ترند "مر أعرابي".. السخرية الاجتماعية تدخل معركة التراث

مر أعرابي

ترند "مر أعرابي".. السخرية الاجتماعية تدخل معركة التراث


28/02/2019

في الأعوام الأخيرة؛ عادت رحى معركة قديمة للدوران بين الداعين إلى نقد التراث، إن لم يكن هدمه، وبين أولئك المحافظين الذين يرفضون المساس به أو الاقتراب منه.
وبدا المحافظون المتمرسون في الحصون المنيعة، هم الأثبت قدماً، حتى إن علت موجات التنويريين في كتاباتهم وخطاباتهم الإعلامية، وكأنّها معركة قديمة جديدة كتب فيه النصر دوماً في منطقتنا لرجال الدين.

اقرأ أيضاً: كيف قرأ زكي نجيب محمود التراث وما أبرز التحولات الفكرية لديه؟
لكن مع انتشار أدوات ثورة المعلومات، أخذ هذا السجال صوراً جديدة فرضه إيقاع السوشيال ميديا ووسائل التواصل الجديدة، كما تمثل في السخرية الاجتماعية التي تكاد أحياناً تحقق ما عجزت عنه أجيال من المفكرين والباحثين الأكاديميين.
الترند العميق
إرهاصة هذا الحراك بدأت في معركة "مر أعرابي"، التي استحوذت على "الترند" في مواقع السوشيال ميديا، واختلطت فيها السخرية بالجدية؛ إذ لم يفهم كثيرون، في البداية، ما هي حكاية الأعرابي الذي يسخر منه كثيرون، وهل هو نقد موجّه للروايات التي ذكر فيها هذا الأعرابي المجهول مئات المرات، دون أن يعرف أحد كيف ولماذا مرّ أو جاء، ولماذا انصرف بعد الواقعة إلى عالمه المجهول.

السخرية الاجتماعية تكاد أحياناً تحقق ما عجزت عنه أجيال من المفكرين والباحثين الأكاديميين

مئات "الكوميكسات" أسقطت هذا الأعرابي الغامض في صورها؛ فمرة يوظف توظيفاً سياسياً، وثانية تاريخياً، وثالثة رياضياً، ورابعة اجتماعياً، ومرات أخرى بدون هدف سوى إثارة الضحك والبهجة.
لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف اجتذب مشهد هذا الأعرابي المتكرر نظر رواد السوشيال ميديا الآن، ولماذا أعطوه كل هذا الاهتمام؟

اقرأ أيضاً: كيف ينظر الأمريكيون للتراث الإسلامي في بلدهم؟
بعض الباحثين المنشغلين بقضايا الفكر والسياسة لفت انتباههم "ترند الأعرابي" لكنهم لم ينظروا له باعتباره عشوائياً أو مصادفة، بل وراءه هندسة اجتماعية.
فأنس القصاص، وهو باحث في العلاقات الدولية، كتب على صفحته في فيسبوك، تعليقاً على هذا الترند قائلاً: "يشغلني "ترند" الأعرابي، فظهور الترندات على الإعلام الاجتماعي لا يكون بالصدفة، إنّه عمل هندسي اجتماعي من العيار الثقيل، وعادة فهو اختبارات لمؤشرات معينة"، ووصل إعجاب القصاص بمهندس الترند، حد وصفه بـ"المبتكر الذي يستحق جائزة الأوسكار".
محاكمة الروايات التاريخية
أما محمد عطبوش، وهو كاتب يمني، فكتب على صفحته في فيسبوك قائلاً: "ببحث بسيط باستخدام أيّ برنامج حاسوبي في كتب التراث، يظهر العدد المهول لاستخدام كلمة "الأعرابي"، قبل الاسترسال في سرد القصة، أكثر من 100 مرة في مسند أحمد وحده، وأكثر من 30 مرة في صحيح البخاري".

ترند "مر أعرابي" استحوذ على مواقع السوشيال ميديا واختلطت فيها السخرية بالجدية

والأعرابي في هذا النوع من السرديات، وفق عطبوش، هو دائماً شخص لا يحمل اسماً، ولا تاريخاً سابقاً، ولا لاحقاً، للرواية، شخص يأتي من العدم يقدم تبريراً للرواية، أو مدخلاً للحديث، ثم يعود مرة أخرى للاختفاء دون أيّ أثر.
يرى عطبوش أنّ السلطة السياسية استغلت هذا الأعرابي كمدخل ممتاز للروايات ذات الأبعاد السياسية، "على سبيل المثال؛ جاء أعرابي وسأل الرسول، عليه السلام، عن شجر الجنة، وسرعان ما ينتهي الحديث إلى مدح شجرة في الشام، التي هي، ويا للصدفة، (معقل الأمويين)".
ويتابع عطبوش: "لم يقتصر استغلال الأعرابي المسكين على حركة الوضع السياسي، بل كذلك وجد فيه الفقهاء وسيلة ممتازة لتبرير المسائل الفقيه، فنجد الأعرابي، دوناً عن كل الصحابة، يأتي كلّ مرة ليسأل عن الوضوء والصيام والتيمم وخروج الريح والنكاح والحرب والسلم والتربية والحقوق والواجبات وأركان الإسلام، وكأنّه يلقن فقهاء القرن الثالث ما يحتاجونه تماماً لدعم فتاواهم".

اقرأ أيضاً: مفهوم التراث عند مهدي عامل: المعرفة ضد الخصوصية
ويرى عطبوش أنّ وضع الروايات على لسان مجهول "كان أسهل بكثير من الكذب على شخصية حقيقية؛ فذلك يعني الحذر عند اختيار الصحابي، وتحديد عمره، وعام إسلامه، ويستلزم كذلك معرفة مواقفه وتفضيلاته، ثم تبعات هذا القول على باقي سيرته، بحسب ما بقي من روايات، ربما لا يعرفها الراوي، فعوضاً عن ذلك كلّه؛ كان يتم اللجوء إلى استدعاء شخص بلا هوية ولا تاريخ، أعرابي مجهول لا اسم له فيحمل الجمل بما حمل".

 أبدى عدد من الدعاة انزعاجهم من الترند ومن هؤلاء الداعية مبروك عطية

كلنا الأعرابي

من جهته، كتب الكاتب والإعلامي أحمد الدريني، منشوراً على صفحته حمل عنوان: "الأعرابي الذي لا تعرفه"، قال فيه: الأعرابي المجهول الذي تتكرر قصصه في السيرة، وفي نوادر العرب، وفي حكايات كتبهم، ليس شخصاً واحداً؛ فهناك الأعرابي الجلف، الذي يغلظ القول والفعل للنبي، صلّى الله عليه وسلّم، وهناك الأعرابي شديد الذكاء والحكمة الذي يقيس الأمور ببراعة، وهناك اللئيم، وهناك المادي، وهناك المجادل، ..، وفي نوادر العرب، وفي حكايا الأذكياء لابن الجوزي،  تحضر حكايات وطرائف الأعرابي، تارة غبي، وتارة كمضحك، وتارة كحكيم أريب".

وصل إعجاب البعض بمهندس الترند حد وصفه بـ"المبتكر الذي يستحق جائزة الأوسكار"

ويعلق الدريني قائلاً: شخصياً، تعلمت من قصص الأعراب، ربما فوق ما تعلمت من المدارس، أتعلم لماذا؟ لأنّ الأعرابي هو الإنسان بكل احتمالاته؛ هو المنعزل بعيداً عنا، الغريب، القروي الساذج، والصعيدي الذي نسخر منه، وهو الذي يحيل النظر طوال اليوم، حتى تصير الحكمة حاضرة في نفسه، وهو الذي لم تهذب الصخور طباعه فصار جلفاً، وهو الذي هدأ سكون الصحراء من نفسه فصار رقيقاً، الأعرابي هو الإنسان، إذا لم تلاحظ! ليس مخلوقاً أسطورياً، لا بالمدح ولا بالذم، ترضى مني بالأنكى؟ أنت أعرابي في نظر أحدهم.
عبث ولهو
من جانبهم، أبدى عدد من الدعاة انزعاجهم من ترند "الأعرابي" وما رافقه من تعلقات ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن هؤلاء؛ الداعية الإسلامي، الدكتور مبروك عطية، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر، إذ يقول: إنّ العلماء يعرفون أنّ علم الحديث هو العلم الذي "نضج واحترق"؛ بمعنى لم يعد فيه مجال للكلام من حيث إثبات الصحة والضعف والوضع بالنسبة إلى الأحاديث، فقد قتل الأمر بحثاً، وبات معروفاً سند كلّ حديث ودرجة صحته، مشيراً إلى أنه حتى في الدراسات العليا، سواء في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه، إن هي إلا رسائل في دراسة نوع معين من نوع الحديث في كتاب من كتب السنّة.

الأعرابي، وفق عطبوش، هو شخص لا يحمل اسماً، ولا تاريخاً سابقاً، ولا لاحقاً، للرواية

وأضاف عطية، في تصريحات لموقع "فيتو" المصري: "من أراد أن يستفيد من السنّة النبوية التي هي المصدر الثاني للتشريع فليفكر في المعاني، لا أن يتحدث ويذكر مثل قول "جاء أعرابي"، أو "سأل أعرابي"، ليسخر من السنّة، قائلاً: "فهذا يعدّ عابثاً لاهياً، وقد يسبب فتنة هي أشد وأكبر من القتل، وليتق الله مع من يتعامل، مع الحديث النبوي، وعلينا ألا نتركه دون تعليق، حتى لا يأتي على الناس زمان يسخرون فيه من كتاب الله".

اقرأ أيضاً: علي فخرو: التراث الفقهي الإسلامي ليس مقدّساً
وأوضح عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر؛ أنّ هذه الحملة تعدّ من باب "الدجل"، وهي "كلام فارغ"، موضحاً أنّ "كثرة ورود لفظ جاء أعرابى في الأحاديث؛ هو أنّ صحابة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، كانوا يفرحون بهم لأنهم أهل جرأة على السؤال، فالأعرابي يسأل والصحابة جميعهم يستفيدون، وغير هذا فلا ينبغي فيما لا علم لنا به وزمام ذلك تقوى الله".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية