المعتقدات الشعبية... تفسير ما ليس في حاجة للتفسير

المعتقدات الشعبية... تفسير ما ليس في حاجة للتفسير


17/05/2021

فيديل سبيتي

كلنا تعلمنا في مرحلة الطفولة أنه يجب أن نقلب "فردة" الحذاء عن الأرض إلى وضعها الصحيح، إذ يجب ألا يكون كعبها موجهاً إلى السماء. وكان ممنوعاً فتح المظلة داخل البيت لأنه فأل سيئ. وتعلمنا أن نرفع كسرة الخبز عن الأرض كي لا ندوسها لأنها نعمة. ويجب ألا يترك المقص مفتوحاً لأن ذلك فأل شر. وإذا حككت يدك اليمنى فستلقي السلام على أحد غير متوقع، وإذا حككت اليد اليسار فستحصل على مال غير متوقع.

النقش في الصغر

هناك أمثلة كثيرة لمثل هذه المعتقدات الشعبية التي تشربناها خلال مرحلة الطفولة وعلقت في أذهاننا حتى كبرنا، فالطفل "صفحة بيضاء" كما يقال، ويمكن ملؤها بما نشاء من أفكار ومعلومات وقصص خيالية ومعتقدات تهدف إلى توجيه الصغار إلى ما هو مقبول من العادات والسلوكيات والقيم الاجتماعية والأخلاقية على السواء.

يقول الكاتب السعودي علي المجنوني في بحثه حول قصص الفتيات العالمية، إنها دارت بمجملها حول الأميرات، وعلى بطلات هن في الأغلب فتيات مطيعات تتربص الشرور والأخطار بهن حالما يحدن عن الطريق المختارة لهن.

قصة "ليلى والذئب" أو "ذات الرداء الأحمر" هي أشهر هذه القصص وجاء في تأويلها النفسي تنبيه الفتيات إلى المتحرشين وأصحاب النوايا السيئة من الذكور الكبار، أو تضمنت تلك الحكايات أفكاراً حول الوصول إلى الهدف المنشود كالزواج من الأمير والعيش في القصور المرفهة بعد فقر وشقاء كما هي الحال في قصة "سندريلا". فهذه القصص تصنع عالماً خيالياً لدى الصغيرات لدفعهن نحو طريق الصواب مستقبلاً في اختيار العريس المناسب والزواج منه وتأدية دور الزوجة كما يجب.

القصص والحكايات التي ترويها الجدات هي جزء من المعتقدات الشعبية الكثيرة التي يتربى عليها الأطفال. وهي في أكثرها تتعلق بأمور حياتية يومية أو تصرفات معينة يجب القيام بها أو النهي عنها بحسب تفسيرها في التفكير الجمعي للمجتمعات المختلفة، وما قد يكون سلبياً في مجتمع ما قد يكون إيجابياً في مجتمع آخر، وقد يتشاءم مجتمع من رقم يتفاءل به مجتمع آخر، مثلاً في المشرق العربي يعتبر رش الماء على شخص مسافر وكسر جرة من الفخار خلفه دلالة على رغبة بعدم عودته، أو دليل على ارتياح لتركه المكان، بينما المعنى معاكس في تركيا وبعض دول الأناضول، إذ يتم كسر الجرة ورش الماء على المسافر طلباً لعودته وكي تتسهل أمامه المعوقات خلال سفره.

وهذا الأمر ينطبق على الأعداد، ففي ثقافات كثيرة يعتبر العدد سبعة (7) مصدراً للتفاؤل والعكس في ثقافات أخرى، فلدى العرب المسلمين عموماً، يعتبر هذا الرقم خيراً، لأن الله خلق العالم في سبعة أيام، وأيام الأسبوع سبعة، وأبواب الهواء سبعة والسيوف سبعة، وأدخل نوح إلى السفينة سبعة أزواج من الحيوانات، ورؤساء الملائكة سبعة، وأعمدة الحكمة سبعة. والطواف حول الكعبة سبعة أشواط، والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط كذلك، وأيضا رمي الجمرات سبع مرات في الحج.

روابط غير مشتركة

ويعرف الباحث في علم الاجتماع عبد الرحمن بن عبد الله الشقير المعتقدات الشعبية بأنها التصورات المجتمعية التي تربط بين متغيرين أو شيئين ليس بينهما أي رابطة علمية أو منطقية.

والرابطة غير العلمية أو المنطقية هي كالاعتقاد أنه إذا تكلم أحد عنك بالخير يرف حاجبك اليمنى، أو إذا تكلم فيك بشر طنت أذنك، وقد تعلم جميع الأطفال على مثل هذه الرابطة غير المنطقية بين أمرين في مرحلة تبديل الأسنان، فيتعلم أن يزرع سنه في التراب، ويقول "أنبت سن غزال ولا تنبت سن حمار" أو في الثقافة الأوروبية حين يضع الأطفال السن تحت المخدة لتأخذه "جنية الأسنان" وتترك بدلاً منه هدية. وحتى عرب الجاهلية كانوا يمارسون هذه العادة بأن يرمي الطفل سنه الساقطة نحو قرص الشمس مردداً، "يا شمس أبدليني سني بسن غزال"، ويقول طرفة بن العبد: "بدلته الشمس من منبته... برداً أبيض مصقول الأشر".

وفي جلسات العائلة كان إذا ضحك الجميع بشكل متواصل، يقال بعض الانتهاء من الضحك، "نجينا من الشر" وكأن الضحك بلا ضوابط يستجلب الشر. وإذا حل الصمت فجأة على سائر الجالسين يقال، "مر عذرائيل (ملَك الموت)" بين الجالسين. وإذا سقط صحن أو كوب وانكسر يقال، "انكسر الشر"، وإذا لم ينكسر يدل إلى فأل سيئ. والعكس، يعتبر وقوع فنجان القهوة فأل خير، بينما تقديم فنجان القهوة ممتلئ عن آخره علامة كره للضيف، وتقديمه ناقصاً علامة عدم ترحيب به، لذا يجب أن يقدم فنجان القهوة عند حدوده الصحيحة.

رصد الظاهرة ومحاولة فهمها

رصد الجاحظ هذه الظاهرة في كتاب "الحيوان"، وانتقدها ضمن كلامه عن خرافات العوام لعدم عقلانيتها، وانتقد العامة لتقبلهم كل تفسير اجتماعي يلامس مشاعرهم بغض النظر عن منطقه. ويشير الباحث عبد الله الشقير في بحثه حوله المعتقدات الشعبية إلى اهتمام أبو حيان التوحيدي بهذه الظواهر، وقد جاء في كتابه "البصائر والذخائر" ما يفيد بأنه احتار في أمر هذه الظواهر ولم يعرف لها أصلاً ولا كنهاً، فكتب، "وهذه نتف ألفتها ها هنا، فبعضها مسموع من العامة، وبعضها مروي عن الخاصة التي تروي عن العامة، وهي تجري مجرى الأمثال المبتذلة. لكن فيها طيب ومع الطيب عبرة، ومع العبرة فائدة. وقد خلت من الأصول الدالة على الفروع، ومن العلل المقتضية للأحكام"، ثم سرد 50 معتقداً شعبياً منها، وبعضها لا يزال معمولاً به بين العوام في الحياة اليومية حتى الآن، ومما ذكره، "إذا طنت أذن أحدهم قال: من ذكرني؟ وأشار إلى بعضها أيضاً في موضع آخر، وعد منها، "يحذف الصبي سنه إذا سقطت، ويقول: أبدليني بها أحسن منها، ويزعمون أنه إذا لم يقل ذلك ستنبت أسنانه عوجاء".

في أوروبا رصد بيار كانافاجيو في كتاب "معجم الخرافات والمعتقدات الشعبية في أوروبا" عدداً من هذه الظواهر بما يدل إلى أنها عادات اجتماعية تتكرر في كل الحضارات، مثل: من يولد يوم الأحد يكون معصوماً من الشرور، ويضع المتثائب يده أمام فمه ليمنع الشيطان من دخول فمه، والتشاؤم من الرقم 13.

الكاتب السعودي علي المجنوني يرى أن أهميتها تنبع من كونها تتضمن ما يمكن وصفه حقائق عالمية وقيماً اجتماعية محلية في الوقت نفسه، كما أنها موجهة في الغالب إلى فئة عمرية مهمة، وهي فئة الأطفال، على الرغم من أن أكثرها لم يكن مقصوداً للأطفال في الأساس كما يقول الباحثون. واستحالت عبر الزمن أعمالاً كلاسيكية تشكل مصدراً ثرياً من مصادر المعرفة، ينقل في جزء منه ماضياً جمعياً نتعرف إليه من خلال الحكمة والتجربة الإنسانية التي تنطوي عليها تلك الحكايات، وليس بمستغرب أن تجد أصول تلك الحكايات طريقها إلى كثير من أدب العالم المعاصر وأفلامه، حتى أن كثيراً مما يكتب وينتج سينمائياً اليوم هو إعادة كتابة لتلك الحكايات المذهلة بشكل أو بآخر، فقد عمد بعض الكتاب والفنانين والمخرجين في زماننا هذا إلى إعادة تصور الحكايات الخرافية من جديد. وهكذا ظهرت الحكايات من جديد في الأجناس الأدبية كافة الممكنة تقريباً، مثل القصة القصيرة والرواية والشعر والكتب المصورة وغيرها.

الخيال الجمعي

وأجريت مئات الدراسات والأبحاث حول المعتقدات الشعبية في كل أنحاء العالم وفي كل الثقافات، وقام كتاب وأدباء وباحثون بجمعها ونشرها في كتب، أو تحليلها والبحث في معانيها وأصولها وتأثيراتها الاجتماعية على المخيال الجمعي للشعوب.

ومهما كانت الإجابة على هذا النوع من المعتقدات، فإنها تبقى حاضرة وموجودة في أكثر ثقافات العالم على الرغم من تأثرها بالتطور والتقدم التقني والعولمة سلباً وإيجاباً، فقد خفت بريق المعتقدات الشعبية في "القرية العالمية" بوجود التلفزيون والسينما والإنترنت التي تقدم للأطفال والكبار خيالاً جاهزاً ومعلباً في الأفلام والمسلسلات، ولكن هذه المعتقدات انتشرت وتمازجت من خلال انفتاح الشعوب على ثقافات بعضها البعض، فتبين أن بعض المعتقدات مشتركة بين الجميع، وبعضها يتناقض بمعناه ونتائجه من ثقافة إلى أخرى.

ولكن يبدو أن البشر لا يمكنهم التخلي عن ربط الأمور ببعضها لإنتاج تفسيرات معينة لظواهر غير مفهومة، وهم الذين أعطوا للبرق وللرعد تفسيرات حسية منذ قديم الزمان، أو لقوس قزح أو للصدى الذي يتردد في الوديان، أو لـ"صيبة العين" والحسد وأنواع الشرور، ودخل ذلك في الخيال الشعبي الجمعي للمجتمعات على حدة، وللثقافة البشرية العامة من جهة ثانية.

عن "اندبندنت عربية"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية