ثقافة تويتر وانقلاب العلاقة بين الشيخ والمُريد

ثقافة تويتر وانقلاب العلاقة بين الشيخ والمُريد

ثقافة تويتر وانقلاب العلاقة بين الشيخ والمُريد


15/09/2022

يسود في العالم السيبراني مناخ ديموقراطي يجمع بين الاتجاهات المتباينة، لكنّ المشهد أيضاً تشوبه ظاهرة التطاول وحملات الإساءة ومحاولات انتهاك خصوصية الآخر، والاستخفاف به، وبثّ الأفكار المُتطرفة، كما تحتدم على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي صراعات بين كيانات تقليدية مثقلة بحزازات طائفية، وترسّبات ضاربة في التاريخ الغابر، وفي ذلك مفارقة واضحة؛ عندما تطفو النزاعات الطائفية والقبلية على السطح بفعل وسائل هي وليدة عصر الحداثة والعقلانية.

هذا ما أثار انتباه عدد من المتابعين، منهم الأكاديمي والناقد  السعودي، عبدالله الغذامي، الذي يحاول مقاربة صورة الخطاب التقليدي على منابر افتراضية، في كتابه المعنون بــ "ثقافة تويتر: حرية التعبير أو مسؤولية التعبير"، الصادر عن المركز الثقافي العربي، إلى جانب رصده لما أحدثه الإعلام البديل من التحوّل في المفاهيم، ونشوء منظومة علاقات جديدة بين مرتادي هذه المواقع. إضافة إلى ذلك يتناول صاحب (الثقافة التلفزيونية)، ما يفرضه العالم الافتراضي على المستخدمين من الشروط المحددة للكتابة، والمساهمة في نشر المعلومات، أمر يلاحظه المستخدم لموقع "تويتر"، ويشير المؤلف إلى محاولته تبنّي ما يسمّيه "الأسلوب التويتري"، الذي يتميز بالاختصار والتركيز في مباحث كتابه، كما فضّل الإحالة إلى تويتر بصيغة المؤنث، مخالفاً بذلك ثقافة مطبوعة بالحسّ الفحولي، الذي يميل إلى تذكير الأسماء والمفردات.

كتاب "ثقافة تويتر: حرية التعبير أو مسؤولية التعبير"

ولا تُلقي الوسائل التكنولوجية الحديثة بظلالها على حياة الإنسان وأنماط عيشه فقط؛ بل تمنحه فرصة لمراجعة الثوابت والمسلَّمات، التي أصحبت مندمجة في أنساق التفكير، بالتالي؛ تحدّد مديات الرؤية وأشكال القيم المتحكّمة بالسلوكيات؛ الاجتماعية والثقافية والسياسية؛ إذ إنّه مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة، أضيفت بيئة افتراضية إلى حياة الإنسان، ربما تؤثر معطيات هذا الوسط الجديد في أذواقه وصياغاته التعبيرية، وإدراكه لمصادر المعرفة أكثر مما يؤثر الواقع الحقيقي، ولم تعد تلك الوسائط الافتراضية مجرّد أدوات على الأطراف؛ إنما مساحة للتعبير عن سياسات ومواقف الدول، والإدلاء بالتصريحات النارية، كما يفعل ذلك الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من خلال تغريداته عبر "تويتر".

يفرد عبد الله الغذامي فصلاً كاملاً لتجربته الشخصية في الوقوع بين تقاطع تغريدات متخاصمين، صائغاً مصطلحاً جديداً "الرهطوية"

أكثر من ذلك؛ تتيح هذه الوسائل مجالاً للأصوات المعارضة، التي لا تتمكن من نشر آرائها عبر المنابر الإعلامية التابعة لجهات معينة. إذاً يمارس المرء استقلاليته الفردية في هذا الفضاء بعيداً عن سلطة الرقيب، وتمكنه من مساءلة ما لا يعجبه في الواقع على صفحته الخاصة، إضافة إلى مناقشة المنشورات التي تحومُ بين "حوائط" الفيسبوك، أو تتداول بصيغة التغريدات.

الأكاديمي والناقد السعودي، عبدالله الغذامي

حركة الأصابع على لوحة المفاتيح والتفكير

ومن الخصائص التي تمتاز بها شبكة التواصل الاجتماعي؛ السباق المحموم بين حركة الأصابع على لوحة المفاتيح، والتفكير؛ إذ غالباً ما تسبق رغبة الكتابة إملاءات الفكر؛ لذا تأتي المنشورات والتغريدات أكثر تلقائية، كما لا تخلو من أخطاء قد تعقبها ضجة بين المتابعين. ويذكر الغذامي في هذا السياق، وقوع بعض المستخدمين في فخّ تغريدات ملتبسة، مثل ما أطلقه أحد نواب البرلمان البريطاني؛ إذ عبّر عن رغبته لضرب صحفية، وما إن دار كلامه دورته حتى ضجّت منصة تويتر بردود غاضبة، إلى أن قدّم النائب اعتذاره، كذلك أنَّ ما حصل لـ "جستني ساكو"، وهي مديرة لشركة مهمة، مثال على أنّ ما ينشر على الصفحات الشخصية لا يمرّ مرور الكرام؛ فالأخيرة غرّدت بأنَّها في الطريق إلى جنوب إفريقيا، متمنية أن لا تصاب بالإيدز، وهذه الجملة فتحت عليها إعصاراً من التغريدات، أرغمها على الاعتذار، ومسح التغريدة.

لا تفوت الغذامي الإشارة إلى مساعي البعض لشراء المتابعين ليكتسبوا وجاهة افتراضية، كامتداد للنسق التقليديّ ومحاكاة للعقلية القبلية

ويلمح الغذامي إلى ما يرد من قصص طريفة في المواقع الإعلامية البديلة؛ إذ يفرد منظّر النقد الثقافي أجزاء من كتابه لبيان أساليب تويتر، وأبعاد هذا العالم الافتراضي؛ منها قلب العلاقة القائمة بين الشيخ والمُريد؛ إذ لم يعد الثاني تابعاً للأول، بل الشيخ ينصاع لرغبة مريديه، وينشئ حساباً، كما أنّ ليس كلّ ما ينشره الشيخ، أو يقوله، يلقى استحساناً؛ بل قد تتوارد عليه ردود مخالفة.

ويرصد عبد الله الغذامي عبارات تنمّ عن خيبة أمل الجماهير بالرموز على تويتر، أما بالنسبة إلى النخبة المثقفة؛ فتساورها الشكوك من الدخول إلى عالم تمحى فيه الفروقات المستندة إلى الاعتبارات الطبقية أو المهنية أو الفئوية أو الجنوسية، ويتوجس هؤلاء الصفوة من خسارة مكانتهم على المنصات الافتراضية، مع أنّ تويتر تتيح لهم جمهوراً حاشداً، لكنّ ذلك الأمر لا يشجّعهم على الانفتاح، ونادراً ما يردّون على متابعيهم. ولا تفوت المؤلّف الإشارة إلى مساعي البعض لشراء المتابعين، ليكتسبوا وجاهة افتراضية، وبالطبع؛ فإنّ هذه الرغبة امتداد للنسق التقليديّ، ومحاكاة للعقلية القبلية؛ فكلّما تضخّم عدد أنصارك تزداد وجاهة.

يحاول الغذامي مناقشة مفهوم حرية التعبير وضرورة عدم اختلاطه بالقدح والهجاء

الحيل المجازية في المنشورات العائمة

بعد متابعة الكاتب السعودي لمكونات العالم الافتراضي، وملاحقة تركيبته على المستوى المعجمي، (ومن المعلوم؛ أنّ البيئة الافتراضية تحتّم نحت وصياغة مفردات جديدة)؛ ينصرف نحو مستوى آخر، هو تسرّب الخطابات التقليدية إلى الفضاء المفتوح على كلّ الاتجاهات؛ إذ يتصيّد الغذامي ما يوضح أثر الحيل المجازية في المنشورات العائمة بالفضاء الافتراضي، مُقدّماً مراحل تناسل المعاني الرديفة، ومغادرة اللغة لوظيفتها التواصلية؛ ففي رأي الغذامي: هذا الأمر ينعكس أكثر في الخطاب الشعري، وبهذا مرق الشعر من سلطة الرقابة؛ حيث تحوّل الشعر إلى أداة للمقاومة، وأصبح مؤسسة تناوش الكيانات السياسية والاجتماعية، من هنا نفهم منطوق كلام المتنبي: "عداوة الشاعر بئس المقتنى". وإلى جانب الشعر، بوصفه خطاباً شفاهياً، تأخذُ المؤلَّفات الورقية مكانها في المنظومة الثقافية، ويكون غرض الإطراء والمخاصمة جزءاً من محتويات هذه المصنفات، ومن ثمّ تأتي الصحافة لتمثل، في أحد أوجهها، امتداداً لما شاع في البيئات القديمة من أشكال شعرية، مثل الهجاء والنقائض؛ فالمعارك بين الأدباء تشهد على ذلك، إلى أن تحل الشاشة مكان المقروء في دورها المؤثر، وممّا يمنح مزيداً من الإغراء لمجازية المخترع الجديد؛ طابعه الفردي، وغياب السلطة والرقابة؛ إذ يكتب الفرد كما يطيب له، ويقع فضاؤه خارج ثنائية المحرَّم والمباح، متستراً وراء أسماء مستعارة، ما يعني تكوين هويات مغايرة، هنا تكمن مجازية المواقع "الشاشاتية" المُغطاة بالتغريدات. ويعتقد عبدالله الغذامي أنّ مجازية الشاشة وارثة الشعر والصحافة، علماً بأنّ الشاشة أكثر امتداداً وتأثيراً؛ نظراً إلى تحطيم الحاجز بين النخبة العامة وتفوّق الشعبي في مواقع التواصل الاجتماعي، لدرجة مجاراة النخبة لتياره. وتستمد منصة توتير، في نظر الكاتب، مجازيتها من ثلاثة مؤهلات؛ القناع الثقافي، وشعار الحرية، وتفاعليه الجمهور، الذي يتدخل لصالح المتخاصمين.

وانطلاقاً من هذه القاعدة؛ يحاول الغذامي مناقشة مفهوم حرية التعبير، وضرورة عدم اختلاطه بالقدح والهجاء، ويعطف على ذلك بتفكيك أسباب العجز الثقافي، الذي يتمثل في التنازل عن الحقوق، فحين اتُّهم أحد الدعاة بتحريض الشباب على الالتحاق بمنظمات إرهابية، خيّر الداعي مقدم البرنامج بين ثلاثة خيارات؛ الإثبات، أو الاعتذار، أو المحكمة، لكنّ تراجع المتهم عن موقفه كان مخيباً، ومؤشراً لغياب الثقافة الحقوقية، كذلك تكرّر الأمر في قضية سيدة؛ حين تمّ شتمها ونعتها بالعبدة، وتخلّت عن حقوقها، وهذا ما يسمّيه الغذامي "الاستحياء الحقوقي".

وظيفة الصورة ومراوغتها للجمهور

ملمح آخر من "ثقافة تويتر؛ هو عن وظيفة الصورة ومراوغتها للجمهور، ويفرد عبد الله الغذامي فصلاً كاملاً لتجربته الشخصية في الوقوع بين تقاطع تغريدات متخاصمين، صائغاً مصطلحاً جديداً "الرهطوية"، لوصف المتابعين المنضوين تحت مظلة رمز ثقافي أو قبلي أو ديني. ويذكر أنّ الغذامي يستعيد لحظة تفاعله مع الجمهور "التوتيري"، عندما كان خاضعاً لعملية جراحية، مثمّناً -في الوقت نفسه- مبادرات لانعقاد الندوات حول مؤلَّفاته عن توتير، وهو يريدُ معايشة هذا العالم بدلاً من العزوف عنه مثل جومسكي، كما يقول.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية