"شغور الزمان".. حجة التكفيريين للخروج على الحكومات

الإرهاب والتطرف

"شغور الزمان".. حجة التكفيريين للخروج على الحكومات


05/11/2018

قفز فجأة إلى بؤرة اهتمام بعض الدعاة، كما حصل في أدبيات التنظيمات الإسلاموية ما يسمى "شغور الزمان"، من المعنى اللغوي (شَغَرَ الْمَكَانُ: خَلاَ ، فَرَغَ)؛ أي خلوّ الأمة من السلطان المسلم، وأيديولوجياً خلوّ فترة زمنية من إمام عام للمسلمين يتولى باسم الشرع.

يشيع هذا المفهوم لاشعورياً بين عامة الناس بمعانٍ تحوم حول تغير الأحوال إلى الأسوأ

يشيع هذا المفهوم لاشعورياً بين عامة الناس بمعانٍ تحوم حول تغير الأحوال إلى الأسوأ؛ فيتحدثون عن شغور الزمان من البركة، ومن معاني المودة والرحمة، والتعارف والتواصل بين الناس، فيستذكرون حتى "فاكهة زمان" ذات الطعم المميز قبل أن تغدو أشبه بثمار بلاستيكية. وأولياء أمور الطلاب يفتقدون المعلم القدوة الذي درّسهم عندما كان التعليم تعليماً بحق كما يقولون.

لكن وسط هذا الشعور العام بالحنين إلى "الزمن الجميل" ينشغل بعض المتصدرين للفتوى بالتذكير أنّ زماننا يخلو من إمام يحمي بيضة الدين، ويقيم العدل بين الناس، ويرفع راية الشريعة، وهذه القضية هي الأهم التي دعتهم إلى تكوين هذه الجماعات انطلاقاً من وجود سلطات مدنية غير شرعية.

كان أول من طرح مسألة شغور الزمان تفصيلياً هو الإمام الجويني في كتابه غياث الأمم

مسألة قديمة متجددة

كان أول من طرح هذه المسألة تفصيلياً هو الإمام الجويني في كتابه غياث الأمم حين قال: "فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن آرائهم، فيصير علماء البلاد ولاة العباد، وإذ لم يصادف الناس قوّاماً بأمورهم يلوذون إليه، فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عمَّ الفساد البلاد والعباد، ولو خلا الزمان عن السلطان فحقٌ على قُطّان كل بلدة وسكان كل قرية أن يُقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجى مَن يلتزمون إشارته وأوامره، وينتهون عند مناهيه ومزاجره".

وسط الشعور العام بالحنين إلى "الزمن الجميل" ينشغل بعض المتصدرين للفتوى بغياب إمام عادل يقيم الشريعة

التقط الإخوان ومن تبعهم فيما بعد من الجماعات المسألة التي تحدث عنها الجويني، وقالوا إنّه عند غياب الإمام العادل يجب على الأمة أن تقدم أصحاب العقول والهيبة العدول للفصل بين الناس، والقيام على معالم الشريعة، بل زادوا على ذلك بجواز تكوين فصائل مقاتلة لإعلاء راية الجهاد ودفع الصائل وحفظ بيضة الدين، وفق قولهم في أكثر من نص مثل: بحث "القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع" بإشراف عمر عبدالرحمن، وكتب مثل: فقه الخلاف، وفضل الغني الحميد، والضوابط الشرعية لتحقيق الإخوة الإيمانية، وتحصيل الزاد لتحقيق الجهاد.

تحدث الإخوان عن عدة مسائل خطيرة أصبحت فيما بعد من أصول دعوتهم، وهي: انعدام الإمام الشرعي، لا بيعة للرجل من باب أولى، مشروعية قيام الجماعات والعمل الجماعي التنظيمي، فجاء في مجلة صوت الدعوة العدد (الرابع): المقصود بشغور الزمان عن الإمام هو عدم وجود الحكومة المسلمة التي تحمل المكانة على مقتضى الحكم الشرعي، وهذا الشغور يكون في صورتين الأولى: انعدامه حساً، كما لو مات الإمام أو عزل بسبب يقتضيه أو أًسر وبقي الناس بعده أوزعاً متفرقين، فالواجب في هذه الحالة على جماعة أهل الحل والعقد أن يبايعوا من يصلح للإمامة ثم تبايعه الأمة بعد ذلك.

اقرأ أيضاً: الحاكمية.. الخلط بين الدين والأيديولوجيا

أما الثانية فهي: الانعدام الشرعي، كما لو ارتد الإمام عن الإسلام، أو بدل الشرائع وغيّر الأحكام، وهي الأخطر الآن، فقد حكموا على السلطات القائمة بالردة، واعتقدوا أنّ الحاكم الشرعي غير موجود، ومن ثم فإن هذا الشغور يجيز لهم تشكيل تنظيمات وجماعات وتولية من يشاؤون دون اعتبار للأمة.

اقتطع المتطرفون كلام الجويني في "غياث الأمم في التياث الظلم"

إخراج عن السياق

اقتطع المتطرفون كلام الجويني المتوفى (478هـ) في كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" وأخرجوه عن المعنى المتبادر للذهن، وحمّلوه ما لا تحتمله لغة العرب؛ حيث إنّ الرجل يتطرق إلى الشغور الحسي؛ أي غياب الحاكم إما لقتله أو أسره، فحين ذلك لا مانع أن يتولى ذوو الكفاية والدراية أمور العامة إلى حين تنصيب إمام جديد.

بينما هم أنزلوه على الشغور الشرعي الذي لم يقصده أصلاً، فهو يرى ما يراه أهل العلم في هذا الزمان، وهو أنّ الأئمة الموجودين الآن في أكثر الدول الإسلامية أئمة شرعيون، وأنّ هذا الزمان لم يخل من الإمام، وذلك لأنّه يرى أنّ من تولى الإمامة بأي صورة من الصور التي يثبتها أهل السنة فإمامته صحيحة، ومنها أنّ من تغلب على الإمامة بالقوة والغلبة وكان معه الأنصار والأعوان والقوة والعتاد، وإن لم يكن مستجمعاً للصفات المطلوبة شرعاً في الإمام فإمامته شرعية.

اقرأ أيضاً: "في ظلال القرآن" لسيد قطب: هل اختبأ التكفير خلف سحر البيان؟

يقول الجويني، في كتابه، بما يقطع الشك في هذه المسألة: إذا اشتمل- أي الزمان- على صالحين لمنصب الإمامة فالاختيار يقطع الشجار ويتضمن التعيُّن والانحصار، ولا حكم مع قيام الإمام إلا للمليك العلام، فإذا لم يتفق مستجمع للصفات المرعية واستحال تعطيل الممالك والرعيَّة، وتوحد شخص بالاستعداد بالأنصار والاستظهار بعدد الاقتهار والاقتسار والاستيلاء على مردة الديار، وساعدته مواتاة الأقدار، وتطامنت له أقاصي الأقطار، وتكاملت أسباب الاقتدار، فما الذي يرخِّص له في الاستئخار عن النصرة والانتصار والممتثل أمر الملك القهار كيف انقلب الأمر واستدار؟ فالمعنى الذى يلزم الخلق طاعة الإمام، ويلزم الإمام القيام بمصالح الإسلام أنه أيسر مسلك فى إمضاء الأحكام، وقطع النزاع، والإلزام هو بعينه يتحقق عند وجود مقتدر على القيام بمهمات الأنام مع شغور الزمان عن إمام.

الهاشمي: الجهادي يميل لتفجير نفسه ربما لإدراكه أنّه لا يملك مكاناً في هذا العالم كما يتخيله

أستاذ الفلسفة، الدكتور عماد عبدالرازق، يشير إلى حقيقة مهمة في حديث خاص لـ"حفريات" وهي حدوث خلط بين البيعة الخاصة لأشخاص عاديين، كما يحدث في بيعة أئمة الجماعات الجهادية، مثل؛ الألقاب التي يخلعونها عليهم مثل؛ الأمير والسلطان وغيرها، وهي، كما يقول "مفاهيم خادعة واهية ولا علاقة لها بالإسلام، بل تخدم مصالح هذه الجماعات باسم الدين، وهي تستخدم كمبرر ومسوغ لتبرير أفعالهم وخلع مسحة دينية عليها حتى يستميلوا الناس، ويجب أن نوضح أنّ مصطلح السلطان المسلم وغيرها من المصطلحات في فكر هذه الجماعات مرتبط بالسيادة، فالسيادة والسلطان مقترنان".

أما الدكتور محمد الهاشمي، أستاذ الفلسفة بجامعة الرباط فيقول لـ"حفريات": ليس المشكل باعتقادي مطلقاً في بداوة اصطلاح شغور الزمان من السلطان، فأحياناً يمكن أن نعبر عن مفاهيم حداثية بلغة متقادمة، وهو ما نصادفه مثلاً في أدبيات الديمقراطيات المسيحية، لكن المشكل في التواجد خارج الزمن أصلاً حين نتشبث بشرعيات أصبحت لاغية في العالم الحديث، وذلك منذ خروج الغرب من نير الملكيات المطلقة إبان القرن الثامن عشر.

اقرأ أيضاً: جذور الحاكمية عند حسن البنا

ويضيف الهاشمي: إنهم ينتهون بشخصنة السلطة في اسم بعينه، عوض بناء الشرعية على أساس إرادة عامة تبني المؤسسات أولاً، وحيث يأخذ الأشخاص صورة تمثيلية فقط، فما ينتظره الجهادي يفتقد لأي مكان شاغر ليحتويه في العالم الحديث.. إنّ السلطان ذا التاج والصولجان أصبح مجرد إرث اركيولوجي مكانه المتاحف وكتب التاريخ.. والمشكل إذن ليس هو الشغور، بل الشرود عن بنية العالم الحقيقية، نحو عوالم خلفية يعيش فيها الجهادي هلوساته القيامية داخل الكهوف أو الخرائب البعيدة، ولعل هذا ما يجعله لا يصل مدن الناس إلا ويفكر في تفجير نفسه، وتبديد ذاته، ربما لأنّه يدرك بشكل أو بآخر أنه لا يملك مكاناً في هذا العالم، وأنّه ينتظر ما لا يأتي رغم الوعد والوعيد!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية