بيليه.. مفرد بصيغة جمع

بيليه.. مفرد بصيغة جمع

بيليه.. مفرد بصيغة جمع


31/12/2022

فاروق يوسف

رحل البرازيلي بيليه عن عالمنا بعد أن أثث أسطورته بالذهب. بعد أكثر من ألف هدف وثلاث من كؤوس العالم حملها إلى بلاده اعتزل الكرة، غير أن الشهرة لم تعتزله. لم يذهب إلى الذاكرة الرياضية إلا باعتباره جزءا من الحاضر. ذلك لأنه ما من واحد من عباقرة الكرة إلا وحلم في أن يقف إلى جانب بيليه في الصورة التاريخية العابرة للأزمنة.

بيليه أو “ملك الكرة” كان فنانا. بين قدميه تحولت الكرة إلى فن. وكان الأكثر نعومة بين اللاعبين عبر التاريخ بالرغم من أنه كان الأسرع في المضي نحو الهدف. وكان يُرضي خصومه الذين يُهزمون بسبب أهدافه أنهم وقفوا معه على أرض واحدة. نظروا إليه مباشرة. وهو أكثر شهرة من بلاده، كبيرة المساحة كثيرة السكان. لأنه لم يكن الأشهر في بلاده، بل الأشهر في العالم.

قال الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا حين سمع بخبر وفاته “لم يكن هناك رقم 10 في قيمة وقامة بيليه. شكرا بيليه”. يكفي أن تراه مرة واحدة وهو يلعب حتى تقع تحت تأثير سحره. لا يحتاج الإعجاب ببيليه إلى خبرة في كرة القدم أو في الرياضة بشكل عام. الموسيقى التي يتركها إيقاع خطواته المتسارعة على أرض الملعب هي مصدر إلهام بالنسبة إلى الكثيرين. ربما كان الإعجاب به سببا في إخفاق المدافعين في التصدي له أو مجاراته وهو يتركهم وراءه ذاهبا بكرته إلى الهدف مباشرة.

صانع السعادة

وبالرغم من أن البرازيل كلها كانت قد استعدت لإقامة جنازة عظيمة لبطلها القومي غير أن تلك الجنازة لن تكون كئيبة. ذلك لأن رجلا وزع المسرات في بيوت كل البرازيليين لا يستحق أن يُثقل عليه بالأحزان أو يتم إغراقه بدموع لزجة أو يُزعج بالبكاء الذي لن يحتاج إليه. كان رجل الدهشة التي تتبعها ضحكة كبيرة. ولأن البرازيليين شعب راقص، عميق في التعرف على معنى أن يكون الجسد راقصا فإنهم لن يدخروا وسعا في تسلية بيليه وهو يلقي عليهم نظرته الأخيرة.

يوم كان بيليه يجلب السعادة إلى قلوب مواطنيه لم تكن البرازيل سعيدة. كان القهر السياسي المرتبط بأنشطة المخابرات الأميركية في رعاية الشركات المهيمنة على كل جوانب الاقتصاد شرسا في التهام كل أسباب الحياة. غير أن المقاومة بكرة القدم كانت درسا عميقا في استجلاب أسباب أخرى للحياة. هي أسباب متخيلة لا تقع دائما على أرض الواقع. فالهدف الذي يحققه بيليه لا يبقى منه أثر على أرض الواقع. هو مجرد وهم. غير أنه الوهم الذي يصنع الحقيقة. مثله في ذلك مثل الفن الذي يغير الواقع من غير أن يمسه.

لقد غير بيليه معنى الحياة لدى مواطنيه حين وهبهم سعادة كانوا في أمس الحاجة إليها. وهنا بالضبط يكمن سر أسطورته التي كانت تمشي بقدميه وهو حي وستحلق بجناحيه وهو ميت. فرد بصيغة الجمع، والاستعارة هنا من الشاعر العربي الكبير أدونيس. كانت هناك أمة كاملة تركض بخفة على الملعب الأخضر وهي التي تنتصر ولم يكن بيليه إلا رسولها المفوض الذي يبعث من خلال كرته الأمل في نفوس وقلوب وعقول عائلته الكبيرة التي تشعر من خلاله أنها لا تزال على قيد الحياة.

وهب شهرته لبلاده

في عامه السابع والثلاثين اعتزل بيليه اللعب. غير أنه لم يهبط من القمة بالرغم من ظهور لاعبي كرة وجدوا الطريق أمامهم ممهدة للوصول إلى تلك القمة. لكنهم لم يقفوا إلى جانبه. في حياته كان يراقب المشهد الكروي ويعبر بتواضع عن سروره بإنجازات اللاعبين من غير أن تزعجه براعة البعض التي يشعر أنهم من خلالها قد تفوقوا عليه. كان إنسانيا في تفاعله مع التطور الذي طرأ على اللعبة. ولم يكن ينافس أحدا وهو الجالس على القمة التي لم يكن يرغب في أن يظل فيها وحيدا. لذلك لم تكن شهرته قفصا. كان رجلا محبوبا أينما ذهب. ليس في البرازيل وحدها، بل في العالم كله.

بيليه رجل نادر الطراز. لم يُنس بالرغم من أنه كان قد اختفى من الملاعب أكثر من أربعين عاما ولم يكن رجلا يهوى الشهرة ويعمل من أجلها. جاءته الشهرة فوهبها لبلاده. البرازيل اليوم هي عنوان التفوق في كرة القدم في سياق ثقافتها الراقية. ثقافة الحب والفرح والرقص والمسرة التي تصنع تاريخا مناهضا للاستعمار. لن يزعج البرازيليون نجمهم بالأحزان، بل سيرقصون مثلما كان يفعل وهو يعلو بهم إلى السماء.

محطات في حياة الجوهرة السوداء

لندن - كان إعلان نبأ رحيل إديسون أرانتيس دو ناسيمنتو، الذي عرفه العالم باسم ”بيليه“، يتطلب تمهيداً كي لا يشكل صدمة لعشاقه حول العالم، وهو ما فعله مستشفى ساو باولو البرازيلي الذي كان يرقد فيها مصارعاً مرض سرطان القولون، قالوا أولاً إن صحته تدهورت، ثم بالتدريج أخذوا يسربون الأخبار عن تراجع حالته ونقله إلى العناية المركزة، وبعدها أعلن الأطباء أن أجهزة الإنعاش لم تعد تعمل على تحسين وضعه الصحي، إلى أن جاء يوم  التاسع والعشرين من ديسمبر الجاري، ليكون موعد مغادرة ”الجوهرة السوداء“ لعالمنا.

في أحياء الفقر والبؤس، ولد بيليه عام 1940 يمدينة ميناس غيرايس بالبرازيل، وكان والده جواو راموس الملقب بـ”دوندينو” لاعب كرة قدم أيضاً، وعاش ظروفاً قاسية، حتى أن أول كرة قدم لعب بها كانت مصنوعة من الجوارب، أو من ورق الصحف المحزوم بالخيوط، وأحياناً كانت ثمرة “غريب فروت“ كبيرة، قبل أن ينضم إلى فريق باورو الرياضي، حيث بدأ بلفت الأنظار من حوله.

معلّمه الأول كان لاعب المنتخب البرازيلي ديمار دي بريتو، الذي نصحه بالانتساب إلى نادي سانتوس، وهو ما حصل، فالتحق بالنادي المذكور بداية من صيف العام 1956.

كان بيليه أصغر اللاعبين الذين حققوا إنجازات مبهرة في فترة قياسية، فقد تحوّل إلى هداف الموسم في سنته الأولى، وضمه المنتخب البرازيلي إلى صفوفه وهو ما يزال في سن 17 عاماً فقط. لكنّ مدرب المنتخب آنذاك وضعه على دكة الاحتياط، في نهائيات كأس العالم 1958 التي نظّمت في السويد، فلم يشارك في أول مباراتين ضد النمسا وإنجلترا.

وأتيحت له الفرصة في المباراة الثالثة أمام الاتحاد السوفييتي، فسجّل هدفاً، مواصلاً تحقيق الأهداف في الأدوار التالية، أمام منتخب ويلز، ثم سجّل ثلاثة أهداف أمام منتخب فرنسا في نصف النهائي، وهدفين أمام السويد في المباراة النهائية، وتمكّن من رفع كأس العالم لأول مرة في حياته.

كنز وطني

إنجازه ذاك دفع البرازيليين إلى تصنيف بيليه من قبل الحكومة ككنز وطني. وتم منعه رسمياً من اللعب خارج البلاد. وفي المونديال التالي في تشيلي أحرز كأس العالم مجدداً، مع أنه لم يخض سوى مباراتين فقط. في المونديال الثالث له، خيب بيليه آمال عشاقه، ولم يتمكن من إنجاز شيء في إنجلترا كما فعل في السويد وتشيلي، فقرّر اعتزال اللعب الدولي، مكتفياً بلقبه الذي لم يشاركه فيه أحد ”الجوهرة السوداء“.

كان في العشرينات من عمره آنذاك، وكان إيمان البرازيليين به لا يزال متوقّداً، فأجبروه على العدول عن قراره بالاعتزال، فعاد للمشاركة في مونديال المكسيك عام 1970. فسجّل بيليه 4 أهداف، وقدم لزملائه 6 تمريرات حاسمة وحصلت البرازيل على كأس العالم بفضله مرة ثالثة.

بيليه يعدّ اللاعب الوحيد على مستوى العالم المتوّج بالبطولة 3 مرات، وهو أصغر لاعب يسجل ثلاثة أهداف ”هاتريك“ في كأس العالم بعمر 17 عاماً، وأصغر لاعب يسجل في النهائي. لعب 14 مباراة في كأس العالم، وسجَّل خلالها 12 هدفاً، إضافة إلى 8 تمريرات حاسمة. وعلى المستوى الدولي لعب بيليه 92 مباراة، سجل فيها 77 هدفاً.

لم يكن بوسع أحد تحقيق أكثر من ذلك، وصل بيليه إلى ذروة إنجازاته، فقرّر اعتزال اللعب الدولي مجدداً في العام 1971. بعد أن لعب مع سانتوس منذ العام 1956 حتى صيف عام 1975، وجلب للنادي بطولة الدوري البرازيلي 6 مرات، وكأس ليبارتادوريس مرتين، وكأس الإنتركونتيننتال مرتين. وأخيراً، وبعد كل تلك المسيرة، تم الإفراج عن بيليه والسماح له بالاحتراف في الخارج، فرحل إلى الولايات المتحدة، ولعب لفريق نيويورك

كزموس. فغيّر لعبة كرة القدم في تلك البلاد، وارتفعت مبيعات التذاكر، وبدأ الأميركيون يذهبون إلى المدرجات بأعداد كبيرة بعد أن كانت هذه اللعبة لا تحظى بشعبية كبيرة بينهم. ووصل تأثير بيليه إلى البيت الأبيض ذاته، حين صار من مشجعيه الرئيسان الأميركيان ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر. وحين جاء وقت الاعتزال، تشارك نادياه المفضلان سانتوس ونيويورك كوزموس في مباراة استعراضية تكريماً لبيليه.

حتى ذلك التاريخ كانت البرازيل ترى في بيليه ثروتها الكبرى، فكلّفته بحقيبة الرياضة كوزير، ثم عينته اليونيسف سفيراً للنوايا الحسنة، وكانت حملاته تتركز على مكافحة الفقر والفساد وحماية البيئة.

حياة مثيرة

أحرز بيليه 1279 هدفا في 1363 مباراة، وهو رقم غير مسبوق سُجل في موسوعة غينيس للأرقام القياسية. وفي حياته الخاصة لم يكن يقلّ مغامرة وإثارة عن حياته فوق عشب الملاعب الخضراء. تزوج بيليه ثلاث مرات، وأنجب سبعة ما بين الذكور والإناث، وتم استهداف واحد من أبنائه وإيداعه السجن بتهمة غسل الأموال، التي رفضها بيليه واعتبرها ملفقة ولا دليل عليها، وزار ابنه إدينو في السجن عدة مرات.

واجه العنصرية حين ارتبط بعارضة الأزياء ومقدمة البرامج التلفزيونية البرازيلية ماريا دا غراسا منغل، التي عرفت آنذاك بلقب ”شوشا“، علاقته بها أثارت الكثير من الجدل بسبب كون شوشا بيضاء وهو أسمر البشرة. ولفارق العمر الكبير بين الاثنين. بقي بيليه تحت الأضواء في كل لحظة من لحظات حياته، حين تزوج ثانية عالمة النفس والمغنية أسيريا ليموس سايشوس، ثم حين تزوج  مجدداً من اليابانية مارسيا أوكي، وهو في عمر 75 عاما.

كان حياته أشبه بحياة نجوم السينما، ولعل بيليه هو من رسّخ النموذج الذي سوف يتعامل به العالم مع نجوم كرة القدم لاحقاً، حتى يومنا هذا. أبناء من خارج الزواج ومطالبات بتحليل ”دي أن أيه“ واعترافات ببنوّة، وكلها قصص لم يكن عشاق كرة القدم يعرفون عنها شيئاً قبل بيليه حين يتعاملون مع نجومهم. وكان من الطبيعي أن يقوده هذا التألق إلى عالم السينما، فمثّل في هوليوود في فيلم ”الهروب إلى النصر“ إلى جانب مايكل كاين وسيلفستر ستالون، والفيلم يتحدث عن فريق كرة قدم من سجناء الحلفاء الذين خرجوا من ألمانيا النازية.

لم يكتف بيليه بذلك كله، فقرّر التوجه نحو عالم الموسيقى، فأصدر ألبومات خاصة به، وعزف على الغيتار ومن أشهر أغانيه كانت أغنية “استمع إلى الرجل العجوز“. في عالم السياسة لم يكن بيليه أقل ضجيجاً من نسخته في بقية المجالات، فقد أثيرت ملفات عديدة حول حقوق البث التلفزيوني لكأس العالم 1994 وارتبطت بشركة البث الخاصة به. ووقع في صراعات مع رئيس الفيفا جواو هافيلانج واتهمه بالفساد. فتم طرده من قاعة حفل القرعة الخاص بمونديال أميركا.

لم يكن بيليه يسعى إلى المشاكل، لكنها كانت تحيط به وبتحركاته، فحتى حين قرّر الظهور في الإعلانات التجارية، انتقده جمهوره واعتبروا أنه يسيء إلى ما أسموها بـ ”مسيرته الكروية المبجلة“، خاصة حين ظهر في إعلان لشركة فايزر مخصص لمنتجات الفياغرا، أو حين أعلن لصالح مطاعم “سابوي” ومشروبات “كوكاكولا” ولعبة ”الأتاري“ التي انتشرت حول العالم، مقابل 14 مليون دولار.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية