هذه سياسة الجماعة مع "الإخوان" المعارضين

سياسة الجماعة مع "الإخوان" المعارضين: التطنيش ثم التهميش ثم التطفيش

هذه سياسة الجماعة مع "الإخوان" المعارضين


23/01/2024

كشأن كلّ الحركات المتطرفة والديماغوجية، تحرص جماعة الإخوان على التعاطي مع أيّ نقد يخرج عليها، سواء من داخلها أو خارجها، بمنهج واحد لا يتغير، عماده الإنكار واتهام الآخر بكل نقيصة، بل واغتياله معنوياً، بالشكل الذي يصورّه مدخولَ النية أو صاحب غرض أو طموح من أيّ لون.

النقد لدى الجماعة يعني انكشاف عيوبها، بالتالي، تهديد بنيانها الصلد، فكرياً وعقائدياً وتنظيمياً؛ لذا حرصت الجماعة منذ النشأة والتأسيس، على اتباع منهج خاص في التعاطي مع أيّ نقد أو استدراك.

التفتيش في المصادر الرسمية لتاريخ الجماعة، يتحدث عن أول محاولة للاستدراك على حسن البنا ونقد سلوكه وأفكاره وطريقته في الإدارة، باعتبارها محنة واجهت الجماعة من أصحاب نفوس مريضة، حركتهم الضغائن الشخصية والطموح الذي لا يستند إلى الكفاءة والاقتدار، تأمّل معي كيف تتحدث المصادر الإخوانية ذاتها، عمّن عارضوا نهج حسن البنا واستبداده في الإدارة.

لخّص أحد المنشقّين عن الجماعة سياسة التنظيم في مواجهة الناقدين من داخله أو المخالفين لتوجهات القيادة وسلوكها بكلمات ثلاث: "التطنيش ثم التهميش ثم التطفيش"

تحت عنوان الابتلاء سنة الدعوات كتب مؤرخهم "تعرض الإمام الشهيد للابتلاءات من أول يوم بدأ فيه الدعوة عن طريق كيد الكائدين وحقد الحاقدين، وعندما تكوّنت جمعية الإخوان المسلمين، تعرّضت هي وقائدها الإمام الشهيد لابتلاءات كثيرة".

 ثم تحت عنوان الوشايات الكاذبة يقول: "كان أول هجوم على الإخوان المسلمين عندما شرعوا في بناء مسجد ودار لهم، وذلك بأن أثار الحاقدون الغبار حول الدعوة والداعين، وصوروهم بصور شتى فاتهموهم بأنّهم يدعون إلى مذهب خامس، فهم أحياناً يصفونهم بأنهم شباب طائش لا يحسنون عملاً ولا يؤتمنون على مشروع، وأحياناً نفعيون مختلسون يأكلون أموال الناس بالباطل وهكذا".

 

اقرأ أيضاً: كيف صار حسن البنا أقوى منوّم مغناطيسي في مصر؟

 وتحت عنوان "عريضة من مسيحي" قال: "ومن الغريب أنّ كتابة العرائض ضدّ الإمام البنا لم تنتهِ، فقد كتبت عريضة موقعة باسم رجل مسيحي، جاء فيها إنّ هذا المدرس المتعصب الذي يرأس جمعية متعصبة، اسمها الإخوان المسلمون، يفرق بين عنصري الأمة في الفصل، فيتعمد إهانة التلاميذ المسيحيين ويهملهم ولا يعتني بهم، ويعطي الطلاب المسلمين كلّ اهتمامه وتوجيهاته، وذلك سيحدث فتنة كبرى إن لم تتداركها الوزارة بنقل هذا المدرس". وتحت عنوان "اتهامات باطلة" كتبوا: "أحد المشايخ العلماء وكان يشغل منصباً دينياً مرموقاً، وكان مسموع الكلمة، يصدّقه الناس، أشاع أنّ حسن البنا يقول في دروسه "اعبدوني من دون الله"، والإخوان المسلمين يعتقدون أنّ الشيخ البنا إله يعبَد، وليس بشراً ولا نبياً ولا ولياً ولا شيخاً، والعجيب أنّ هذا العالم كان يقول لمن يسأله عن مصدر ذلك أنّه سمعه من الشيخ البنا بأذنه".

المتأمّل في تلك الاتهامات السابقة يدرك، دون عناء، أنّ مؤرّخ الجماعة حرص على أن يخلط الحقائق بالأوهام في تلك الاتهامات؛ حيث تبدو أنّها كلّها والعدم سواء، مغرضة وكاذبة، لكنّ الروايات حين نعيد توثيقها من الطرف الآخر، سنجد أنّ كثيراً من الاتهامات التي وجهت للجماعة وللبنا شخصياً كانت اتهامات حقيقية، برع البنا وجماعته في نفيها واتهام الآخرين بها، على طريقة رمتني بدائها وانسلَّت.

 

اقرأ أيضاً: ماذا قال حسن البنا لوزير الداخلية المصري قبل حلّ "الجماعة"؟

حين نحلّق مع الروايات التي يشير لها مؤرخ الجماعة ومن المصدر نفسه، نجد أنّ تلك الاتهامات كانت اشتباكاً مع سلوك البنا وفرديّته في اتخاذ القرار، والقفز على اللوائح التي كتبها هو بنفسه.

فتحت عنوان "الفتنة الأولى" يقصد بطبيعة الحال أول موقف لمعارضة سياسات حسن البنا وسلوكه، ورفض فئة من الإخوان أن يكونوا طابوراً من العبيد العميان، يصفّقون لكلّ قرار ورأي، يقول مؤرّخهم: "طلب الإخوان في الإسماعيلية أن يرشح لهم الإمام الشهيد من يقوم بأعباء الدعوة، خشية أن ينقل الإمام الشهيد إلى مكان آخر دون ترتيب أمر الدعوة، فرشّح الإمام الشهيد الشيخ علي الجداوي، وعرض الترشيح على الجمعية العمومية للإخوان، فوافقت على اختياره، وكان يعمل نجاراً، وكان هناك مدرس يعمل بمعهد حراء يتطلع لذلك المنصب، لكنّه سلك سبيل الدسّ والوقيعة للوصول إلى ذلك المنصب، فصادق بعض أعضاء مجلس الإدارة، ممن يعتقد أنّ لهم نفوذاً عند الإخوان، ولما رأى أنّ الإمام البنا قد رشّح غيره ليتولى أمر الإخوان، وهو يرى نفسه أكفأ وأعلم وأقدر وأكثر أهلية من هذا النجار، الذي لا يحمل العالمية مثله، ولا يمتلك مواهب مثله، فهو يحسن قرض الشعر ويجيد الخطابة والقول، ويعرف الكثير وينشر الدعوة ويحسن الاتصال بالناس".

هكذا تروى مصادر الإخوان الرواية التي يصحّ أن نعيد تركيبها بشكل صحيح

حسن البنا كان يوصي الإخوان بوصية، تناقلتها قيادات الإخوان حتى أضحت نصاً ملزماً في اختيار القائد الذي يلي حسن البنا؛ يعني أيّ قائد يتم اختياره، بالمناسبة حسن البنا أنشأ التنظيم وجعل نفسه المرشد مدى الحياة، لكنّه جعل عملية انتخاب أيّ هيكل يليه عملية تأتي فقط بمن يريده؛ لذا صكّ تلك المقولة: "اختاروا أضعفكم يكن بكم قوياً" لكن لماذا أضعفهم؟ ليبقى هو الأقوى فلا يعترضه أحد أو يستدرك أحد على ما يقوله أو يفعله.

 

اقرأ أيضاً: انهيار الإخوان.. تصدع جديد بسبب "حسن البنا"

يريد البنا أن يترك جنوداً يسمعون ويطيعون، وليس أفراداً أحراراً، قد يظهر من بينهم قادة يصلحون لمنصب المرشد بدلاً منه، أو يرى الناس مواهبهم أو علمهم، فيقارنوهم بالمرشد؛ لذا حرص البنا على أن يختار الأضعف ممن تسهل قيادته وتوجيهه، ويكون في مواجهة المرشد كالميت بين يدَي مغسّله، هذا هو العضو المثالي المطلوب في تنظيم الإخوان.

نحن أمام صيغة تنظيم عسكري لا يقبل سوى إلقاء الأوامر من قبل القيادة، وتنفيذها، دون إبطاء أو تردّد أو مناقشة، من الجنود.

تحت عنوان "تقرير مرفوع للرأي العام الإسماعيلي مبين فيه أعمال رئيس جمعية الإخوان المسلمين عام 1932"، أي بعد تأسيس الجماعة بأربع سنوات، وإثر انفراد حسن البنا بالقرار، وتصرفه في أموال الجماعة دون رجوع لمجلس الإدارة، صدر هذا التقرير الذي نشر في الإسماعيلية على نطاق واسع، ليكون أول شكل حقيقي من أشكال معارضة زعيم الجماعة ونقد سلوكه، ونحن ننقل عن مؤرخ الجماعة أهم ما ورد في هذا التقرير، يقول:

"بدأ التقرير بمقدمة عن أسباب نشره، وهي: إظهار وجه الحقّ للرأي العام الإسماعيلي، وشرح أسباب استقالتهم من جماعة الإخوان، تحدث التقرير في بابه الأول عن أنّ الإمام البنا هو الذي دعاهم لجماعة الإخوان وأنّهم أجابوه"، لكن ماذا عن انتقادات المستقيلين للجماعة ومرشدها؟ يقول إنّ الاتهامات كانت كالتالي:

إرسال أموال إلى فروع الجمعية، ولا يعلم المجلس عنها شيئاً، كفرع القاهرة وفرع بورسعيد، والتصرف بالتسليف والاستلاف من مال الجمعية بدون علمها، وكثرة المصروفات النثرية دون علم المجلس، عمل انتخابات لاختيار من ينوب عن الرئيس في إدارة فرع الإسماعيلية، على الرغم من عدم وجود من يصلح لذلك الأمر، مما أدى إلى أن يتولى الشيخ علي الجداوي هذا المنصب، وهو غير أهل، وهذه النيابة تظهر الجمعية في صورة من الصغار والجهل وتضعف ثقة الناس بها".

 

اقرأ أيضاً: حسن البنا والأدلجة السياسية للإسلام في القرن العشرين

لكنّ أخطر الاتهامات كانت "وقام الأستاذ بالتجسس علينا ثم قام بفصل كلّ من له علاقة بنا من المعهد، فأقال حضرة الأستاذ عبد العزيز أفندي الحداد، ناظر المعهد، وكذلك أقال عيسى أفندي ضابط المعهد، كما أقال الأستاذ علي أفندي عبد الرحمن، المدرّس بالمعهد، ولم يكتفِ بذلك بل قام الأستاذ بتعيين أخويه وهم من طلبة المدارس كمدرسَين بالمعهد، وذلك لسدّ الفراغ، ونصّب المدعو سيد الهندي ناظراً على المعهد، وهو قريب من الأمية وكان يعمل مكوجياً".

هذه الاتهامات ننقلها بنصّها عن مؤرخ الجماعة، والتي تكشف عدة أمور:

أولاً: انفراد البنا بالقرار والسيطرة على مجلس الإدارة، الذي بدوره يسمع ويطيع ولا يناقش أو يحاسب الأداء أو السلوك، الأمر الذي بقي ثابتاً من ثوابت حركة الجماعة عبر تاريخها، حيث خرج من الجماعة كلّ من رفع راية النقد أو المساءلة، أو طالب بتغيير اللوائح لتسمح بفصل الإدارة عن الرقابة.

ثانياً: محاباة البنا لأقاربه بتعيين أخويه، وهما من طلبة المدارس، مدرسَّين

اختيار من يثق به على حساب الأكفأ، حتى أنّه فصل ناظر المعهد وعيّن بدلاً منه مكوجياً يثق به، وهذا أيضاً من ثوابت سلوك كلّ قيادات الإخوان؛ النفور من الأكفأ ما دام لا يتحلى بالسمع والطاعة اللازمين للحركة، في تنظيم ادّعى طويلاً أنّه تنظيم مدني رغم العسكرة الواضحة في سلوكه وأساليبه.

 

اقرأ أيضاً: كيف فصل حسن البنا جماعته عن عموم المسلمين؟

ثالثاً: التجسس على الأعضاء المخالفين للقضاء على فرصهم في الإنصاف منه، وأعداد الردود المناسبة لإفحامهم وإبطال خططهم، لكنّ الأخطر في أساليب المرشد هو هذا التكتيك الذي حافظت الجماعة عليه أيضاً من بعده، في سبيل إقصاء المعارضين عن السلطة داخل تشكيلات الجماعة، تكتيك يتلخص في الدعوة لانتخاب أيّ مجلس في غياب المعارضين، حيث انتهز البنا غياب المؤهل لخلافته في إدارة الجماعة في الإسماعيلية، وأجرى الانتخابات التي حرص على التربيطات قبلها لشخص يثق به وهو هذا النجار غير المؤهّل.

من ثوابت سلوك قيادات الإخوان؛ النفور من الأكفأ ما دام لا يتحلى بالسمع والطاعة اللازمين للحركة، في تنظيم ادّعى طويلاً أنّه تنظيم مدني رغم عسكرته الواضحة

للإخوان مدونة سلوك خاصة تتوارثها القيادات، تضمن عدم وصول أيّ معارض إلى أيّ من تشكيلات الجماعة، بما يجعل الجماعة بمأمن عن أيّ خلاف أو تطور في الرأي، تبقى القيادة تعمل دون أيّة معارضة، في مواجهة قواعد تسمع وتطيع دون تفكير.

الشواهد من التاريخ تقول لنا إنّ جمهور الإخوان طلب منه أن يسعى للتجمهر عند المحكمة الدستورية العليا في مصر دون أن يعرف أيّ منهم لماذا، وعندما صدر الأمر بحصار مقرّ المحكمة نفّذ الأعضاء الأمر دون تفكير، وكذلك فعلوا في التجمهر حول مدينة الإنتاج الإعلامي في مصر أيضاً، في سبيل إرهاب كلّ المؤسسات التي كانت تقف يقظة في مواجهة مخططاتهم لتدمير هوية مصر.

 

اقرأ أيضاً: رسائل حسن البنا... بين إقرار العنف وممارسته

لخّص أحد المنشقّين عن الجماعة سياسة التنظيم في مواجهة الناقدين من داخله أو المخالفين لتوجهات القيادة وسلوكها بكلمات ثلاث: "التطنيش ثم التهميش ثم التطفيش"، لكنّ آليات كلّ ذلك تبدو واضحة في الوقائع التي ذكرناها، والتي تكشف إلى أيّ مدى قاوم التنظيم كلّ محاولة للإصلاح من داخله، وتعامل معها بسلاسة مدهشة مكّنته من الصمود لعقود، لكنّ هذا الأمر يبدو أنّه تغيّر بعد الخروج من الحكم وتلقيه تلك الضربة التي أفقدته صوابه وقدراته إلى حدّ بعيد، ولا أتصوّر أن يفيق منها مرة ثانية، مهما توسّل بتلك الوسائل.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية