تركيا وليبيا... والأوهام

تركيا وليبيا... والأوهام


16/06/2021

خيرالله خيرالله

من دون استئذان، يذهب وفد تركي كبير رفيع المستوى الى ليبيا ويبحث في شؤونها الداخلية وتصدر عن أحد أعضائه تصريحات أقل ما يمكن أن توصف به أنّها تتسم بمقدار كبير من التجاوز لكلّ الأعراف السياسية والدبلوماسية. الرسالة التركية واضحة وموجّهة الى الرئيس جو بايدن. فحوى الرسالة أن ليبيا ورقة تركيّة، مثلما أن لبنان ورقة إيرانية. لذلك جاءت زيارة الوفد التركي عشيّة اللقاء بين بايدن والرئيس رجب طيب أردوغان في بروكسيل على هامش قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو).  

صار شائعاً هذه الأيّام الاستخفاف التركي والإيراني بعدد لا بأس به من البلدان العربيّة. الأكيد أن لبنان من ضمن هذه البلدان، إذ يستطيع أي مسؤول مدني أو عسكري إيراني المجيء إليه من دون علم السلطات اللبنانية في ظلّ "العهد القوي" وحتّى في مرحلة ما قبل انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة. على سبيل المثال وليس الحصر، كان قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني في بيروت قبل توجهه الى دمشق ومنها الى بغداد حيث اغتاله الأميركيون في الثالث من كانون الثاني (يناير) 2020. الأكيد أن السلطات اللبنانية لم تدرِ بوجود قاسم سليماني في أراضيها. ليس لبنان، منذ سنوات طويلة، سوى منطقة نفوذ إيرانية. هذا ما يفسّر الى حدّ كبير العزلة العربيّة للبنان، وهي عزلة كلّفته وستكلّفه الكثير.  

ضم الوفد التركي الذي زار طرابلس وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ووزيري الدفاع خلوصي أكار والداخلية سليمان صويلو ورئيس هيئة الأركان العامة يشار غولر، ورئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، ورئيس دائرة الاتصال في رئاسة الجمهورية فخر الدين ألطون. حرص الوفد على تأكيد أن تركيا طرف في الخلافات الداخلية الليبية ولن تسمح باستبعادها من أيّ تسوية بين الليبيين. يدلّ الى ذلك أنّها ما زالت على موقفها من الضابط الليبي خليفة حفتر الذي سعى في العام 2019 الى دخول طرابلس على رأس قواته قبل أن تتصدى له قوات ليبية أخرى بدعم تركي مكشوف. شمل الدعم التركي لمعارضي حفتر الاستعانة بمرتزقة سوريين جيء بهم من طريق مطار إسطنبول... 

ترفض تركيا قبول مصالحة في ليبيا. ترفض قيام دولة ليبية تخرج كلّ القوات الأجنبيّة من أراضيها. لا يزال رهانها على نبش القبور واستخدام الماضي القريب لتعميق الهوة بين الليبيين. لم يجد وزير الدفاع التركي ما تشدّد عليه طرابلس سوى "ضرورة عدم نسيان المقابر الجماعية لميليشيا حفتر والمئات من الأشخاص الذين فقدوا أرواحهم أو أطرافهم جراء المتفجرات في ليبيا". قال أيضاً: "يجب على العالم ألاّ ينسى هذه الأفعال، ويجب أن يتذكر الجميع الأذى والمعاناة التي تسبب بها الانقلابي حفتر". هل لدى تركيا ورقة ليبية تبيعها لإدارة بايدن في سياق إظهار أهمّيتها في حلف شمال الأطلسي؟ هذا ما ستظهره الأيّام المقبلة في أعقاب لقاء الرئيسين الأميركي والتركي اللذين ناقشا الوضعين الليبي والسوري. سيتبيّن هل بايدن مستعد لشراء البضاعة الأردوغانية وما اذا كانت تركيا قادرة على إعادة تأهيل نفسها اطلسياً؟.

تستخدم تركيا أسلوباً قديماً في التعاطي مع حلف الأطلسي من جهة ومحاولة إصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى. تكمن المشكلة في أنّ أردوغان نفسه لا يعرف ماذا يريد باستثناء استعادة أمجاد الدولة العثمانية وكأنّ شيئاً لم يحدث في المنطقة منذ انهيار هذه الدولة وقيام الجمهوريّة التركيّة في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1923.

تمتلك تركيا في عهد رجب طيب أردوغان مشروعاً توسّعيّاً أبعدها عن حلف شمال الأطلسي الذي كانت ركناً أساسيّاً من أركانه طوال الحرب الباردة. انكشف اردوغان أخيراً، خصوصاً في ضوء تراجع الاقتصاد التركي من جهة والعلاقة السيئة بجو بايدن شخصيّاً.

سيجد الرئيس التركي متأخراً أن كلّ المناورات التي قام بها في السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك شراء نظام صواريخ مضاد للطائرات من روسيا (أس- 400) لن تفيده في شيء. لا يفيده سوى التصرّف كدولة طبيعية في المنطقة، بعيداً من السلوك الإيراني القائم على الابتزاز وانشاء الميليشيات المذهبيّة في هذه الدولة العربية أو تلك لتدمير مؤسساتها لا أكثر.

لن تفيد الورقة الليبية تركيا في شيء، حتّى لو استقبل كبار المسؤولين في طرابلس الوفد التركي واحتفوا به. لا يمكن القيام بالشيء وعكسه في الوقت ذاته. أي لا يمكن لتركيا السعي الى تقارب مع مصر واتباع سياسة هجومية في ليبيا في الوقت ذاته. لا يمكن الادعاء أن لتركيا دوراً مهمّاً في الحلف الأطلسي واتباع سياسة عدائية تجاه دول مسالمة مثل اليونان وقبرص. لا يمكن الرهان على الخلافات الأوروبية - الأوروبية من نوع الخلافات بين فرنسا وإيطاليا في شأن ليبيا. لا بدّ لهذه الخلافات، التي ليست سوى منافسة على مصالح في ليبيا، من أن تنتهي يوماً. ستنتهي على حساب تركيا طبعاً.

هل تركيا دولة طبيعية تسعى الى تطوير نفسها تعرف حدودها أم لا؟ هذا هو السؤال الذي يفترض بأردوغان طرحه على نفسه، خصوصاً أنّ أوهام استعادة أمجاد الدولة العثمانية، التي كانت بالفعل إمبراطورية، تبقى أوهاماً... بل حالة مرضيّة في أحسن الأحوال.

الأكيد في كلّ ذلك أن تقديم الرئيس التركي أوراق اعتماد الى الرئيس الأميركي، من بينها الورقة الليبية، لن يفيد في شيء بمقدار ما يفيد أردوغان التواضع وإدراك الحجم الحقيقي للاقتصاد التركي الذي لا يسمح بأدوار سياسية أكبر تصل الى ليبيا...

عن "النهار" العربي


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية