بطرس دانيال أب كاثوليكي يوظف الفن في نشر التسامح الديني

بطرس دانيال أب كاثوليكي يوظف الفن في نشر التسامح الديني


09/10/2019

مي حجي

يؤمن الأب بطرس دانيال، رئيس المركز الكاثوليكي للسينما في مصر، بأن الفن يمثل السلاح الأمثل لنشر قيم التسامح الديني ومواجهة التطرف، ويعتبر الموسيقى وسيلة للتطهير يستحيل أن تجتمع مع الغلو والتشدد في نفس واحدة، ويرى في السينما والدراما نافذتين للتربية وغرس القيم ولا يقل دورهما عن مؤسسات تعليمية عديدة. وهو ما كشف تفاصيله الأب بطرس في حواره مع “العرب”.

غيّر الأب بطرس دانيال الصورة الراسخة في الأذهان عن رجال الدين المسيحيين المتفرغين للعبادة والتأمل، ووقف على مسافة واحدة من الكهنوتية والفنون والثقافة بمفاهيمها الواسعة، ليرسخ مقولة إنه لا تعارض بين الدين والفن، فكلاهما يحمل رسالة إنسانية لنشر التسامح ورفض الغلوّ، ليصبح الأمر شبيها برافدي مياه يصبان في النهاية داخل نهر واحد.

يُسخّر الأب دانيال المركز الكاثوليكي للسينما في نشر رسالة لمواجهة معارضي الفنون بحماية أرشيف سينمائي يعتبر الأقدم في منطقة الشرق الأوسط، ويضم عددا من الأفلام الروائية النادرة مثل “في بلاد توت عنخ آمون” الذي تم إنتاجه منذ حوالي مئة عام، ويزيد دوره باستمرار نحو العناية بالنواحي الإنسانية للمبدعين وتكريمهم في المهرجان السنوي للأفلام الذي ينظم منذ نصف قرن.

قال الأب دانيال لـ”العرب”، إن “الموسيقى فن راق لها تأثير مريح للروح، وتسعد من يسمعها وليس من يمارس العزف فقط، ولا يمكن أن تكون حراما وهي تحقق سلاما داخليا ومصالحة مع النفس، وتعتبر اللغة الوحيدة التي يفهمها العالم بأكمله. فالسياسة والمصالح يمكن أن تفرقا الشعوب، لكن الإيقاعات قادرة على جمعهم”.

يرتدي الأب الكاثوليكي دائما الزي التقليدي للرهبان الفرنسيسكان، ويعود إلى القسيس فرنسيس والذي فضل الرهبنة في مصر، ويؤمن بالاتجاهات الجديدة لكنيسته، فإلى جانب الحياة الجماعية داخل الأديرة وعدم امتلاك الأشياء والبتولية (عدم الزواج) والطاعة للرهبان، هناك دور يشمل خدمة العالم والمجتمع عن طريق الأعمال الخيرية من خلال المستشفيات والملاجئ ومساعدة الفقراء، وبذلك هم يختلفون عن غيرهم من الرهبان في مصر.

نشر التحضر

يحمل المركز الكاثوليكي في جملة أهدافه السعي لعودة الأفلام والمسلسلات الهادفة إلى نشر التحضر والأفكار الوسطية، ودعم الفنانين الذين لا يبحثون في أعمالهم عن المنفعة المالية، بل عن رسالة الفن وأهدافه، ووفقا لدانيال “اهتمام المبدع يجب أن يكون بجودة العمل قبل العائد المالي، والكثير من الفنانين الكبار ماتوا فقراء لكن أعمالهم باقية حتى الآن تخلد ذكراهم”.

وأكد أن فريق العمل بالمركز ذاته يعد تكريسا لقيم التعايش بين الأديان، فإدارة الأرشيف ترأسها سيدة مسلمة، والعديد من الإدارات تضم موظفات محجبات.

نقل دانيال أدوار المركز الكاثوليكي للسينما إلى آفاق جديدة بالارتباط بالحياة الخاصة بالفنانين ومؤازرتهم في أثناء المرض وانتشالهم من الوحدة عبر يوم العطاء.

وعند إعلان نقابة الممثلين عن مرور أحد أعضائها بوعكة صحية يقوم وفد من المركز بزيارة إلى المستشفى الذي يأويه في رسالة “عرفان” لفنانين حملت أعمالهم رسائل تتعلق بتعزيز القيم الإنسانية حتى ولو عبر الفكاهة والضحك.

قال الأب دانيال إن انتماء المركز الفني إلى هيئة دينية جعله يضع اشتراطات على نوعية السينما والفن التي يشجعها، وتتعلق بخدمتها لقيم المجتمع، ويشترط ألا يتعرض العمل للدين والسياسة والجنس، أو بمعنى آخر الأعمال التي تدعو إلى القيم الإنسانية والرسائل الأخلاقية وتبتعد عن الإثارة والابتذال.

ويفتخر بأنه يرتبط بعلاقة قوية مع الشيخ أكرم يوسف، إمام مسجد عمر مكرم بوسط القاهرة، الذي جذب أسماعه بصوت تلاوته للقرآن، وصديقه المُقرب كابتن الكاراتيه عصام السقا، لأن الصداقة ليس لها دين وتقوم على المحبة الإنسانية.

حياة مختلفة
الانفتاح الفكري للأب الكاثوليكي، الذي يتحدث خمس لغات أجنبية إلى جانب العربية، هي الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية، ربما يتعلق بارتباطه بكاهن كرواتي يقيم في الإسكندرية كان يتحدث الإيطالية، وله أسلوب مغاير في التعامل والحياة يعتمد دائما على العطاء، وتقويم سلوك الأطفال بمكافأتهم على السلوك الجيد الذي كان سببا في تعلقه بالكهنوت في سن مبكرة.

أوضح الأب دانيال أن انضمامه إلى سلك الكهنوت كان مختلفا عن غيره، ففي عمر 10 سنوات اتخذ القرار، على الرغم من ممانعة الأسرة التي رفضت ذلك لحداثة عمره، خشية أن يعدل عن الأمر بعد وصوله إلى مرحلة البلوغ، ليلحق فعلا بدير “أبودرجا” بالإسكندرية ويبدأ حياة الرهبان الفرنسيسكان التي لم تخل من تعلم الفنون إلى جانب الحياة الدينية الزاهدة.

وأضاف لـ”العرب”، أن جميع الرهبان يدرسون المواد الأدبية، وغالبا ما تكون كلية الآداب بجامعتي القاهرة وعين شمس المفضلة لديهم، لكنه لم يكتف بتخصص واحد، ودرس الإعلام والفلسفة والموسيقى وحصل على درجة الماجستير في الإعلام والدكتوراه في الموسيقى، وعمل محررا اقتصاديا بصحيفة الأهرام الحكومية، وكان حلمه الأول رئاسة جريدة “حامل الرسالة” الصادرة عن الكنيسة.

أرجع الأب دانيال الكثير من اهتماماته إلى الصدفة، فدخوله إلى عالم الموسيقى بدأ مع غياب عازف آلة “الإكسليفون” بطابور الصباح، ودفع مدرس المادة به إلى تعويض غياب زميله، وانتقل بعدها إلى عزف البيانو ودراسة النوتة الموسيقية والحصول على الدكتوراه فيها من المجر.

وجاءت دراسة الإعلام لعدم قدرته على تعلم العلوم التطبيقية وفقا لاشتراطات الكنيسة التي تحصر على الكهنة الدراسة الأدبية، فاستكمل بعدها الماجستير في الإعلام بإيطاليا وخلال استعداده للدكتوراه تم استدعاؤه ليرأس المركز الكاثوليكي بعد وفاة الأب يوسف مظلوم.

وأشار إلى أن الجلوس على كرسي يوسف مظلوم أمر صعب باعتباره كان مبدعا في الأدب العربي وتتلمذ على يد الأديب طه حسين، والأديبة سهير القلماوي وكان أشهر طلاب كلية الآداب ولقبه زملاؤه بـ”أبونا الطالب” لحضوره دروس الماجستير في الأدب العربي بالملابس الكنسية السوداء، وكان مُغرما بالسينما والتصوير الفوتوغرافي ومع ذلك استطاع دانيال تعويض غيابه.

وشدد على أن مواجهة الإرهاب والتطرف لن تنجح بالجوانب الأمنية فقط، فالأفكار والعقائد المغلوطة التي تتمكن من الشباب سبب الأزمة، ما يتطلب استراتيجية واضحة وبرنامجا لنشر الوعي يواكبان العصر بمقتضياته الإلكترونية التي تلعب على انتماءات وولاءات الأجيال الجديدة وتحاول إشعال الفتن الطائفية.

ولفت في حواره مع “العرب”، إلى أن العقلية الشرقية لديها نزعة دينية قوية وتحركها الشائعات ما يستوجب غرس قيم الحب والتسامح منذ سن مبكرة، بداية من الأسرة والمدرسة ورجال الدين من الجانبين، ما يحد من محاولات العبث على أوتار إشعال فتنة طائفية، فالمجتمع المصري وسطي بطبيعته، لكنه يحتاج إلى خطاب ديني على منابر المساجد والكنائس والجلسات المغلقة، هدفه الأول تعزيز الوعي والعلم.

وزارة للتسامح

اقترح الأب دانيال إنشاء وزارة للتسامح في مصر تكرارا لتجربة دولة الإمارات العربية المتحدة التي اتخذت خطوات هامة في نشر التعايش بين أفراد مجتمعها، وحذف بعض المناهج التعليمية التي تحرض على العنصرية والتعصب، وإضافة مادة جديدة خاصة بالفضائل والقيم الجميلة والسامية التي تحملها الأديان على أن يدرسها جميع الطلاب، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، تدعم وتشجع على التقارب في ما بينهم.

يحرص دانيال على عدم التخلي عن عادة إقامة إفطار رمضاني سنويا، يضم قرابة 200 شخص من مختلف أطياف المجتمع، وتوزيع الفوانيس على رواد مستشفيات الأطفال ودور المسنين والمشاركة في الأفراح ومشاطرة الأحزان.

وقام مؤخرا بتنظيم كورال في معهد الأورام بصحبة عدد كبير من الفنانين بعد تعرض هذا الصرح الصحي لحادث إرهابي كبير، والمشاركة في الحملات الإعلانية لتغيير السلوكيات المجتمعية السلبية.

وعقب ثورة 30 يونيو 2013، تعرضت نحو 58 كنيسة ومبنى خدميا في مصر للحرق والتخريب على يد متطرفين، لكن الأب دانيال قال إن “العلاقة بين المسلمين والمسيحيين جيدة رغم وجود بعض الشوائب الصغيرة التي تريد أن تعكر صفوها وتصدر صورة غير حقيقية للمجتمع الدولي”. دافع الأب بطرس دانيال عن الانفتاح لأنه رسالة دينية، فالمسيح بعد أن قضى 30 عاما في اختلاء نشر رسالته علانية من خلال الأمثال التي تشبه القصص، والموسيقى الكلاسيكية بدأت في الأساس من الكنائس والترانيم.

ويقصد الأب الكاثوليكي فترة العصور الوسطى من عام 800 إلى عام 1400 التي كانت فيها الكنائس مهيمنة على الموسيقى الكلاسيكية، وحتى لو كان التأليف وقتها متواضعا لكنها كانت تُكتب للتعبير عن شيء أو فكرة عظيمة ونقل الموضوع أو العاطفة للمستمع وجعله يفكر، ما جعلها ذات مستوى أعمق بكثير من أنواع الموسيقى الأخرى.

وقدم رؤية لعلاج التفكك الاجتماعي منذ دخول التكنولوجيا الحديثة بتغيير سلوك الأفراد ليستغنوا عن الهواتف المحمولة لمدة ساعة يوميا تجلس خلالها الأسرة لتتناقش وتتحاور معا بعيدا عن العالم الافتراضي، وإعادة نقل مشاعر الود المفتقدة بين أفرادها وشبكة الأقارب، باعتباره الحصن الأول ضد معظم المخاطر التي يتضمنها الاستخدام غير المسؤول للتواصل الاجتماعي ومحاولة البعض لتوظيفه في إثارة الحزازات الدينية والطائفية.

وقال إن القدوة تبدأ من المنزل، فالأطفال يغلقون آذانهم عن تلقي النصيحة من الكبار ولكنهم يفتحون عيونهم على القدوة الدينية المتمثلة في رجل الدين، مثل الشيخ والقسيس اللذين يجب أن تتطابق أقوالهما مع أفعالهما حتى لا يفقد الشباب الإيمان بالنماذج التي يحترمونها ويقدرونها .

وأضاف أنه سعيد بكونه الشخصية الوحيدة التي تجمع بين الرهبنة والفن والموسيقى والإعلام والثقافة، ويعزف البيانو في حفلات رأس السنة الميلادية ويحتفظ برسوم خطها بيديه، لأن مواهب الإنسان منحة من الله لنشر الجمال على الأرض، والمبدعون يساهمون في مجالات الصوت والصورة والكلمة، وأعمالهم الراقية تشعر الناس بقيمة الحياة.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية