جودت سعيد وحلم الديمقراطية.. هل تتحقق رهاناته على الممكنات الأخلاقية للإنسان؟

جودت سعيد وحلم الديمقراطية.. هل تتحقق رهاناته على الممكنات الأخلاقية للإنسان؟


13/02/2022

قد يكون الحديث عن المفكرين الإسلاميين بشكل عام حذراً بعض الشيء، لكن الحديث عن المفكرين الإسلاميين اللاعنفيين لا يكون بالسهولة التي نتصورها، وخصوصاً في الوقت الراهن حيث تكثر النزاعات الدينية، ويكثر التطرف والتعصب والاستبداد الديني والسياسي في العالم بشكل عام وفي العالم العربي والإسلامي بشكل خاص.

"جودت سعيد" المفكر الإسلامي السوري داعية اللاعنف والتسامح الإنساني بوجه عام، والتسامح الديني بوجه خاص، وكلاهما يستوجبان التسامح الأخلاقي، فتح نافذة إلى العالم من خلال تفسيره المنطقي وتأويله المعتدل للقرآن الكريم، وفتح للعالم نافذة إلى القرآن؛ أي إنّه كان يرى العالم في القرآن، ويرى القرآن في العالم، كما كان يرى في الديمقراطية حياة دينية حرة، لا تتصل بالحياة السياسية، إنما تخص الأفراد بكيانهم الحر والمستقل.

جودت سعيد داعية اللاعنف والتسامح الإنساني فتح نافذة إلى العالم من خلال تفسيره المنطقي وتأويله المعتدل للقرآن

عاش جودت سعيد تجربة الإخوان المسلمين في مصر، وتوقع انتشار عدوى العنف السياسي، وعدوى التطرف الديني، في الدول العربية ذات الأنظمة الشمولية، وبالذات توقع أن تتكرر أحداث مصر والإخوان في سوريا، فكان كتابه "مذهب ابن آدم الأول، أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي"، وقد فرّق فيه بين الجهاد العنفي والجهاد اللاعنفي، مؤكداً أنّ الحكم الرشيد لا يأتي بالسيف، فالجهاد اللاعنفي، هو اجتهاد الأفراد في العمل على التغيير، بدءاً من الذات، ثم الجماعات، ثم المجتمعات بأكملها، فيجبر ذلك الاجتهاد السلطة السياسية على القيام بواجباتها اتجاه المجتمع، وقد كتب على موقعه الإلكتروني مقتطفات من الكتاب: "ما أُخذ بالسيف، بالسيف يُهلك".

اقرأ أيضاً: جودت سعيد رؤية قريبة موجزة

انطلق جودت سعيد في الكتاب من الآية القرآنية: "إنّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وهنا يعتمد على التغيير الذاتي للأفراد في المجتمعات، ويعود ليربط الوعي المجتمعي بالوعي السياسي، من خلال فكرة "الحكم الرشيد والمجتمع الراشد: أي المجتمع الواعي لحقوقه وواجباته، والذي لا يستطيع أن يحكمه نظام سياسي مستبد" كما هو الحال في دول النزاع العربية، التي استهلكت مجتمعاتها النزاعات وانتهكت حقوقها وحرياتها، واتخذ من مقولة "كما تكونوا يولَّ عليكم"، حافزاً لتنشيط الشعوب المنتهكة حقوقها والمستباحة حريتها وكرامتها الإنسانية، لكي تتوازن اجتماعياً، وثقافياً وسياسياً، موضحاً أنّ الدين ثقافة اجتماعية ضرورية، ويقتضي في الوقت ذاته وعياً ذاتياً ينبذ العنف والإقصاء والعداوات الفردية والجماعية.

إيمان جودت سعيد بالديمقراطية التي تتحقق بالطرق السلمية نابع من رؤية سياسية ناضجة ومن موقف فكري

جودت سعيد المفكر المؤمن المتسامح، والمتعاطف مع الشعوب المظلومة والمهمشة والمهدورة،  سياسياً واجتماعياً ودينياً، رفض فكرة التعصب الديني والسياسي، وناشد الأنظمة الشمولية أن تتحول ديمقراطياً من أجل شعوبها كي يحل السلام والاستقرار مكان العنف والتعصب والتخلف والجهل، وليحل أيضاً قبول الآخر المختلف محل الإقصاء والنفور، فكان خطابه الديني تنويرياً، وليس خطاباً تبشيرياً، وهذا ما جعل الإسلامويين المتطرفين يتخذون موقف العداء من فكره وتطلعاته المستقبلية، فقد تعرض أثناء حياته لانتقادات دينية جمّة، أخذها بسعة صدر ومحبة، واعتبرها نوعاً من النقد الفكري وليست عداوة شخصية.

اقرأ أيضاً: التفاعل مع وفاة المفكر جودت سعيد يكشف أزمة خطاب الإسلاموية.. كيف؟

لم يكن إيمان جودت سعيد بالديمقراطية، التي تتحقق بالطرق السلمية، والأرجح أنّها لا تتحقق إلا بالطرق السلمية، نابعاً من رؤية سياسية ناضجة وواضحة، فقط، بل كان نابعاً من موقف فكري، يضع الإنسان في مركز اهتمامه وانشغاله؛ إذ أسقط فكرة التوحيد الإلهي على المجتمعات المختلفة في العالم، فرأى أنّ هذه المجتمعات يمكن أن تلتقي على مطالب الحرية والمساواة والعدالة، وأنّها تواقة بالتساوي إلى الاستقرار والأمن والسلام والرفاهية والسعادة، وهذا ما يجعل الديانات المختلفة تلتقي على أهداف مشتركة، ما دام الدين وجد من أجل الإنسان. أي توحيد الأديان ممكن إنسانياً وليس دينياً، فلكل شخص حرية العقيدة والإيمان مع الاعتراف بعقائد الآخرين/ــات وإيمانهم/ــن. التوحيد الاجتماعي؛ هو التوحيد الإنساني، توحيد بالمحبة والتسامح والسلام.

  كان خطابه الديني تنويرياً لا تبشيرياً ما جعل الإسلامويين المتطرفين يتخذون موقف العداء من فكره وتطلعاته

إنّ واحدة من أهم مزايا الراحل جودت سعيد، ومزاياه كثيرة، أنّه كان ضد المفاضلة بين الديانات والعقائد، وبين الأنبياء والرسل، فجميع الديانات والعقائد متساوية عنده في القيمة الروحية، ما دامت تنشد النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وجميع الأنبياء والرسل، من نعرف منهم ومن لا نعرف، أصحاب رسالات يبلغونها بطرق مختلفة ولغات مختلفة وفي أزمنة مختلفة. وكان يرى أنّ انقطاع النبوة دليل على أنّ البشرية قد بلغت سن الرشد، وعلى قدرة البشر على تحمل مسؤولية إنسانيتهم. كان رهان جودت سعيد الأساسي على الممكنات الأخلاقية للإنسان.

لم يختلف جودت سعيد في نظر الظلاميين وأعداء السلام، عن غيره من المفكرين الإسلاميين المتنورين، من أمثال "نصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، ومحمد شحرور" وغيرهم ممن نشروا أفكاراً جديدة حول الدين، وعرفوا بانفتاحهم على الآخر، وانتقدوا التعصب الديني، وفصلوا بين الدين والسياسة، فكان مصير سعيد كمصير الجميع، حيث بدأت مقاومة دعوته إلى اللاعنف؛ وقوبلت أفكاره السلمية بالرفض من قِبل السلطات السياسية المتعددة في سوريا، في ستينيات القرن العشرين منذ زمن الوحدة بين سوريا ومصر حيث عايش مرحلة الوحدة والانفصال وهو يؤدي الخدمة العسكرية الإجبارية في سوريا، ورفض الانخراط في التحركات العسكرية آنذاك، فوضعته السلطة العسكرية تحت الإقامة الجبرية.

اقرأ أيضاً: جودت سعيد: اللاعنف أقوى رياح التغيير.. ماذا تعرف عن "غاندي العرب"؟

وتوالت مقاومة أفكاره  بدءاً من الاعتقالات ولأكثر من مرة، وانتهت بكف يده عن العمل، إذ كان يعمل مدرساً للغة العربية في ثانويات ومعاهد سوريا، وانتهى به المطاف لاجئاً في تركيا، مثل ملايين السوريين والسوريات بعد اندلاع الحرب السورية، حيث كان العنف وما يزال هو الحكم والفيصل الأقوى من دعوة جودت سعيد إلى السلم والسلام، والملقب بــ"غاندي العرب".

الديمقراطية في عرف جودت سعيد تبدأ بالاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات بالتساوي في الكرامة الإنسانية أولاً، ثم في الكرامة الوطنية، والجدارة والاستحقاق. وعلى هذه الرؤية قامت دعوته على اللاعنف.

توفي جودت سعيد في 30 كانون الثاني (يناير) 2022 حالماً بديمقراطية لم تتحقق، وسلام مؤجل.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية