ثقافة الحداد عند الشعوب

ثقافة الحداد عند الشعوب


20/12/2021

الحداد هو ما يعقب صدمة الموت، صدمة غياب مَن نحبه/ـا عن دنيانا غياباً نهائياً وانفصالنا عنه/ـا انفصالاً نهائياً. ولعله تعبير رمزي عن مسار الانفصال العاطفي عن المتوفى أو المتوفاة، وهذا مسار قد يطول، ويختلف من شخص إلى آخر، وترافقه مشاعر مختلفة كالحزن، والألم، والشعور بالذنب، والخسارة، والاشتياق للمتوفى أو المتوفاة. وهو ثياب المآتم السُّود، وترك الزينة والطيب والخضاب؛ وفي الإسلام لا تحد المرأة فوق ثلاث، فلا تحد إلا على زوج؛ ولا يحل لأَحد أَن يُحِدَّ على ميت أَكثر من ثلاثة أَيام إِلا المرأَة على زوجها، فإِنها تُحِدُّ أَربعة أَشهر وعشراً.

اقرأ أيضاً: هل المرأة أكثر استجابة للخطاب الديني من الرجل؟

الحداد قديم في حياة البشر وثقافتهم قدمَ إدراكهم للموت؛ وأقدم ما نعرفه عنهما نقله المؤرخون عن مصر الفرعونية من أساطير، أبرزها أسطورة الإله "أوزوريس" الذي قتله أخوه (ست) ومزق جثته أربعين جزءاً وطرح كل جزء في إقليم من أقاليم وادي النيل، وكان عددها في ذلك الوقت أربعين مقاطعة. وأقام المصريون لأجزاء جسده أربعين قبراً، ومنذ ذلك الحين والفراعنة يحنّطون جثث موتاهم ويبقونها أربعين يوماً بعد معالجتها بمختلف أنواع العقاقير ولفها بالأقمشة الكتانية ثم يشيعونها بعد ذلك إلى مثواها الأخير. وما يزال المصريون يحيون ذكرى الأربعين إلى اليوم.

 الحداد قديم في حياة البشر وثقافتهم قدمَ إدراكهم للموت

دخلت الأساطير وطقوس العبادات القديمة في نسيج العادات والتقاليد في سائر المجتمعات، وأصبحت مع مرور الزمن نظماً اجتماعية مرعية ومصونة ومعززة بالعقائد الدينية، وصارت حدوداً للعواطف البشرية وقيوداً على التعبير عن مشاعر الفرح والحزن.

ففي معادلة الحياة والموت، تتمظهر العادات والتقاليد، لا في حدود الممكن والمعقول فقط، ولا في حدود الحريات الشخصية وحسب، إنما في حدود الأنظمة القائمة على تلك المعادلة؛ ففي الأفراح، كما في الأحزان، يتعين على الناس إقامة المراسم والطقوس المناسبة للولادات والأعراس والنجاح والخطوبة وغيرها، فيرتدون لكل حال ما يناسبها من ثياب وحلي، وما تقتضيه من مظاهر الفرح والبهجة أو مظاهر الحزن، ومما يعتبرها بعضهم عملية إشهار لحدث ما فقط.

اقرأ أيضاً: ممنوع أن تغني.. فصل آخر للقمع

وتختلف هذه الحالات أيضاً من مجتمع لآخر، حسب المعتقد الديني أو العادة الاجتماعية. أما بما يتعلق بمراسم الحزن؛ فهو معاكس تماماً لحالة الفرح، وفي كلتا الحالتين يكون الأمر طبيعياً، لأنه يرتبط بالحالة النفسية للأفراد المقربين/ـات من تلك الأحداث المفرحة والمحزنة، لكن يغلب أن تكون أوقات الحزن أطول من أوقات الفرح، وتكون وطأة الحزن أشد من خفة الفرح، فقد قال أبو العلاء المعري، الشاعر الفيلسوف: إنّ حزناً في ساعة الموت أضعاف سرور من ساعة الميلاد.

اقرأ أيضاً: المثل الشعبي إذ يكرس العنف والتطرف

ففي حالات الوفاة يكون الحداد هو المظهر السائد والمعتاد، ويكون اللون الأسود هو اللون المتصدر للمظهر الخارجي للأفراد، ولا يخص كافة المجتمعات، فأكثر المجتمعات التي تمتاز بهذه العادة هي المجتمعات العربية، وقد أخذتها من العادات التي كانت متبعة عند الفراعنة، الذين كانوا يعتقدون أنّ المدة التي يقضيها الميت بين البرزخ وعذاب القبر لا تقل عن أربعين يوماً، ولا تزال تلك العادة متبعة إلى وقتنا هذا، وعلى وجه الخصوص عند بعض الشعوب الإسلامية، مع أنّ الدين الإسلامي حرّم الحداد أكثر من ثلاثة أيام كما ذكرنا.

اقرأ أيضاً: هل ترتبط الذائقة الفردية بالذوق العام؟

ويقول تقليد آخر لدى شعب "داني" في أندونيسيا: إنّ الحداد على الميت لا يكون في الملبس أو في المأكل، إنّما في فعل صادم يرضي روح الميت الباقية فترة طويلة في مكان موته، فكانت العادة تقضي أن يبتر أحد المقربين إلى المتوفى إحدى أصابع يده، ولا يكون حداد إلى على المتوفين من الذكور فقط، ويتبع هذا الشعب عادة أخرى، إذ يطلي أبناء القبيلة الذكور أنفسهم بالطين، لاعتقادهم بأن الطين يعيد الروح إلى الميت.

الحداد المنصوص عليه في الأديان

في اليهودية؛ يكون الحداد سبعة أيام وتسمى "السبوع" يجتمع فيها المعزون في بيت المتوفى مدة سبعة أيام، يتلون فيها المراثي على روح الميت، وتجري العادة أن يجلس أصحاب العزاء على الأرض، وتغطَّى جميع المرايا الموجودة في المنزل، وتحرّم الديانة اليهودية الاغتسال وقص الشعر على المقربين/ـات من الميت، كما تتمظهر مراسم الحداد باللباس الأسود لمدة عام، وهذه العادة مقتصرة على النساء فقط.

النظام الاجتماعي الذي منع عن الرجل البكاء هو ذاته الذي أجاز لها الحداد وقتاً طويلاً

وعند المسلمين لا يتجاوز الحداد ثلاثة أيام، وقد ذهب الفقهاء إلى أنه لا حداد على الرجل في الإسلام لا من ناحية الفترة الزمنية أو في تقيد السلوكات والتصرفات، وإنما يعدُّ تعبيره عن الحداد حسب خصال الفطرة الإنسانية، التي تختلف من رجل لآخر في الحزن، ولا اعتبار في الحداد بقصِّ الشارب وتطويل اللحية أو حلقها وما شابه من أمور. ويجب أن يكون البكاء بغير نياح وصياح. وقد اتفقَ العلماء على أن عدّة المرأة على أي شخص يموت من أقاربها غير زوجها هو ثلاثة أيام فقط وليس لها أن تزيد على هذه المدة، إذ الحداد العدة تكون على الزوج فقط، ويمكن لزوجها أن يمنعها من ذلك لأن الزينة حقٌّ له.

أما في المسيحية فلا يوجد شرط ملزم للحداد، فقد تركت الأمر إلى الحرية الشخصية.

هل الحداد مُلزم للمرأة أكثر من الرجل؟

بما أنّ الأعراف الاجتماعية والقوانين المستمدة منها في المجتمعات التقليدية؛ تنتقص من حق المرأة مقابل حق الرجل، فهي لا بد أن تكون مُلزمة بالحداد ومظاهره التقليدية أكثر من الرجل، فالحداد قيد إضافيّ من القيود، التي تكبل المرأة في المجتمع. فالصفات النمطية، التي تسم المرأة اجتماعياً، بأنها أكثر عاطفةً، وأكثر تأثراً بأحداث الفرح والحزن، تجعلها أكثر التزاماً بالتقاليد والأعراف الاجتماعية أكثر من الرجل، ويعاب عليها إخلالها بهذه الالتزامات، ولا يعاب الرجل الذي "لا يجوز أن يبكي في أوقات الحزن"، فالبكاء يذهب بوقاره ويثلم رجولته.

النظام الاجتماعي الذي منع عن الرجل البكاء عند حالة شعورية معينة، وأجاز له القوة والصلابة، هو ذاته الذي منع عن المرأة من الضحك بصوت عالٍ، وأجاز لها الحداد وقتاً طويلاً، وربط العاطفة بالأنوثة، والعقل والقوة بالذكورة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية