صراع الهويات... الانتخابات التركية نموذجاً

صراع الهويات... الانتخابات التركية نموذجاً

صراع الهويات... الانتخابات التركية نموذجاً


23/05/2023

ربما لو كان صموئيل هنتنغتون بيننا لأعاد النظر في مقاربته الخاصة بصدام الحضارات، كما فعل زميله فوكاياما حينما أعاد النظر في مقاربة نهاية التاريخ، بعد تحول الصراعات إلى مقاربة جديدة بعناوين "صراع الهويات" العمومية والفرعية وفرعية الفرعية، رغم ما بين الحضارات والهويات ونهاية التاريخ من تقاطعات كثيرة، قد لا تبدو معها الحدود الفاصلة واضحة المعالم.

الصراع السياسي بمرجعية "الهوية" أصبح يطبع الكثير من الصراعات، ليس في تركيا فحسب؛ بل في غالبية دول العالم، بما فيها الديمقراطيات الأكثر عراقة في الغرب، والتي يتم التعبير عنها ما بين ليبراليات جديدة وأخرى يمينية محافظة، كما هو الحال في أوروبا وأمريكا... إلخ، وهو ما ينسحب على تركيا خلال الانتخابات الحالية، رغم كثافة الديني والتاريخي في المشهد التركي مقارنة مع دول أخرى؛ إذ ينحصر التنافس بين كتلتين، وجوهره هوية الدولة.

ويرى تحالف حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس أردوغان استمرار العمل في دائرة "العثمانية الجديدة"، وبما يعنيه ذلك من امتدادات للشرق والجنوب العربي، وغرباً باتجاه البلقان، والبناء على الإرث التاريخي للخلافة الإسلامية، ويطرح حزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كليتشدار أوغلو العودة إلى "الأتاتوركية"، بما فيها من ميول علمانية والتحالف مع أمريكا والاتحاد الأوروبي ضمن خيار "الحرية والديمقراطية"، مع استمرار العلاقات الاقتصادية مع روسيا، وفك الاشتباك مع سوريا، بسحب القوات التركية من سوريا، وإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وفي إشارة إلى انطلاق التنافس بمرجعية الهوية اتخذ أروغان من كنيسة آيا صوفيا التي حوّلها إلى مسجد نقطة انطلاق انتخابية، واتخذ كليتشدار بالمقابل من قصر أتاتورك نقطة انطلاق.

الصراع السياسي بمرجعية "الهوية" أصبح يطبع الكثير من الصراعات، ليس في تركيا فحسب؛ بل في غالبية دول العالم، بما فيها الديمقراطيات الأكثر عراقة في الغرب

إشكالية الهوية، بما هي عليه أزمة في تركيا، تتجاوز الارتباط بكونها قضية انتخابية لدى تحالف أردوغان والموقف منها بالعودة إلى الخلافة العثمانية، في إطار دولة تلتزم بدستور علماني، مقابل تحالف المعارضة الذي يطرح العودة إلى استكمال مشروع أتاتورك العلماني الغربي، إذن هي ليست قضية خلافية حول برامج اقتصادية والإصلاح المرتبط بمواجهة الفساد، أو التقصير بمعالجة الزلزال، أو حتى بالموقف من اللاجئين، بل إنّها قضية تخاطب افتراضات "قومية" مسبقة عند جماهير الناخبين الأتراك بأطيافهم المختلفة، يتوخى التحالفان الوصول إليها بمرجعية المجد التاريخي والقومي للأمّة، وتتموضع في إطار المسكوت عنه الذي لا يتم التعبير عنه صراحة، لكن فجّرته هذه الانتخابات في ظل مناخات تتسم بشدة التنافس وقوة الاستقطاب، وهو ما دفع كليتشدار للإعلان عن أصوله، وأنّه من الطائفة العلوية في تركيا، في محاولة لاستمالة أبناء هذه الطائفة، فيما أصبح الحديث عن الأكراد الأتراك ليس بمرجعية "المواطنة" يتم بصورة أكثر علنية، وبالتزامن فإنّ التعبيرات عن هذا الصراع "الهوياتي" وجدت طريقها في تكرار إعلان أردوغان ارتباطه بالله، وأنّه يتلقى التعليمات من الله، في وقت يتلقى فيه خصمه التعليمات من الإرهابيين، وبصورة تندرج في إطار إسهاب بتأكيد مرجعيات كل هويّة.

ونظراً للعلاقات التاريخية بين تركيا، بوصفها الخلافة العثمانية الإسلامية، والأردوغانية الجديدة لاحقاً، والعلاقات التحالفية التي تم إنتاجها بين أردوغان ومجاميع الإسلام السياسي في الدول العربية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين (رغم التحولات التي شهدتها تلك العلاقة في العامين الأخيرين، بعد استدارات مارسها الرئيس أردوغان)، تجري متابعة هذه الانتخابات عربياً،  وبصورة تماثل ما يجري في أوساط الناخبين الأتراك، بين فريق إسلاموي عربي يؤيد ويناصر الخلافة الضائعة، وفريق بمرجعيات ليبرالية وقومية ويسارية عربية يتطلع لفشل أردوغان وفوز المعارضة، رغم أنّ الفريقين في تركيا وبمرجعية قومية لا تبرح بنيتهما العميقة في النظر إلى الشعوب العربية بوصفها جزءاً من الخلافة التابعة للسلطان.

المرجح أنّ هذا الانقسام الهوياتي بين الأتراك لن تُطوى صفحته مع إغلاق صناديق الاقتراع، بل يتوقع أن يشكل محطة أولى لمزيد من الانقسام

وبمعزل اليوم عن نتيجة الانتخابات، سواء فاز أردوغان أو كليتشدار، فإنّ المرجح أنّ هذا الانقسام الهوياتي بين الأتراك لن تُطوى صفحته مع إغلاق صناديق الاقتراع، بل يتوقع أن يشكل محطة أولى لمزيد من الانقسام، لا سيّما أنّ البنية الاجتماعية تمّت تعبئتها ومنحها رخصاً جديدة للتعبير، ليس عن هويتين كبيرتين، بل عن هويات فرعية متجذرة.

وفي الخلاصة؛ لعلّ الدرس المستفاد من الصراع الهوياتي، ليس في تركيا فقط وإنّما في غالبية دول المنطقة، وخاصة دولنا العربية، أنّه يطرح ضرورات ملحّة لا تحتمل التأجيل والتسويف، لاجتراح مقاربات جديدة، تأخذ بعين الاعتبار أوّلاً: تجذير مفاهيم المواطنة لتتحول معها تلك الهويات إلى تنوع ثقافي إيجابي لا ينتج صراعات طاحنة، فالمواطنة الحقة نقيض للهويات واستثماراتها السلبية، وربما كان في "الربيع العربي" عبرة باكتشاف أنّنا دول عربية، غالبية سكانها من العرب، وأنّنا دول إسلامية غالبية سكانها من المسلمين، وثانياً: فتح حوارات جادة في أوساط النخب العربية حول الفيدرالية، بعيداً عن الشيطنة، فهذه الفيدرالية ربما تضمن الحقوق والواجبات وتوزيع مكاسب التنمية، كما تحافظ على الهويّات بصورتها الاجتماعية والثقافية والتراثية، وبدون ذلك ستبقى هذه الهويات خناجر مسمومة يمكن لأيّ طرف انتزاعها واستخدامها.

مواضيع ذات صلة:

العرب المحاصرون بالأيديولوجيا .. دينية إيران وقومية تركيا

تركيا وقناع الإسلام السياسي في المنطقة العربية

الحياد أم الانحياز؟ قراءة أولية في مأزق تركيا مع الحرب الأوكرانية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية