حُلم الغنوشي .. وانفجار الإسلام السياسي في المنطقة والعالم

حُلم الغنوشي .. وانفجار الإسلام السياسي في المنطقة والعالم

حُلم الغنوشي .. وانفجار الإسلام السياسي في المنطقة والعالم


11/06/2023

ذات مرة، تحدث الغنوشي في حوار معه، مادحاً حقبة بدايات القرن الماضي (العشريتين الأوليين من القرن العشرين) في إشارة واضحة منه إلى طبيعة حياة المسلمين في ذلك الوقت وما كانت تتوفر عليه من سلام وتسكين للكثير من الهزّات المجتمعية في المنطقة التي انفجرت في نهايات ذلك القرن على يد الجماعات الإسلاموية، ابتداءً من الإخوان المسلمين التي كانت أداة ذلك التفجير، مع ريادتها للتجربة الحركية للإسلام السياسي.

تزامن كلام الغنوشي في الحنين لتلك الحقبة (التي كان يزدهر فيها التيار الإصلاحي مع محمد عبده، الأفغاني، رشيد رضا، وغيرهم) مع إعلان حركة النهضة في تونس؛ الفصل ما بين الدعوي والسياسي في نشاطها، وتحولها إلى حزب سياسي يعمل في المجال العام بمعزل عن الذراع الدعوية، ما عكس انتقالاً مهماً في مسار الحركة، وإن كان غير ناجزٍ تماماً.

حنين الغنوشي لحقبة بدايات القرن الماضي يستبطن إدراكاً متأخراً لفداحة تسييس جماعة الإخوان للإسلام

ما حلم به الغنوشي وحنّ إليه، هو، في تأويل آخر، إدراك متأخر منه لفداحة قضية تسييس الإسلام التي تولت كبرها جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها في العام 1928، وما جره الإسلام السياسي، بعد ذلك، على المسلمين والعالم من ويلات عبر تحريف الجماعة لمفاهيم الإسلام، وتحويلها من المجال المعرفي إلى المجال الأيديولوجي.
وهو ما أحدث هزةً في المرجعيات الدينية للتقليد السنّي التي كانت تضبط إيقاع حياة المسلمين بالأمن والسلم عبر العلم الشرعي في مؤسساته التقليدية كالأزهر، والزيتونة، والقرويون، وما في معناها من مؤسسات نظيرة في بلاد المسلمين.
لقد حلم الغنوشي وحنّ إلى ذلك، فيما كان يعبّر عن فداحة المتغيرات الكارثية التي جلبها الإسلام السياسي للمسلمين والعالم، لكنه لم يشرح لماذا وكيف كانت تلك الحقبة بدايات القرن العشرين في نظره تستحق المدح؟
الحلم بطبيعة الحال ليس إدراكاً واعياً، بل هو، في اليقظة، تمثيل للأمنيات في رغبة مستعادة لها دون شرح كيفية تحقيقها.

بطبيعة الحال، يقيم في حلم الغنوشي، سؤال جدلي مضمر، وهو سؤال بالتأكيد طرأ على هاجسه: لماذا لم يفجِّر الإسلام السياسي مجتمعات المسلمين والعالم، إلا بعد ظهور جماعة الإخوان المسلمين بعقود؛ أي منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، من ناحية، وماذا يعني تسكين انفجارات الإسلام السياسي في سردية وهوية جماعة الإخوان المسلمين، من ناحية أخرى؟
سيكون الجواب، في تقديرنا من شقين؛ الأول إنّ المتأمل في تلك الحقبة (وكانت حقبة الاستعمار الإنجليزي لمصر وبعض دول المنطقة العربية) لا تخفى عنه حقيقتان؛ الأولى، أنّ الدولة الاستعمارية (وبخاصة بريطانيا) كانت تؤسس في مستعمراتها نموذجاً جديداً للدولة ينطوي على هوية واضحة لجهة كونها مؤسسة تتولى تنظيم بنيات ضامنة لتسكين توترات المجتمع، ومكترثة بإنتاج معنى ما لهوية جادة في الحياة العامة؛ تعليماً وإعلاماً، والثانية، أن مؤسسة التقليد السنّي في المنطقة العربية كانت فاعلة كمرجعية علمية منضبطة ووحيدة للتعبير عن الرأي الفقهي الذي يحتاجه المجتمع.

وبنهاية السبعينيات، كان اكتمال تجارب الفشل للدولة العربية ما بعد الاستعمار أكثر من واضح، كما أنّ استتباع تلك الدولة لمؤسسات التقليد السني كالأزهر، إلى جانب سياسيات مرحلة الحرب الباردة، لاسيما بعد العام 1979، سواء في مصر (عصر السادات) أو في المناخ الدولي: قيام الثورة الإيرانية، حرب أفغانستان ونشاط البابا يوحنا بولس الثاني، إلى جانب دعم الولايات المتحدة إبان فترة الرئيس ريغان؛ كل ذلك المزيج شكّل مناسبة قوية لبروز ما عُرف بالصحوة الإسلامية آنذاك والتي كانت التوقيت المناسب لبدايات انفجار الإسلام السياسي في المنطقة.
وهكذا؛ بضعف الدولة العربية، ما بعد الاستعمار، وبانهيار التجارب الأيديولوجية لليسار الاشتراكي والقوميين، نهاية الستينيات، مضافاً إلى ما ذكرناه آنفاً، أصبح الإخوان المسلمون ومن في معناهم من جماعات الإسلام السياسي أكثر قدرة على بلورة سردياتهم المؤدلجة؛ فانفجر الإسلام السياسي الذي مثّلته مرحلة الصحوة، ومايزال حتى اليوم تتفاقم تداعياته الانشطارية في العديد من الجماعات التي تتناسل على يمين الإخوان المسلمين، كداعش والقاعدة وغيرهما.

مانزال نعاني تداعيات سرديات الإسلام السياسي بالعديد من الجماعات التي تتناسل على يمين الإخوان كداعش والقاعدة

واليوم، في ظل الانهيار الكبير لبنيات دول عربية وازنة كالعراق وسورية، وضعف دول المنطقة العربية، تبيّن تماماً أنّ الانفجار الأصولي للإسلام السياسي، ليس في حقيقته سوى تعبير عن ضعف قوة الدولة في إدارة الاختلاف والجماعة وحماية المجال العام من أفكار التطرف إلى جانب قوة الدولة وتشريعاتها النافذة بقوة القانون.
إنّ انفجار الإسلام السياسي، كان أقل بكثير في قوته من انفجار أصوليات اليمين المسيحي في أمريكا، لكن قوة الدولة هناك، كما يقول د.رضوان السيد، كانت هي الضامنة لامتصاص هزّات الزلازل الأصولية، وتحويل تلك الانفجارات إلى تعبيرات مقلمة الأظافر في المجال العام.
وبالعودة إلى حلم الغنوشي، سيظل فك الارتباط بين الدعوي والسياسي شكلاً من أشكال "تصفير" الإسلام السياسي ذاته، ونعني بالتصفير تصفية الحمولة الأيديولوجية لتأويل سياسوي يضع حيازة الفهم الخاص للإسلام من قبل جماعة الإخوان المسلمين مقابلاً لمشروع الدولة الوطنية الحديثة، لكن أيّ إقدام على مثل هكذا تصفير سيكون بالنسبة للإخوان بمثابة مواجهة مع التناقضات الأصلية في سرديتهم.
لن يعترف الإخوان المسلمون بالدلالة السياسية الحصرية لمفهوم الحزب؛ لأنّ ذلك سيجعلهم بالضرورة جزءاً من الجماعة الوطنية لكل دولة عربية على حدة، وسيكفهم عن جعل الأيديولوجيا مانعاً ذاتياً للجماعة عن الرؤية الحقيقية للواقع والمجتمع والدولة! وإذا ما كف الإخوان عن كونهم هوية انقسام رأسي داخل المجتمع وضد الدولة؛ فإنّ ذلك سيضعهم أمام إلغاء مبرر وجودهم وتاريخهم؛ أي سيعني انتحاراً وجودياً للجماعة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية