديولوجية للحركة المعنية، ومعلوم تعامل هذه الأدبيات مع قضايا المرأة، الفن، الرياضة، الجمال... إلخ، وبالتالي نترك هذا التيار جانباً، بقدر ما يهمنا التيار الذي يزعم أصحابه أنه يدافعون عن الحداثة والتنوير والعقل وابن رشد والإصلاح الديني، وفي الأخير، تعاملوا مع فعاليات المونديال ومع تفاعلات شعوب المنطقة مع تلك الأجواء، كأنها لم تكن أساساً في الساحة.

وعلى غرار ما عاينا في تناقضات أداء العديد من الإسلاميين مع بعض قضايا الساحة؛ أي التناقضات بين القول والفعل، عاينا الأمر نفسه في تناقضات هذا التيار المحسوب على التنوير في تفاعله مع ذلك الحدث الرياضي، وبالنتيجة، لم ينتبه هؤلاء إلى أنهم مرّوا رغماً عنهم، من امتحان شعبي فطري وإنساني، وهم يعتقدون أنهم غير معنيين قط بالتفاعل والتعليق وإبداء وجهات نظر، مع انتصارهم لخيار التقزيم أو اللامبالاة من تلك الأحداث التي كشفت من جديد عن أحد أسباب فشل خطاب هؤلاء عبر هذا الإصرار غير السوي على التقليل من أهمية هذه المناسبات ودورها في قراءة المزاج العام أو المزاج السائد لدى شعوب المنطقة.

تكفي هنا قراءة دلالات مجموعة من الإشارات البحثية والإعلامية القادمة من خارج المنطقة العربية تفاعلاً مع أحداث المونديال، والتي تؤكد أنّ الموضوع تجاوز اختزال الحدث في الشق الرياضي، ونتوقف عند إشارتين ضمن لائحة عريضة:

ــ جاءت الأولى في تقرير إخباري صدر في صحيفة "الغارديان" البريطانية، مؤرخ في 14 كانون الأول (ديسمبر) 2022، تحت عنوان "افتخار المغرب بالإسلام يجب أن يلهمنا جميعاً، مضيفة أنّ "مشهد أمهات اللاعبين أمام شاشات التلفاز التي شاهدها العالم، "لم يكن جميلاً ومؤثراً وراقياً فحسب، بل كان مهماً لتعريف العالم بثقافات مختلفة مبنية على الحب".

ــ وجاءت الثانية في مضامين "تقدير موقف" صدر عن مركز الأبحاث الأمريكي "المجلس الأطلسي" ["أتلانتيك كاونسيل"]، مؤرخ بدوره في في 14 كانون الأول (ديسمبر) 2022، وجاء فيها أنّ رحلة المنتخب المغربي خلال كأس العالم في قطر، شكلت "أكثر من مجرد إنجاز رياضي"، وأنّ "المشجعين من كافة أنحاء القارة الأفريقية والعالم العربي والإسلامي اصطفوا بشكل تلقائي خلف أسود الأطلس، في تحد لكافة القوى الاستعمارية السابقة: إسبانيا والبرتغال وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا"، كما أنّ "مشجعي الفريق تبنوا شعاراً جديداً يمتح من المبادئ الدينية، مستوحى من العبارة العربية "ثقوا بالله" (ديروا النية)، والتي تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، واستخدمها حتى السفير الجديد للولايات المتحدة في المغرب، بانيت تالوار".

إذا كانت العديد من المنابر البحثية والإعلامية الغربية، الأوروــ أمريكية نموذجاً، قد التقطت عدة إشارات ونشرت عدة قراءات حول الموضوع، فكان من باب أولى أن تكون أقلام التفكر والتنوير والحداثة في مقدمة التقاط تلك الإشارات والاشتغال عليها عِوَض ممارسة التقزيم.

مواضيع ذات صلة:

مونديال قطر: هل يعكس أولويات الإصلاح في المجتمع العربي؟

- كأس العالم: بحث عربي عن إنجاز أوسع من كرة القدم

تنظيما داعش والقاعدة يكرهان كأس العالم... لماذا؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية