عبد القادر الطائيّ: العرب لا يفهمون طبيعة السياسة الأمريكيّة

عبد القادر الطائيّ: العرب لا يفهمون طبيعة السياسة الأمريكيّة

عبد القادر الطائيّ: العرب لا يفهمون طبيعة السياسة الأمريكيّة


05/12/2019

أجرى الحوار: خالد بشير


يرى أستاذ العلاقات الدوليّة في جامعة الشرق الأوسط بعمّان، الدكتور عبد القادر الطائيّ؛ أنّ العرب لا يفهمون طبيعة السياسة الأمريكيّة، وأنّ الاهتمام الأمريكيّ تجاه منطقة أو إقليم ما قائم بالأساس على حسابات المصالح، وفي هذا الحوار مع "حفريات" يقدّم الطائيّ تحليلاً للأسس التي تقوم عليها الحسابات الأمريكيّة تجاه منطقة الشرق الأوسط، وعلى أيّ أساس ينشأ ويزداد أو يتراجع اهتمامها بها.

اقرأ أيضاً: ما حلمت به أوروبا من تخريب المعنى يتحقق في أمريكا
حسابات المصالح في المنظور الواقعي الأمريكي تأتي قبل كلّ شيء، هذا ما يوضحه الطائيّ، وفيه يعيد مساءلة وتقييم مقولة الانسحاب والانكفاء الأمريكي من المنطقة، ويشير إلى جوانب أخرى من طبيعة العلاقة الإيرانية الأمريكية لا تظهر عادةً على سطح العلاقة التي يطغى عليها في الفترة الحالية التوتر، ويلفت إلى بعض أسسها والحسابات التي تقوم عليه، مع وقفة على الأسس التي تنطلق منها السياسات الإيرانية والتركية تجاه المنطقة. ويبين الطائيّ أهم العوائق التي تحول دون تحقيق التقارب والتكامل على المستوى العربي. إنه حوار حول تقاطعات السلاح والنفط والاقتصاد في المخططات الإستراتيجيّة إزاء المنطقة.

 


يذكر أنّ الطائيّ متخصص في العلاقات الدوليّة والإستراتيجية والسياسة الخارجيّة، وله عدة كتب في هذه الاختصاصات، منها: "النظريات الجزئيّة والكليّة في العلاقات الدولية"، و"المدخل إلى دراسة الإستراتيجية"، و"الفكر السياسي والإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكيّة".
هنا نص الحوار:
هل يمكن الحديث عن تراجع وانسحاب وانكفاء أمريكي في المنطقة، مقابل الحديث عن تمدّد صيني اقتصادي، وحضور روسي عسكريّ متزايد؟ وإلى أيّ مدى هذا القول علمي وواقعي أم أنّه مجرد تعبير عن رغبات؟

بدايةً لا بدّ من التطرق إلى سياق دخول الولايات المتحدة الأمريكية وامتداد نفوذها إلى المنطقة، وهنا نشير إلى أنّ دخولها جاء في فترة متأخرة نسبيّاً، إذا ما قارنا ذلك بقوى مثل بريطانيا وفرنسا؛ فبريطانيا مثلاً كانت حاضرة في منطقة الخليج العربي منذ مطلع القرن السابع عشر الميلادي، خلافاً للدخول الأمريكي الذي تأخر إلى القرن العشرين، ودخول الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن بالمعنى الاستعماري المتعارف عليه، إنّما كان بالمعنى المصلحيّ النفعيّ، وذلك بالتحديد بعد اكتشاف النفط وازدياد أهميته.

 

الولايات المتحدة لم تنسحب من المنطقة بمعنى الكلمة، إنما كان هناك انتباه جديد إلى مصالح أخرى أكثر أهميّة

في مرحلة الثلاثينيات؛ دخلت أمريكا في صراع مع بريطانيا، ومن الحجج التي كانت تسوقها هو أنّ بريطانيا كانت تملك حصة كبيرة من نفط الخليج فأين حصّة أمريكا من هذا النفط؟ وبعد دخولها، انحصر النفوذ الأمريكي في السعودية، بينما كانت دول الخليج الأخرى تحت النفوذ البريطانيّ، وهنا نلاحظ أنّ تنامي الدور الأمريكي في منطقة الخليج العربيّ لم يبرز إلّا بعد خروج بريطانيا من الخليج عام 1969.
ازداد الاهتمام العالمي بالنفط في مرحلة السبعينيات، بسبب أسعاره الرخيصة آنذاك، وفي تلك المرحلة تضاعفت أهمية منطقة الخليج العربي، حيث إنّ اعتماد أوروبا على النفط القادم من الخليج العربية كان يقدر بنسبة 65%، فيما وصلت نسبة اعتماد اليابان عليه إلى نحو 80%، وهنا جاء العام المفصليّ، عام 1973م، مع وقوع حرب تشرين لأول (أكتوبر)، وقرار "الأوابك" (منظمة الدول العربية المنتجة للنفط) توظيف سلاح النفط في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بغرض دفعها باتجاه الضغط على "إسرائيل" للانسحاب من الأراضي المحتلّة عام 1967، وتطبيق القرار "242"، كما جاء في العام ذاته قرار تأميم النفط العراقي، باعتبار أنّ النفط يمثّل ثروة وطنيّة وقوميّة يمكن توظيفها كسلاح في المعركة لخدمة القضايا القوميّة.

اقرأ أيضاً: "البغدادي"... فكرة تدرك أمريكا أنّها لم تمت
كلّ ذلك ضاعف من الاهتمام الدوليّ، الأمريكيّ خاصّة، بمنطقة الخليج العربي، ولفت انتباههم إلى ظهور العامل النفطيّ، إذا ما استثمر من قبل العرب، وهنا أذكر مقالة لكيسنجر، نشرت عام 1975 في مجلة "نيويورك تايمز"، قال فيها ما معناه ينبغي على دول الغرب ألا تسمح بتكرار تجربة العام 1973، وألا يسمحوا للعرب بأن يمسكوا بعنق الغرب الصناعي؛ ويقصد بذلك ألا يسمحوا للعرب باستخدام نفطهم ضدّ الغرب الصناعيّ.

الإعلان عن عدم توفر الوقود "الولايات المتحدة".. إثر القرار العربي بحظر تصدير النفط عام 1973

إذاً، هل يمكن القول إنّ الاهتمام الأمريكي بالمنطقة كان منحصراً بمسألة النفط؟
بالتأكيد لم يكن منحصراً بالنفط، وإن كان النفط يأتي في مقدمة العناصر؛ جانب أساسي من الاهتمام كان متعلقاً بالبعد الإستراتيجي؛ حيث إنّ حضور النفوذ الأمريكي كان ضرورياً لمواجهة الاتحاد السوفييتي، في إطار الصراع الأيديولوجي العالمي بين القطبين، الذي برز على السطح بعد الحرب العالمية الثانية؛ إيران مثلاً كانت تعدّ دولة تماسّ مع الاتحاد السوفييتي، وكان الاتحاد السوفييتي ينظر لها باعتبارها المعبر والمنفذ المحتمل إلى الخليج العربي، وكان من غير الممكن للولايات المتحدة أن تفرط بعلاقاتها الإستراتيجيّة معها.

اقرأ أيضاً: إيران تحتجّ على تدخلات أمريكا بشأن الاحتجاجات
وقد حاول السوفييت استغلال صعود التطلعات القوميّة والاستقلاليّة في المنطقة، وإقامة العلاقات معها لتكون جسراً لنفوذهم، في المقابل كانت الإستراتيجية الأمريكيّة في المنطقة آنذاك ترتكز على ما أسمته "العمودين"، وكان يطلق عليها اسم "إستراتيجيّة العمودين"، ومضمونها التحالف الإستراتيجي مع السعودية وإيران.

القوة العسكرية أصبحت عامل هيبة أكثر مما هي أداة من أدوات التغيير والفعل في السياسة الخارجية

ومع دخول عقد السبعينيات حسمت مسألة صراع النفوذ في المنطقة ضمناً، وأصبحت واحدة من المناطق غير القابلة لتمدّد الاتحاد السوفييتي فيها، وهنا جاء مبدأ الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر، إثر التدخل السوفييتي في أفغانستان عام 1979، والذي أشار بشكل واضح إلى أنّ منطقة الخليج العربي خطّ أحمر، وإذا تدخلت أيّة قوة فإنّ الولايات المتحدة ستستخدم كلّ ما لديها من قوة للمواجهة.
ما أُريد قوله هو أنّ الإستراتيجيّة الأمريكيّة تنظر إلى منطقة الخليج العربي من منظورين؛ الأول النفط، والثاني الالتزام بمبدأ حماية الحلفاء، ولكن لكلّ منهما مقتضياته التي تحتّم على الولايات المتحدة التدخّل بالقوّة لحماية مصالحها ومصالح حلفائها، إن اقتضت الضرورة، وأركّز هنا على كلمة "إن اقتضت الضرورة".

جون كينيدي وزوجته في استقبال الشاه محمد رضا وزوجته عام 1962

بالحديث عن العلاقة الأمريكية مع إيران؛ إلى أيّ حدّ اختلفت العلاقة بعد ثورة 1979؟ وهل انتقلت إلى مرحلة القطيعة؟
لا أوافق على توصيف العلاقة بينهما بـ "القطيعة"؛ إذا نظرنا إلى مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، خلال الثمانينيات، نجد أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت تنتظر من الذي سيخرج منتصراً من الحرب، ولم تبدِ انحيازاً لأيّ من الطرفين، لم تقرّر الانحياز إلى الجانب العراقي، وترجيح كفّته بما يؤدي إلى انهيار نظام الحكم في إيران، وذلك عائد إلى أهمية إيران وموقعها الإستراتيجي، آنذاك كانت النظرة ما تزال أنّها قوة لا ينبغي التفريط بها وتركها لصالح عدو أيديولوجي (الاتّحاد السوفييتي) ضمن صراع الحرب الباردة، وهنا جاءت قضية "إيران كونترا"، فضيحة صفقات ومبيعات الأسلحة الأمريكية إلى إيران، إذاً نستنج أنّ إيران لم تخرج من الاهتمام الأمريكي، حتى بعد التغيّر الأيديولوجي، إثر ثورة عام 1979.
لكن، ماذا عن أزمة احتجاز الرهائن داخل السفارة الأمريكيّة في طهران؟ وماذا عن خطاب "الموت لأمريكا" الذي رفعه الخميني بعد الثورة؟
قضية احتجاز الرهائن جاءت في بداية الثورة، وضمن سياق أحداثها الأولى، ولكن هناك تطوّرات لاحقة أخذت بالحسبان المصالح الإستراتيجيّة، وتجاوزت مثل هذه الأزمات، أما عن خطاب الموت لأمريكا؛ فهو ذو طابع دعائيّ وجزء من تسويق الثورة لشعوب المنطقة التي لها معاداة لمواقف أمريكا وأدوارها في المنطقة.

اقرأ أيضاً: هل إيران عنوان التحدي الأبرز لأمريكا؟
مثل هذا الشعار يعني القطيعة، لكن هذا لم يحدث، العلاقات بين البلدين استمرت؛ لأنّها تقوم على مصالح واعتبارات أهمّ، ولننظر هنا إلى الاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران، عام 2003، على التعاون بدخول قوات الولايات المتحدة لاحتلال العراق، وتأمين إيران دخول القوّات الأمريكيّة من الجبهة الشرقية، وذلك مقابل السماح لإيران بإعادة إحيائها للبرنامج النووي الإيراني على أن يكون سلميّاً، ولكن طبعاً عندما تطوّر بعد عام 2006، وأصبح عملاً جاداً لإنتاج وامتلاك سلاح نووي، بدأت بوادر الخلاف، وذلك مع ظهور مسألة إمكانيّة تحوّل إيران إلى قوة نوويّة، وهنا جاءت المحادثات السريّة بين طهران وواشنطن، والتي تضمنت عرضاً إيرانياً، مضمونه إمكانيّة إيجاد علاقات وتفاهمات جديدة، وذلك مقابل تخفيف ضغط حزب الله على "إسرائيل"، كما جاء في كتاب "حلف المصالح المشتركة" لمؤلفه "تريتا بارسي"، والذي اعتمد على مصادر استخباريّة موثّقة.

تريتا بارسي مؤلّف كتاب "حلف المصالح المشتركة"

عودةً على سؤال الانسحاب؛ هل نستطيع اعتبار أنّ تغيّر اعتبارات النفط والإستراتيجيا كانت الدافع وراءه؟
لا أرى أنّ الولايات المتحدة انسحبت من المنطقة بمعنى الكلمة، وإنّما كان هناك انتباه والتفات جديد إلى مصالح أخرى أكثر أهميّة، وذلك بعد الاطمئنان بأنّ كلّ القوى في المنطقة باتت موالية وحليفة، وأنّه لا يوجد هناك من يتحدّى الولايات المتحدة ونفوذها في المنطقة، سوى الإعلانات الدعائيّة لإيران في مواجهة "الشيطان الأكبر".
هذا التحوّل في السياسات تجاه المنطقة بدأ منذ عهد الرئيس بوش الابن، واستمرّ في عهدَيْ أوباما ودونالد ترامب، وهو مستند بالأساس إلى التقرير الإستراتيجي للأمن القومي الأمريكي، الصادر عام 2006، والذي أوصى بأن تلتفت الولايات المتحدة إلى مصالحها الحيويّة أيضاً في شرق آسيا، تحديداً الصين، وألّا تتدخل عسكرياً في الصراعات البينيّة في المنطقة العربيّة، وألّا تنزلق مرة ثانية في صراعات عسكريّة، كما حصل في حرب العراق واحتلاله عام 2003، وألّا توظّف كلّ قوّتها في صراعات إقليميّة مماثلة، وأنه ينبغي أن تخرج من منطقة "الشرق الأوسط" بثقلها العسكريّ، مع الاستمرار في دعم حلفائها، لكن دون التورّط عسكريّاً.

اقرأ أيضاً: لماذا يميل مسلمو أمريكا إلى اليسار؟
وعندما جاءت إدارة أوباما، حصلت أزمة جورجيا، مع تدخّل روسيا عسكرياً فيها عام 2008، وكان السؤال المطروح في حينها، ما الذي ستكسبه الولايات المتحدة جراء التدخّل في صراع مثل هذا النوع؟ كانت الإجابة: لا شيء، هذا هو مضمون التوجّه الجديد في الفكر الإستراتيجي الأمريكي، وهو مدعوم من مراكز بحوث ودراسات: عدم التورّط عسكرياً، وإعادة تعريف وتحديد مفهوم الأمن القومي الأمريكي، ومفهوم المصالح الأكثر حيويّة، والمصالح المهمة، في الفكر الإستراتيجي الأمريكي، بناء عليه؛ صنّفت المصالح إلى مصالح عُليا تعدّ مصالح حيوية، مثل تحدّي الأمن الأمريكي، والمجتمع الأمريكيّ، وتحدي الأراضي الأمريكيّة، وتحدي الاستقلال والسيادة الأمريكيّة، بما في ذلك الهجوم المباشر على القوّات العسكريّة الأمريكيّة المنتشرة حول العالم، وهناك المصالح الأخرى، المهمة أيضاً، لكنّها لا ترتقي إلى مرتبة المصالح الأكثر حيوية.
هل بالإمكان تحديد العوامل التي أدّت لبلورة التوجّه والسياسة الأمريكيّة الجديدة إزاء المنطقة؟
نعم، هناك ثلاثة عوامل أساسيّة: من ناحية تراجع أهمية النفط، بسبب زيادة الإنتاج المحلي من النفط في الولايات المتحدة الأمريكيّة، فلم يعد مصلحة حيوية، وإنما انتقل إلى مرتبة المصلحة المهمة.
والعامل الثاني، تمثّل في بروز الصين كمنافس وقوة اقتصاديّة كبرى، فعلى ضوء مؤشرات النمو الاقتصادي للصين؛ تبيّن أنّها ستصبح قوة اقتصاديّة معادلة أو لنقل مقاربة نسبيّاً للولايات المتحدة، لكن مع بقاء الولايات المتحدة صاحبة الزعامة على صعيد القوة العسكريّة، وإن كان الإدراك ازداد بأنّ القوة العسكرية أصبحت عامل هيبة أكثر مما هي أداة من أدوات التغيير والفعل في السياسة الخارجية، في حين أنّ القوة الاقتصادية حاضرة كقوّة ناعمة ذات فاعليّة أكبر، ويمكن أن تستخدمها الولايات المتحدة لفرض سياساتها وأجنداتها، إذاً؛ هناك مصالح وتحديّات جديدة، كالصين التي تمثل تحدياً كبيراً، وهنا نجد عقوبات ترامب للصين، التي هي عقوبات اقتصاديّة للحدّ من حركة الصين وانتشار نفوذها كقوة اقتصادية.

اقرأ أيضاً: الهجوم على أرامكو: لماذا تخبئ أمريكا النفط في كهوف تحت الأرض؟
قوة الصين جاءت من كونها لم تطرح نفسها كدولة تريد الهيمنة، وإنّما طرحت نفسها كدولة عالم ثالث، تريد المشاركة، وذلك كي تحظى برصيد قبول، على مستوى الشعوب والقيادات، في دول العالم الثالث. كما أنّها لا تمتلك انتشاراً أيديولوجياً، وهي ملتزمة بالجانب الدبلوماسيّ، ولا توجد عندها ميول قويّة للتورّط عسكريّاً في صراعات ونزاعات دول العالم الثالث، كما أنّها ليست طرفاً في الصراع العربيّ الإسرائيليّ، وليس عندها التزام عالميّ كما كان الاتحاد السوفييتيّ، الذي كان حاضراً في كلّ صراع دوليّ وإقليميّ تقريباً.
العامل الثالث: الدافع وراء تبلور هذا التوجّه الجديد، كان اطمئنان واشنطن على المنطقة ودولها، من ناحية الاطمئنان إلى أنّ أيّاً منها لم يَعُد يشكّل تهديداً لنفوذها، بل إنّ دول الخليج والدول العربيّة هي التي في حاجة إليها ومعتمدة عليها؛ حيث أصبحت أيّ دولة عربيّة تشعر بالتعرض لخطر تهرع للولايات المتحدة الأمريكيّة لنجدتها وحمايتها؛ أيّ إنّ معادلة الأمن والاعتماد المتبادل أصبحت معكوسة في بعض جوانبها.

قوات عسكريّة أمريكيّة في كوريا الجنوبيّة

لكن ما يزال هناك تواجد وانتشار عسكري أمريكي في المنطقة، كيف يمكن تفسيره ضمن هذا التوجّه؟
نعم، لم تنسحب أمريكا عسكرياً من المنطقة، هي موجودة في الخليج، وفي العراق، وفي سوريا، لكن لو نظرنا مثلاً لتواجدها في العراق أو سوريا، نجده تواجداً عسكرياً رمزياً، بالقياس مع القوة الكبرى للولايات المتحدة الأمريكية، القوات الأمريكية هنا هي مجرد عصا مرفوعة في وجه كلّ من يشقّ عصا الطاعة، ويلعب بذيله، إن صحّ التعبير، في مواجهة الولايات المتحدة، هو تعبير عن النفوذ أكثر منه أداة لمباشرته.
لكن، فلننظر مثلاً إلى عدم تدخل أمريكا عسكرياّ بعد ضربات أرامكو، في أيلول (سبتمبر) الماضي، طبعاً كانت هناك حالة استغراب ودهشة عند الدول والنخب العربيّة؛ لعدم إقدام الولايات المتحدة على اتخاذ ردّ فوري وسريع حِيال إيران. في الواقع؛ عدم الردّ هو عين الواقعيّة الأمريكيّة، هي لا تريد تعريض مصالحها للخطر؛ التصوّر الإستراتيجي الأمريكي، في تقديري، كان مبنيّاً على افتراض أنّها إذا توجهت بعمل عسكري ضد إيران سوف تنفتح عليها أربع جبهات: الخليج، والعراق، وسوريا، ولبنان. طُرحت فكرة توجيه ضربة، وإن كانت محدودة من ناحية الأهداف، ومن ناحية الأثر، لكنّ الخبراء الإستراتيجيين نصحوا ترامب بعدم التورط عسكريّاً، وبالفعل كان تصريحه صادقاً عندما قال: "تراجعنا في الدقائق العشر الأخيرة"، بعد إسقاط إيران طائرة الاستطلاع الأمريكية، في العشرين من حزيران (يونيو) الماضي.

اقرأ أيضاً: ضرب منشآت النفط السعودية.. النيران تتسع وأمريكا تتهم إيران والعراق ينفي
الشجاعة من المنظور الأمريكي لا تتطلب أن تغامر وتلقي نفسك بالتهلكة؛ واشنطن ترجّح العقلانية في العمل السياسي، الذي يقوم على تجنب الخسائر، هذا ما نجده عند سماع الخطب التي ألقى بها بومبيو وترامب، فهما يؤكدان: "إذا تعرضت مصالحنا"، إنّهم يعنيان: إذا تعرض أيّ جندي أمريكي، أو أي هدف، أو مرفق أمريكيّ، للهجوم، فإنّنا سوف نرد، لا إذا تعرضت مصالح الحلفاء، وهذا هو ما تدركه إيران، التي تلعب بذكاء وتمتلك دبلوماسية عالية، وتحسن استخدام أوراق الضغط.
علينا أن نفهم كيف يفكّر الأمريكيون؛ هم لا يرتبون سياستهم وفق ما نريد ونتمنى، إنما وفق ما يريدون هم، ووفق ما تقتضيه مصالحهم، في الحقيقة هناك عدم كفاية في العقل العربي في تفهّم طبيعة السياسة الأمريكية، الدول العربية تريد من أمريكا أن تستجيب لمصالحها، لكن في الواقع هي تتحرك وفقاً لمصالحها هي. السياسة الواقعية الأمريكية قائمة على المصالح، وهنا يُطرح السؤال: هل من الواقعية أن تغامر الولايات المتحدة دون حسابات؟ ما نفهمه نحن، كعرب، من الواقعيّة؛ أنّه ينبغي على أمريكا أن تستجيب لما نريد، لكن في الواقع هي لا تفعل ذلك، إنّها تعمل في ضوء ما هي تريد.
وبالتأكيد؛ فالانسحاب العسكري من سوريا مدروس، لا تتوقع من الولايات المتحدة أن تنسحب دون أن تحسب لكلّ خطوة حسابها الخاصّ، في تقديري، خير من عبر عن الواقعية في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، هما أوباما وترامب.

ترامب في زيارة للقوّات الأمريكيّة بالعراق في كانون الأول 2018

"الناتو العربي" مقولة تتردّد، هل هو خيار ممكن وواقعيّ؟
إطلاقاً، هو من باب الخيال، قبل الناتو العربي، هناك جامعة الدول العربيّة، وهناك معاهدة الدفاع العربي المشترك، ومعاهدة التعاون الاقتصادي المشترك، ولم يتم تفعيل أيّ منها. نعم، تتردّد فكرة "الناتو العربي" كقول فقط، لكن من الناحية الواقعيّة، في تقديري، هي غير ممكنة؛ هذه المسألة تحتاج إلى التزامات يقتضيها التعاون العسكري، هي بحاجة لتخطيط مشترك، وتغليب المصالح العامة للحلفاء على المصالح الخاصّة، وهو ما يصعب على الدول العربيّة التضحية بها. أيضاً مثل هذا الحلف سيكون في حاجة إلى موافقة ومباركة دوليّين، ثم هناك تساؤلات عدّة: ما هي حدود تحرّك هذا الحلف؟ هل هو متوجّه مثلاً تجاه إيران؟ لا توجد اليوم سياسة عربية موحدة تجاه إيران.
وعموماً؛ لا يوجد في تقاليد السياسة العربيّة ما يجعل المرء متفائلاً حول مسألة "التضامن العربي"، أو تشكيل "ناتو عربي".
بالحديث عن الانسحاب من سوريا، وتزامنه مع عملية "نبع السلام" التركيّة، هذا يقودنا للدور التركيّ في المنطقة، وتوتر العلاقات بين تركيا وأمريكا، هل ترى أنّ التحالف بينهما انتهى؟
الدور التركيّ في المنطقة هو صناعة الجغرافيا؛ جغرافية تركيا كانت تحتّم عليها أن تلعب دور الحاجز في مواجهة روسيا والاتحاد السوفييتي، منذ بروز المسألة الشرقيّة والدور الوظيفيّ لتركيا (وقبلها الدولة العثمانية) هو الحيلولة دون التمدد الروسيّ، وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ما يزال الدور الوظيفي في مواجهة روسيا قائماً.

الوجود العسكري الأمريكي الحالي في الشرق الأوسط رمزيّ، وهو مجرد عصا مرفوعة في وجه من يشقّ عصا الطاعة

نعم، هناك خلافات بين واشنطن وأنقرة، هناك توترات، لكن لا ترتقي إلى حالة صراع، وهي ليست كما تصوّر إعلامياً، الإعلام يضخّم الخلافات، لننظر إلى قضية المنطقة الآمنة في سوريا، نجد أنّ الولايات المتحدة لم تعارضها، وذلك عائدٌ إلى أنّها تتفهم القلق التركي من احتمالات قيام الدولة الكرديّة، فيما جاءت ردّة فعل الأكراد باعتبار الموقف الأمريكي خيانة لهم، هم يفكّرون بالعقلية العربيّة ذاتها، يريدون أمريكا حليفاً مطلقاً، أما تركيا فقد فهمت وأدركت السياسة الأمريكية، في الحقيقة؛ إنّ الأتراك لهم خبرة أكبر في السياسة الخارجية.
أما بخصوص تفسير العلاقة المتزايدة مع روسيا، فإنّ تركيا، كما يُقال، تلعب على الحبلين، الروسي والأمريكي، لا يعني ذلك أنّها ستميل إلى جانب إحداهما دون الآخر، هي لن تفرّط بروسيا أو الولايات المتحدة. في الواقع لا وجود لشيء اسمه القطيعة وإنهاء العلاقة في العلاقات الدولية؛ هذه محض نظرية افتراضيّة، دائماً هناك قنوات للتواصل والحوار مهما بلغ الخلاف.
بالحديث عن التمدّد والنفوذ التركي في العالم العربي؛ هل هو مُقبل على مزيد من الصعود أم الانحسار؟
تركيا أدركت، منذ مطلع الألفية، أنّ خياراتها وحظوظها في الساحة العربية أكبر منها في الاتحاد الأوروبي، وهنا تبلور خيار تركيا بالتوجه نحو الدول العربية، ولكن ليس بنفس إسلامي متشدّد، من دعم جماعات وما إلى ذلك؛ إنّ هذا التمدّد والنفوذ مقترن بمدى اعتداله، حيث تكون سياسة قائمة على أساس المصالح المشتركة، العرب الآن يبحثون عن مستثمرين، يبحثون عن قوى إقليمية مساندة لهم، وأعتقد أنّهم يجدون مع تركيا فرصة مناسبة، هذا ما أراه، خيارات وفرص التعاون بين الأتراك والعرب اقتصادية بالأساس، بعيداً عن مقولات واعتبارات أيديولوجية وفكريّة مثل دعم الإسلام السياسي أو العثمانيّة الجديدة.
بالحديث عن التمدّد والنفوذ الإيراني؛ هل ستكون العقوبات الاقتصاديّة الحاليّة على إيران سبباً في انحساره؟
مبدأ تصدير الثورة مبدأ أصيل في النظام الإيراني، منذ مجيئه عام 1979، وهو مستمرّ حتى الوقت الحالي، وقد استفادت إيران واستغلّت المناطق الرخوة والأزمات لنشر وتمديد نفوذها في المنطقة العربيّة، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وهو تمدّد موجود وقائم بالفعل.

اقرأ أيضاً: لماذا تم إخفاء تاريخ مسلمي أمريكا القدماء؟
الآن، هناك انتباه متزايد للدور الإيراني حتى على مستوى الشعوب، وفي الحقيقة هناك نقطة ضعف في هذا النفوذ تكمن في أنّ من يقودونه هم أحزاب وقوى مؤدلجة، لا الشعوب؛ بمعنى أنّ هناك أحزاباً وقوى مرتبطة بإيران، أما على مستوى القواعد الشعبيّة فهناك وعي متزايد، وأخذ يتبلور حول فهم طبيعة الدور الإيراني في المنطقة، وهو دور طائفيّ تفتيتيّ.
العقوبات الاقتصادية موجودة، وقد أثرت فعلاً، ولكن هناك منافذ أخرى لا تستطيع الولايات المتحدة أن تمسك بها، وجديرة بأن تنتبه إليها إذا كانت جادّة في سياسة "الحد الأقصى" من العقوبات، وأهمها العراق، وهنا نتساءل، بنوع من الاستغراب، حول عدم إخضاع الولايات المتحدة البنك المركزي العراقي للمراقبة؟
نعم، إيران تعاني اقتصادياً، وكلّما طال الزمن ضاقت خيارات إيران، وبات الإنفاق الخارجي أكثر إرهاقاً، الآن إيران تراهن على الزمن وتنتظر رحيل ترامب، وهنا نسمع مثلاً التصريحات القوية الأخيرة من طهران التي تترافق مع السير بإجراءات عزل ترامب.

 

في الختام، وبالحديث عن النظام الإقليمي العربي ومستقبله؛ هل هناك إمكانية لتحقيق تقارب من جديد؟ وما هي فرص استعادة تماسك النظام، أم أنّ العوائق أكبر من ذلك؟
الاتحادات والاتجاه نحو العمل العربي المشترك ضدّ منطق السياسة الأمريكيّة والإسرائيلية؛ قناعتهم أنّه لا يجوز أن يكون هناك تقارب عربي على أي مستوى، نعم هناك نوع من التقاربات بين العواصم أحياناً، ولكن ليس على مستوى اتحاد إستراتيجي، هذه التقاربات تبقى في إطار العلاقات الثنائية، هناك شروط للتعاون الإستراتيجي ينبغي توافرها؛ من التعاون الأمني إلى العسكريّ، وهي غير متوفرة أبداً، بل إنّ آخر قلاع الاتحاد العربي المتمثلة في مجلس التعاون الخليجي باتت في حالة تصدّع.

نقطة الضعف في النفوذ الإيرانيّ تكمن في أنّ من يقودوه هم أحزاب وقوى مؤدلجة لا الشعوب

الحوار حول تعزيز التعاون والعمل المشترك موجود، لكنّه طرح على مستوى المثقفين فقط، الانتقال بهذا الخيار إلى أرض الواقع في حاجة إلى مصداقيّة ذاتية على مستوى القيادات العربيّة؛ إذ أمامها سؤال كبير: هل هي مقتنعة بالتضحية بمصالحها الخاصّة؟ إذاً المسألة في حاجة إلى توفير أرضيّة وقاعدة راسخة لإنجاز هذا المطلب الضخم إستراتيجياً، وفي ظلّ الأوضاع الراهنة، من الانقسامات الداخليّة والبينيّة بين العرب، فضلاً عن الاختراقات الخارجيّة، يبدو لي أنّ الأمور أصعب لإنجاز بنية نظاميّة بصيغة نظام إقليميّ عربيّ؛ ذلك أنّ الأمر، وكما أشرت، يرتبط وثيقاً بمصداقية الإرادات العربيّة القياديّة قبل كلّ شيء، وفي تقديري؛ الفرصة الآن مواتية ومشجعّة لإنجاز هذا الخيار المصيري، لكن متى تتوحد الإرادات لتحقيقه؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية