تجربة الإمارات مع "الإخوان المسلمين".. معالمها وتحولاتها (1)

تجربة الإمارات مع "الإخوان المسلمين".. معالمها وتحولاتها (1)


11/01/2022

في العقدين الماضيين وحتى الآن، غالباً ما وصِفت الإمارات العربية المتحدة بأنّها رأس حربة في مواجهة حركات الإسلام السياسي، وخصوصاً جماعة/ جماعات الإخوان المسلمين، في أرجاء الإقليم. صعدت هذه الجماعات سياسياً في شكل واضح في فترة "الربيع العربي" منذ أواخر 2010 وبداية 2011 وما بعدها، لكنها اليوم في انحسار، وفقدت مركزية القيادة بسبب ما تعرضت له في معقلها وثقلها الأساسي بمصر، كما أنّ أداءها السياسي والإجراءات التي اتخذتها العديد من الدول العربية والأوروبية أسهمت في تراجع الجماعة وانحسار نفوذها بشكل غير مسبوق على المستوى الدولي.

إقرأ أيضاً: أين حلّت الإمارات في أصول صناديق الثروة السيادية إقليمياً وعالمياً؟

 تعتبر الإمارات جماعات الإسلام السياسي والجهادي تهديداً وخطراً على الدولة الوطنية، وهي وضعت قائمة بهذه المجموعات وصنّفتها إرهابية قبل نحو ثماني سنوات، وكانت القائمة الإماراتية بالحركات الإرهابية والمحظورة هي الأطول بعد قائمة الإرهاب الأمريكية. وعلى غير ما هو شائع، من أنّ المواجهة الإماراتية القاسية مع جماعة الإخوان المسلمين وفروعها ابتدأت مع أحداث "الربيع العربي"، فإنّ الحقائق تدل على أنّ بدايات هذه المواجهة بدأت قبل ذلك بسنوات، وبشكل واضح في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وزادت مع بدايات الألفية الحالية، إلى أن أعلنت الإمارات جماعة الإخوان المسلمين حركة إرهابية في 2014.

تعتبر الإمارات جماعات الإسلام السياسي والجهادي تهديداً وخطراً على الدولة الوطنية، وهي وضعت قائمة بهذه المجموعات وصنفتها إرهابية قبل نحو ثماني سنوات

وما هو غير شائع أيضاً أنّ هذه المواجهة مرّت بتحولات، وأعقبت مرحلة من العلاقة الجيدة بين الدولة الإماراتية وحركة الإصلاح وجمعيتها-الفرع المحلي لجماعة الإخوان المسلمين. هذا يعني، كما سيظهر تالياً في هذه الورقة التحليلية، أنّ الجماعة أخذت "فرصة ذهبية" في الإمارات لسنوات طويلة، وأنّ الصدام معها جاء بعد رفضها تسوية أوضاعها، وخاصة مسألة البيعة للمرشد العام للجماعة، ونشرها أفكار التنظيم في المؤسسات التعليمية والعسكرية.

تدهورت العلاقات بين الجماعة وقيادة الإمارات في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. ووصف باحث إماراتي، في مقال في "فورين بوليسي" نظام التعليم والقضاء الإماراتي الذي كان يهيمن عليه "الإخوان" آنذاك بـ "دولة داخل الدولة"، حيث سيطر الإخوان المسلمون على مجالس الطلاب وجمعيات المحامين والمعلمين وإدارة المناهج وكانوا متغلغلين في القطاع العام والخاص، واستخدموا ذلك للوقوف بوجه جهود التحديث والتنمية التي انطلقت بقوة في الإمارات في تلك الحقبة؛ بفعل الفورة النفطية ونهوض الاقتصاد وانتشار التعليم والانفتاح على عشرات الجنسيات والخيارات وصعود نموذج دبي. وتحاول هذه الورقة التحليلية الإضاءة على كيفية تزامن نهضة الإمارات على المستويات التنموية كافة مع مواجهة هذه الدولة الخليجية لتشدد "الإخوان" في قضايا عديدة.

بذلت الإمارات محاولات حثيثة مع جماعة الإخوان لديها لنبذ الولاءات الخارجية والانحياز للخيارات الوطنية لكن الجماعة لم تستجب لذلك

وتقول الإمارات إنها بذلت محاولات حثيثة مع جماعة الإخوان لديها لنبذ الولاءات الخارجية والانحياز للخيارات الوطنية، لكن الجماعة لم تستجب لذلك. ويشير مسؤول إماراتي إلى أنّ خطاب جمعية الإصلاح-الإخوان في الإمارات "يتجاهل في سرده محاولات عديدة بذلت لنبذ الحزبية والولاءات المزدوجة لمصلحة الوطن"، لافتاً إلى أن خطاب الإصلاح-الإخوان "لا يخلو من لغة وعظية وخطاب متعال أصبح سمة لمن يعتقد أنه احتكر الدين والفضيلة، ونحن نعلم أنه حزب سياسي أهدافه دنيوية".

ولدى تقييمها لأداء جماعات الإخوان في المنطقة العربية، ترى الحكومة الإماراتية أنّ تجاربهم في البلدان العربية قوّضت دورهم كمعارضة تسعى إلى الإصلاح والتطوير. وفي تقديرها العام، أنّ دور هذا التنظيم "اتصف في كل مشهد سياسي بالإقصاء والاستئثار والتعالي والحسابات الخاطئة، (ومثّلت تجاربهم في) مصر وسوريا وليبيا واليمن نماذج للحزب الانتهازي".

إقرأ أيضاً: بأيّ أجندة تستعد الإمارات لمقعدها غير الدائم في مجلس الأمن؟

وتحاول هذه الورقة التحليلية، التي تُنشَر على ثلاث حلقات، هنا الأولى منها، أن تجيب عن أسئلة عديدة منها: ما هي الفرص الذهبية التي أخذتها جماعة الإخوان في الإمارات وكيف تعاطت معها؟ وكيف جاءت استجابة جماعة الإخوان في الإمارات للتجربة التنموية الصاعدة في هذا البلد؟ وهل ثمة أزمة هوية تتكرس مع الخطاب الإخواني؟ وما المراحل التي مرّت بها تجربة الإمارات مع جماعة الإخوان من الاحتضان إلى تصنيفها كحركة إرهابية واعتبارها تهديداً وخطراً محلياً وإقليمياً؟

الاستجابة السلبية للنهضة التنموية

حققت التجربة التنموية لدولة الإمارات العربية المتحدة نجاحات أساسية مكنّها من أن تكون ثاني أكبر اقتصاد عربي وثالث أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط. وثمة تقديرٌ يذهب إلى القول إنّ عنصراً أساسياً في نجاح هذه التجربة ونضجها وتطورها المتسارع قد يكمن في نجاح الإمارات، في فترة مبكرة من عمر الدولة الشابة، من الإفلات من قيود التيارات الإسلاموية التي تعارض التحديث والانفتاح، أو تتخذ مواقف ملتبسة من الإقبال على المستقبل وتَمثُّل التجارب المتقدمة في بناء الدولة الوطنية وتمدن المجتمعات. ولنا أن نتفهّم هذا الاستنتاج حين نراجع ونرصد تجارب المملكة العربية السعودية ودولة الكويت، في العقود الأربعة الماضية، في مجال التحديث والتنمية والتطوير الاقتصادي، وكيف أنّ أزمة النظام البيروقراطي، وتقليديته وضعف مرونته، إلى جانب أنماط التدين المغلقة والمتشددة، بتأثير من التيار الصحوي والجهادي في البلدين منذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت أسباباً رئيسية في عرقلة كثير من مشاريع التطوير والتحديث، التي بدأ بها البَلدان، وعلى الأخص الكويت في الحقيقة، قبل سنوات من انطلاق مسيرة التحديث والتنمية في دولة الإمارات. وقد تنبهت السعودية في السنوات الأخيرة لذلك ضمن "رؤية 2030"، وبدأت في تبنّي سياسات انفتاح اجتماعي وإصلاحات متعددة غيّرت كثيراً من صورة المملكة، التي أصبح اقتصاد الترفيه والسياحة الداخلية جزءاً من تخطيطها لمرحلة ما بعد النفط وتنويع مصادر دخلها.

عنصر أساسي في نجاح تجربة الإمارات ونضجها وتطورها المتسارع قد يكمن في نجاح الدولة، في فترة مبكرة من عمرها، من الإفلات من قيود التيارات الإسلاموية التي تعارض التحديث والانفتاح

لم تكن علاقة الإمارات بجماعة الإخوان المحلية لديها علاقة تصادم في المراحل الأولى، بل على العكس. لقد قدّمت دولة الإمارات فرصة ذهبية لجماعة "الإخوان المسلمين"-(جمعية الإصلاح) كي تُسهم في بناء الدولة الناشئة وتحديثها، وذلك منذ قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة في العام 1971. لقد أتاحت الإمارات، مثلاً، للقيادي الإخواني سعيد عبد الله سلمان، في التشكيل الحكومي الأول، أن يكون وزيراً للإسكان، وأتاحت للقيادي الإخواني محمد عبد الرحمن البكر أن يكون وزيراً للعدل والشؤون الإسلامية والأوقاف في التشكيل الوزاري الثاني، وفي التشكيل الوزاري الثالث (تموز/ يوليو 1979) أصبح سعيد سلمان وزيراً للتربية والتعليم في دولة الإمارات. ومِثل غالبية مشاركات "الإخوان المسلمين" في الحكم في الدول العربية، ركّز وزراء "الإخوان" في الإمارات آنذاك على "الأسلمة" ومنع وتحريم الاختلاط والفصل بين الجنسين في الجامعات، ووقفت "جمعية الإصلاح" ضد الزي الوطني الموحد في المدارس الإماراتية (حيث وصفته مجلة "الإصلاح" في عددها رقم 130 بالزي الإفرنجي) وضد تعليم اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية. وخاضت الجمعية والوزراء المنتمون إليها حملة شعواء ضد حصص الموسيقى في المدارس الإماراتية، وعقَدَ "الإخوان المسلمون" سلسلةً من المحاضرات حول التغريب والغزو الفكري، وجعلوا ذلك مِظلة لجمع التبرعات لـ"المجاهدين الأفغان"، في ظل سياقات إقليمية ودولية مواتية. ومع تعيين الحكومة الإماراتية لأحمد حميد الطاير وزيراً للتربية والتعليم بالوكالة، اعتبره "الإخوان" خصماً لهم، فصدرت تعليمات "جمعية الإصلاح" بشنّ حملة عليه، وصلت إلى إطلاق تصريحات من قبل منتسبين للجماعة في الإمارات الشمالية بتكفير الطاير، بسبب إجراءات أصدرها لوقف تسييس سلك التعليم على يد "جمعية الإصلاح" والموظفين في المؤسسات الحكومية المنتمين إليها.

إقرأ أيضاً: الإمارات 2021: إنجازات اقتصادية بشهادة منظمات دولية

ومع نهاية الثمانينيات والسنوات الأولى من التسعينيات من القرن الماضي، ذهبت مجلة "الإصلاح" التي كانت تصدرها جماعة "الإخوان" في الإمارات بالتركيز في كثير من تقاريرها ومقالاتها وتعليقاتها على التحذير من مخاطر السياحة في دولة الإمارات، ومخاطر استقدام الأجانب وتأثيرهم السلبي، وفق المجلة، على الهوية الوطنية والثقافة الإماراتية، ووصل الأمر ذروته بتشكيك المجلة في إسلام بعض مسؤولي الحكومة.

رشيد الخيون: لولا الفطنة الإماراتية لتغلّب الإسلام السياسي على أبوظبي، وأوقف كل تمدنٍ، ولحال دون استقدام الخبراء والعلماء والعاملين، فالمعاملة ستكون على أساس التديّن، والانتماء إلى الإخوان

لقد عكست هذه المواقف وغيرها تغلغل منهج "أسلمة المجتمع" في الوعي الإخواني، واقتناع "الإخوان" بأنهم الأحق في الحكم والوصول إلى السلطة والقرار، وأنهم أحرص على الإسلام من غيرهم، وأنهم مسلمون من طراز رفيع، ومن يخالفهم يخالف الحقيقة الدينية.

وعلى ما تدل الوقائع والمعطيات، يبدو أنّ مؤسسات صناعة القرار في الإمارات تفطنت، في إطار السجال مع الفكر الإخواني المتشدد، إلى أهمية السعي إلى التصالح بين الدنيا والدين، أو بين العقل والدين، وأنّ هذا التصالح هو الكفيل بالتمدن وحماية الدين في الوقت نفسه، كما يقول الباحث العراقي رشيد الخيون، الذي يرى أنه لولا تلك الفطنة الإماراتية "لتغلّب الإسلام السياسي على أبوظبي، وأوقف كل تمدنٍ، وأحبط الخروج من الكثبان الرملية، ولحال دون استقدام الخبراء والعلماء والعاملين، فالمعاملة ستكون على أساس التديّن، والانتماء إلى الإخوان المسلمين"، وفق تعبيره.

وفي تحليل نشره "جيوبوليتكال فيوتشرز" فإن جماعة الإخوان إنما عارضت التحديث بشدّة لأنها تساويه بما تسميه "الانحطاط الغربي".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية