المعجزات في الدين: هل يحتاج الإيمان إلى معجزات إلهية؟

المعجزات في الدين: هل يحتاج الإيمان إلى معجزات إلهية؟


24/02/2022

أخذت المعجزات مكوناً رئيسياً في الدين والإيمان برغم أنّها، كما يقول سبينوزا، ليست جزءاً منه وليست ضرورية لأجل الإيمان أو إثبات النبوة، وتلخص هذه المقالة فكرة سبينوزا التي قدمها في كتابه "رسالة في اللاهوت" عن المعجزات، وقد اعتاد الناس تسمية العمل الذي يجهل العامَّة سبَبَه عملًا إلهيٍّاً؛ أي عمل الله، فالعامة يَظنُّون أنَّ قُدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صُورة مُمكنة إذا حدث في الطبيعة -على ما يبدو- شيء خارق للعادة. وهم يعتقدون أنّ أوضح بُرهان على وجود الله هو الخروج الظاهر على نظام الطبيعة؛ لذلك يبدو في نظرِهم من يُفسِّر الأشياء والمُعجزات بالعِلَل الطبيعية، أو من يبذُل جهده من أجل معرفتها بوضوح قد أسقَطَ العناية الإلهية من الاعتبار والتفكير. ولا تبدو لهم قدرة الله أحقَّ ما تكون بالإعجاب إلَّا إذا تصوَّروا قُدرة الطبيعة وكأنَّها مقهورة على يدِ الله.

اقرأ أيضاً: أتباع الأديان إذ يحوّلون الإيمان إلى عصبيات

ولكن الحال كما يقول سبينوزا أنه لا يحدُث شيء يُناقِض الطبيعة، فالطبيعة تحتفِظ بنظامٍ أزلي لا يتغيَّر، ولا نستطيع أن نعرف بالمُعجزات ماهية الله أو وجوده، ومن ثَمَّ لا نستطيع أن نعرف العناية الإلهية، على حِين أنَّنا نستطيع أن نعرفها كلها بطريقة أفضل بكثير عن طريق قانون الطبيعة الثابت الذي لا يتغيَّر، فالكتاب (التوراة) يعني بأمر الله وبمشيئته، ومِن ثَمَّ بالعناية الإلهية نظام الطبيعة ذاته، بوصفه نتيجةً ضرورية للقوانين الأزلية. 

  التصديق بالمُعجزة يؤدي بنا للشكّ بكلّ شيء والإلحاد لأنّ أوامر الله ووصاياه ليست إلَّا نظام الطبيعة

يترتب على هذه المبادئ التي عرضها سبينوزا (لا شيء يحدُث في الطبيعة إلَّا واتَّبَع قوانينها، وأنَّ هذه القوانين تَسري على كلِّ ما يتصوَّره. وللعقل الإلهي، وللطبيعة نظام ثابت لا يتغيَّر) بوضوحٍ تامٍّ أنَّ لفظ المُعجِزة لا يُمكن أن يُفهَم إلَّا في صِلته بآراء الناس.

يقول سبينوزا: "لقد روت الكتُب المُقدَّسة كثيراً من الوقائع التي يُقال عنها مُعجزات، ويُمكن دون عناءٍ تعيين عِلَّتِها بالمبادئ المعروفة للأشياء الطبيعية. فلا يُمكن معرفة ماهية الله أو وجوده أو عنايته عن طريق المُعجزات، بل إننا، على العكس من ذلك، نستطيع أن نُدرك ذلك كله بطريقة أوضح عن طريق نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغيَّر. ولمَّا كان وجود الله غير معروف بذاته، فمن الواجب استنتاجه من أفكار تبلغ من الرُّسوخ والثبات حداً لا يُمكن معه وجود أو تصوُّر قوَّةٍ قادرة على تغييرها".

اقرأ أيضاً: عن العقل حين يؤمن والإيمان حين يعقل

كلّ ما نعرفه بوضوحٍ وتَميُّز يجِب أن نعرفه إمَّا بذاته وإما بشيء آخَر يُعرَف بذاته بوضوح وتميز؛ لذلك لا نستطيع عن طريق المعجزة، أي عن طريق عمل يتجاوز حدود فَهْمنا، معرفة ماهية الله أو وجوده أو أي شيء آخَر يتعلَّق بالله وبالطبيعة. فالذين يلجأون إلى إرادة الله إذا ما جهلوا شيئاً -وهي طريقة مُزرية للاعتراف بجهلهم - يكشفون عن تفاهة عقولهم وهم راضون.

فحتى لو كنَّا نستطيع أن نستنتِج من المُعجزات شيئاً فإنَّنا لا نستطيع على الإطلاق أن نستنتِج منها وجود الله لأنَّ المُعجزة عمل محدود، لا يدلُّ إلَّا على قوةٍ محدودة، فمن المؤكد إذن أننا لا نستطيع أن نَستنتِج من مِثل هذا المعلول وجود عِلَّة لا حدود لقوَّتِها، بل على أكثر تقدير؛ لأنه يَنتُج عن اجتماع كثيرٍ من العِلَل عملٌ أقلُّ قوة بالفعل من قُوَّة هذه العِلَل مُجتمعة، ولكنه يفوق بكثيرٍ قوَّة كلّ عِلَّة منها على حدة.

اقرأ أيضاً: الثقافة خارج الكتب والبحث عن الإيمان بالله خارج المحراب

إنّ قوانين الطبيعة تَسري على عددٍ لا نهاية له من الموضوعات، ولَمَّا كُنَّا نتصوَّرها على نحوٍ من الأزلية، كانت الطبيعة تسير طبقاً لهذه القوانين في نظامٍ ثابتٍ لا يتغيَّر، فإنَّ هذه القوانين نفسها تكشف، في حدودها الخاصة، عن لانهائية الله وعن أزلِيَّتِه وثَباته. ولا نستطيع بالمُعجزات أن نعرِف الله ووجوده وعنايته، وفي المقابل فإننا نستطيع استِنباطها على نحوٍ أفضلَ بكثيرٍ من نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغيَّر. والحال أنّ التصديق بالمُعجزة يجعلنا نشكُّ في كلِّ شيء ويؤدِّي بنا إلى الإلحاد. ذلك أنّ أوامر الله ووصاياه ليست في الواقع إلَّا نظام الطبيعة.

نستنتج إذن على نحوٍ قاطع (يقول سبينوزا) أنّ كلَّ ما يَرويه الكتاب (التوراة) على أنه حدَث بالفعل، قد حدث بالضرورة طبقاً لقوانين الطبيعة، شأنُهُ شأن كلِّ ما يحدُث، وإذا وجدْنا حادثةً ما نستطيع أن نُوقِنَ بأنّها تُناقِض قوانين الطبيعة أو بأنّها لم تصدُر عنها فيجِب أن نعتقد أنها إضافة إلى الكتب المُقدَّسة أقحَمَها العابثون بالمُقدَّسات؛ ذلك لأنَّ كلَّ ما يُناقِض الطبيعة يُناقِض العقل، وكل ما يُناقِض العقل مُمتنِع ومِن ثَمَّ وجَبَ رفضُه.

اقرأ أيضاً: الإيمان المحرِّر والاعتقاد المغلَق عند عبدالجبار الرفاعي

الكتاب (التوراة)، شأنه شأن الطبيعة، لا يُعطينا تعريفات للأشياء التي يتحدَّث عنها؛ وعلى ذلك فكما يَجِب أن نَستنتِج تعريفات الأشياء الطبيعية من أفعال الطبيعة المُختلفة، كذلك يَجِب استخلاص التعريفات التي لا يُعطيها الكتاب من مُختلف الرِّوايات التي نَجِدها فيه بشأن كلِّ موضوعوإذن فالقاعدة العامَّة التي نَضعُها لتفسير الكتاب هي ألَّا نَنسِبَ إليه أيَّةَ تعاليم سوى تلك التي يُثبِت الفحص التاريخي بوضوحٍ تامٍّ أنه قال بها.

وفي ذلك يعرض سبينوزا قواعد فهم الكتاب في المبادئ التالية:

1-  يَجِب أن تُفهَم طبيعة وخصائص اللغة التي دُوِّنت بها أسفار الكتاب المقدس والتي اعتاد مُؤلِّفوها التحدُّث بها.

2-  يجِب تجميع آياتِ كلِّ سِفر وتصنيفها تحت موضوعات أساسية عدَدُها محدود، حتى نستطيع العثور بسهولةٍ على جميع الآيات المُتعلِّقة بالموضوع نفسه، وبعد ذلك نجمع كل الآيات المُتشابهة والمُجملة، أو التي تُعارض بعضها البعض.

3-  يجِب أولًا وقبلَ كُلِّ شيءٍ في بحثِنا عن معنى الكتاب الحِرص على ألَّا ينشغِل ذِهنُنا باستدلالاتٍ قائمة على مبادئ المعرفة الفطرية (فضلاً عن الأحكام المُسبقة).

لا نستطيع بالمعجزة أي عن طريق عمل يتجاوز حدود فَهْمنا معرفة ماهية الله ووجوده

4-  وحتى لا نخلِط بين التعاليم الأزلية وتعاليم أخرى لا تصلُح إلَّا لزمانٍ مُعين ولمجموعةٍ مُعيَّنة من الناس، فيَجِب أن نعرِف في أيَّةِ مُناسباتٍ وفي أيِّ زمانٍ ولأي أمّةٍ وفي أيِّ عصرٍ كُتبت هذه التعاليم كلها. يجِب أيضاً أن نَعرِف المُلابسات الأخرى المذكورة آنِفاً لكي نعلم إلى أيِّ مدى يُمكننا الاعتماد على سُلطة كلِّ كتاب، ولكي نعلم أيضاً إنْ كانت هناك يَدٌ آثِمة قامت بتحريف النص، أو -في حالة كونه غير مُحرَّف- إن كانت قد تسرَّبَت إليه بعض الأخطاء، أو أنَّ رجالاً أكفاء جديرين بالثقة قد قاموا بتصحيح هذه الأخطاء.  

كيف يُمكن معرفة أفكار الأنبياء من التاريخ النقدي للكتاب؟ علينا أن نبدأ في هذه الحالة بدَورها بأكثر المبادئ شُمولاً، وأن نتساءل أولًا ما النبي؟ وما الوحي؟ وما مضمونه الأساسي؟ وما المُعجِزة؟ وهكذا بادئين بأكثرِ الأشياء شمولاً، ثُمَّ نهبِطُ منها إلى الأفكار الخاصَّة بكلِّ نبي، ونصِل بعد ذلك إلى معنى كلِّ وحيٍ أتى به نبي، وكلِّ رواية وكلِّ مُعجزة.

ولمَّا كان الخلاص الحقيقي والسعادة الرُّوحية يَكمُنان في طمأنينة النفس، وكنَّا لا نجد الطمأنينة الحقيقية إلَّا فيما نعلمه بوضوح تام، فمن الواضح أنَّنا نستطيع أن نُدرِك عن يقين فكر الكتاب فيما يتعلَّق بالأمور الجوهرية للخلاص والضرورية للسّعادة الرُّوحية.

كان موسى بن ميمون يعتقِد أنَّ لكلِّ نَصٍّ من الكتاب معاني كثيرة بل ومعاني مُتعارِضة، وأنَّنا لا نستطيع أن نَعرِف المعنى الحقيقي لأيِّ نصٍّ إلَّا بقدْرِ ما نعرف أنه -كما نُفسِّره نحن -لا يحتوي على شيءٍ يُعارض العقل

ويناقضه. فإذا فُسِّر النصُّ تفسيراً حرفياً وكان مُناقضاً للعقل وجَبَ تفسير النصِّ تفسيراً آخر مهما كان واضحاً.

ولَمَّا كانت السلطة العُليا في تفسير الكتاب ترجِع إلى كلِّ فرد، فلا ينبغي أن تكون هناك أية قاعدة أخرى للتفسير سوى النور الطبيعي المُشترك بين جميع الناس، فلا يُوجد نور يفوق الطبيعة، ولا تُوجَد سُلطة خارجية، فمن الواجب إذن ألَّا يكون هذا المنهج من الصعوبة بحيث لا يُمكن أن يَتَّبِعه إلَّا الفلاسفة ذَوو البصيرة النافذة، بل يَجِب أن يكون في مُتناوَل الذهن العادي المُشترك بين جميع الناس، ومُتناسِباً مع قدرتهم، وقد تَبيَّن لنا بالفعل أنَّ الصعوبات التي نَجِدها فيه ترجِع إلى إهمال الناس لا إلى طبيعة هذا المنهج.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية