"طيف إسطنبول": مجتمع تركي تحت حكم ديني استبدادي

"طيف إسطنبول": مجتمع تركي تحت حكم ديني استبدادي


13/01/2021

حقّق المسلسل التركي "Bir Başkadır"، أو "طيف إسطنبول" (كما يسمّيه الإعلام التركي الناطق بالعربية)، الذي عرضته شبكة "نتفليكس"، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أعلى مشاهدات على موقع الشبكة المنتجة، ليفتح الباب أمام دراما تركيّة من نوع مختلف، تناقش الحاضر بعيداً عن الدراما المعهودة، والتي غالباً ما تستخدمها الدولة كـ "بروباغندا إعلامية"، تمجيداً للتاريخ العثماني، مثلما شاهدنا في مسلسلات مثل؛ حريم السلطان، قيامة أرطغرل، السلطان عبد الحميد، وغيرها من مسلسلات أرادت تقديم تاريخ تريد الدولة التركيّة الحديثة تجميله في نظر أتباعها.

عن تركيا التي لا نعرفها

يكشف اسم المسلسل، الذي يسمى بالإنجليزية "Ethos"، وتعني روح الشعب، موضوع العمل الذي يتناول سكان إسطنبول الجديدة، وما يعيشه المجتمع من حالة فصام وانقسام، تسبّب بها التدين الظاهرّي، والتي تحيلنا بدورها إلى التفاوت الطبقي الذي يعيشه سكان العاصمة مثل سواها من المدن الكبيرة.

اقرأ أيضاً: كيف خُدعنا.. الدراما التاريخية التركية كمرجعية تاريخية

تدور القصة حول الشخصية الرئيسة، مريم (Öykü Karayel)، الشابة الفقيرة التي تمتهن العمل بالمنازل،  وتسكن مع أخيها ياسين (Fatih Artman)،  وزوجته المريضة روحيّة (Funda Eryiğit) وطفليهما.

عرضته شبكة "نتفليكس" في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي

تعاني مريم من حالات إغماء متكرر، وبعد الفحوصات الطبيّة التي لم تظهر أيّ سبب عضوي لحالتها، تمّ تحويلها إلى العيادة النفسية، التي تقودنا إلى الشخصية الرئيسة الثانية، الطبيبة النفسية بيري (Defne Kayalar)، والتي ستتحوّل بعد ظهور مريم في حياتها إلى مريضة، تذهب لطبيبة نفسية أخرى هي غولبين ((Tülin Özen، وبذلك تصبح كلّ من مريم وبيري وغولبين البطلات الثلاث، تتفرع منهنّ شخصيّات عدّة.

مسلسل "طيف اسطنبول" يدفع إلى إعادة التفكير في كلّ الأنماط التي نعرفها عن الهوية والعلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد والحجاب، والعلم والحداثة

تذهب مريم، الفتاة المحجبة المتدينة إلى الطبيبة النفسية سراً، دون أن تبلغ أخاها أو شيخ المنطقة (Settar Tanrıöğen)، الذي تمارس معه هي وعائلتها ما يشبه طقوس الاعتراف الكنسيّة، والتي تبتعد كلّ البعد عن الإسلام، لكنّ مريم وأخاها لا يجرؤان على فعل شيء في حياتهما سوى باستئذان الشيخ، الذي بمقتضى سلطته الدينية يدرك كلّ صغيرة وكبيرة في حياة سكان منطقته، لكنّ ظهور مريم في حياة بيري، الطبيبة الأرستقراطية التي تنتمي لعائلة ترفض التديّن وكافة مظاهره، ستعاني جرّاء عدم قبولها للفتاة التي نالت إعجاب طبيبتها لما تتمتّع به من ذكاء، لكنّها تظلّ عاجزة عن التعامل معها، وفق ما تربّت عليه من ازدراء ورفض للمتدينين، باعتبارهم دخلاء على المجتمع التركي، كما توضح المشاهد بين بيري ووالديها.

اقرأ أيضاً: تركيا تستبدل تصدير الثورة على الطريقة الإيرانية بتوظيف الإعلام والمسلسلات

تذهب بيري إلى غولبين في عيادتها، كلّ أسبوع بعد الانتهاء من جلسة مريم، لكنّ غولبين تكتم غضبها تجاه زميلتها، التي تراها متعالية وتعيش في برج عاجي، ولا تدرك جيداً طبيعة ما وصل إليه مجتمعها الذي تعيش فيه، لنكتشف لاحقاً أنّ غولبين تعاني اضطراباً شديداً في علاقتها بشقيقتها الأكبر، المحجبة والمتدينة، والتي بدورها تزدري غولبين المتبرجة، التي استقلّت عن منزل العائلة دون زواج، ومع ذلك فهي تعيش أزمة نفسية وتناقضاً داخلياً، يجعلها تذهب إلى الشيوخ لطلب العلاج، لكنّها تدخّن سرّاً.

قشرة التديّن والمرض النفسيّ

تعاني روحية، زوجة ياسين، من حالة اكتئاب سريريّ حادّ، لكنّ الزوج، الذي سنكتشف لاحقاً أنّه يعاني بدوره أزمة نفسية شديدة، بسبب القهر والتهميش والظروف المالية الخانقة، لا يؤمن بالطب النفسي، ويتداوى بالصلاة واستشارة الشيخ في كلّ صغيرة وكبيرة، بهذا يعتقد أنّه قد تعافى، لكنّه يعاني من داء شقيقته نفسه (كبت المشاعر)، والذي يحيل الجميع في النهاية إلى انفجار على طريقة (القشّة التي قسمت ظهر البعير).

برع الكاتب والمخرج التركي، بيركون أويا، أحد أشهر نجوم جيله، في الإمساك بخطوط الشخصيات والبناء عليها، ولما له من باع طويل في المسرح، فقد تنوّع السرد بين الحكي والحوار الثريّ، والتعبيرات الرمزية للأماكن والممثلين، الذين أجادوا جميعاً، إلى حدٍّ كبير، التحدّث بلسان شخصياتهم، لكنّ أهمّ ما أتقنه أويا في سيناريو العمل، هو الإمساك بحالة التديّن الأعمى، الذي تجسّد في شخص مريم ومن حولها من شخصيّات، دون الوقوع في فخّ القوالب النمطية، أو التعالي على الدين كظاهرة تنتجها قوالب اجتماعية واقتصادية معيّنة؛ فالنصّ الدرامي في حالة سرد وتشريح للجميع، دون تمييز بين الفئات الطبقية للمدينة؛ فمريم تعاني حالة اكتئابية سيئة، نتيجة كبت مشاعرها، تجاه ربّ عملها سنان "Alican Yücesoy"، الذي يعيش نمط حياة أوروبيّاً متحرّراً، وهو نموذج صادم بالنسبة إلى مريم، القادمة من بيئة محافظة مليئة بالعادات والتقاليد، والأمر نفسه ينطبق على زوجة أخيها التي تعاني نتيجة كبت مشاعرها بعد واقعة اغتصاب لها، دون أن تقتصّ من الجاني.

الكاتبة هناء عبد الفتاح لـ"حفريات": لم تعد إسطنبول المدينة الغنيّة، كما في المخيّلة العربية، بل هناك فجوة طبقية تتزايد كلّ يوم

أمّا الشيخ، الذي قدّمه الكاتب أيضاً كضحيّة، وليس جانٍ، فكان رجلاً هادئاً يعيش مع زوجته مسعودة (Gülçin Kültür Şahin)، وابنته خير النساء (Bige Önal)، وهي طالبة جامعية في قونيا، سنكتشف في آخر مشاهد المسلسل أنّها ابنته بالتبني، لكنّ الفتاة نفسها لم تكن تعلم، رغم تحريم الإسلام للتبني.

تعاني خير النساء من أزمة أكبر، فهي ابنة شيخ الحي، لكنّها مثلية الجنس، تخلع الحجاب عندما تذهب إلى دراستها الجامعية، وترتاد الملاهي الليلية، وحين تعود إلى منزل العائلة تعيش حياة أخرى غير ما اختارته لنفسها، لكن بعد وفاة والدتها تقرّر الفتاة مواجهة والدها برفق وهدوء، وتخلع أمامه الحجاب، في مشهد يجعل طرفيه ضحية لقوى أكبر منهما، اجتماعية ودينية وثقافية، لكنّها لم تقع بالكاتب في فخّ التنميط وقولبة الخير والشرّ، والجاني والمجني عليه.

اقرأ أيضاً: من نور إلى أرطغرل (3) .. دراما العثمانلي تغزو العرب بلغتهم

نجح المسلسل، إلى حدٍّ كبير، في توظيف كافة الأدوات الفنيّة لإيصال الرسالة، بداية من التصوير، الذي غالباً ما كان يتمّ داخلياً، إلّا في منطقة مريم الفقيرة، التي اتّسمت ببساطة منازلها، مع إضاءة وألوان مبهجة، ومطلة على الغابات وحدائق منزلية صغيرة ذات أشجار مثمرة، أمّا منازل الأثرياء (مثل بيري وسنان)، فظهرت ككتل خرسانية صماء، منّمقّة حدّ الرتابة، بإضاءة رمادية تعكس روح الجمود والملل الذي تعيشه الشخصيّات.

لماذا أحبّ العرب "طيف إسطنبول"؟

كشف المسلسل للمجتمعات العربية تركيا أخرى، غير التي رسّخت في أذهانهم، عبر سير السلاطين العثمانيين، أو مسلسلات الاستهلاك المدبلجة باللهجة السورية، التي تضجّ بها الفضائيات العربية، وهو ما عبّر عنه أستاذ الدراسات العربية الحديثة بجامعة "كامبريدج"، الدكتور خالد فهمي، عبر منشور له قائلاً: "تناول المسلسل لمشكلات المجتمع التركي، عميق ومركب، يدفعنا إلى إعادة التفكير في كلّ الأنماط التي نعرفها عن الهوية والعلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد والحجاب، والعلم والحداثة، وهي أمور تشترك بين كافة المجتمعات الإسلامية"، وهو ما تؤكّده الكاتبة المصرية المقيمة في تركيا، هناء عبد الفتاح، التي أشادت بالمسلسل الذي لا يخاطب المجتمع التركي فحسب، بل نشترك فيه جميعاً، كسكان الشرق الأوسط، يجمعنا تاريخ وثقافة ودين واحد.

وتضيف، في تصريحها لـ "حفريات": "أعيش في تركيا منذ سنوات، لكن يمكنني القول إنّ هناك تغيّرات كبيرة ظهرت خلال السنوات الأربع الأخيرة؛ تديّن متزايد مع زيادة الفقر الآخذة في التفاقم، فلم تعد إسطنبول المدينة الغنيّة، كما في المخيّلة العربية، بل هناك فجوة طبقية تتزايد كلّ يوم، وهذا ما برع المسلسل في إيصاله عبر رسائل بسيطة، لكنّها فعّالة للغاية، وأكثر ما يمكن لمسه، بالنسبة إليّ، هو الواقعية الكبيرة التي قدّمها المسلسل، الذي جسّد بالفعل روح الشعب، وحمل آلامه، دون التعالي أو التسفيه أو ممارسة النقد الهدّام، لكنّه مسلسل من إسطنبول وإلى سكان إسطنبول".

اقرأ أيضاً: الدراما التركية.. هل هي وسيلة "العدالة والتنمية" للتمدّد الناعم؟

كشف "طيف إسطنبول" وجهاً آخر لحياة المجتمع التركي، بالنسبة إلى المجتمعات العربية، وجهاً يشبه مجتمعاتهم أكثر مما يختلف معها، ويتجلّى فيه التفاوت الطبقي الكبير وحالة العزلة التي تعيشها الطبقات، مبتعدة عن بعضها، داخل فقاعات هشّة، ما يحيلنا في النهاية إلى وضع اقتصادي وسياسي، ربما بدأ في مسار جيد مطلع الألفيّة الجديدة، لكنّه يسير على درب التشظّي والانهيار، كما حاول المسلسل أن يقدّم مجتمع إسطنبول الجديد، تحت حكم دينيّ استبداديّ.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية