غودار: عبقري جامح مزّق قواعد السينما

غودار: عبقري جامح مزّق قواعد السينما

غودار: عبقري جامح مزّق قواعد السينما


29/09/2022

ترجمة وتحرير: محمد الدخاخني

مات آخر حداثيّ عظيم في القرن العشرين. في آخر حياته، أصبح جان لوك غودار أشبه بزعيمٍ كاريزميٍّ - ولكن منعزل - لجماعة من المعجبين. كان الأمر كما لو أنّ تشي جيفارا قد تفادى الاغتيال وشاخَ مختبئاً في الغابة البوليفيّة: أقلّ ظهوراً، أقلّ أهميّة، لكنّه لا يزال قادراً على تدبير - من بعيد - عمليّات سطو على البنوك وأعمال مقاومة مسلّحة مذهلة تُذكّر النّاس برسالته الثّوريّة. في البداية، عُشِقَ غودار وعُبِدَ كما يُعبَد الأبطال، ثمّ تعرّض للاستهزاء وصار مصدر ضجر: بقدر ما تعرَّض للاستهزاء والسخرية من دون تفكير، تُحمِّس له في الماضي من دون تفكير. نبع تأثيره من قيام حركة «الموجة الجديدة» الفرنسيّة بهزّ هوليوود وصانعي الأفلام كافّة. وقد انتقلت إجراءاته التّجريبيّة المُخلخَلَة إلى فنّ الفيديو في الوقت الحاضر.

حضر غودار بشكل متفجّر على مسرح السّينما العالميّة مع «لاهِث»، في عام 1960

حضر غودار بشكل متفجّر على مسرح السّينما العالميّة مع «لاهِث»، في عام 1960، وهو فيلم يحكي قصّة شابّة أمريكيّة في باريس، تلعب دورها نجمة هوليوود جين سيبيرغ، وعلاقتها - المحكوم عليها بالفشل - مع شابّ عنيد ومثير هارب من الشرطة، يلعب دوره جان بول بيلموندو. مزّق غودار كتاب القواعد من دون أن يُزعج نفسه بقراءته: استطراداته الجامحة، ومشاهد الحوار غير المألوفة، وعمل موقع التصوير الذي انتهج أسلوب «سينما الحقيقة»، والتّحريك غير السّرديّ للكاميرا، و«القفزات التّصويريّة» - المونتاج المتحمّس والخاطئ بشكل شبه متعمَّد الذي ابتكره صانعُ أفلامٍ حدسيّ فطريّ.

السّتينيّات فترته المجيدة

كانت السّتينيّات، حين أمكن للصّور والشّعارات أن تغيّر العالم، فترته المجيدة. وكان يصنع أفلاماً بطلاقة وسرعة مذهلتين. وكان ثرثاراً، وعصرياً من دون مجهود يُذكر، مثالاً للرّجل الأوروبيّ «الكوول». تلك الصورة التي يظهر فيها وهو يحمل لفافة فيلم ويتفقّدها أيقونيّة للغاية، لكنّ الشّخصيات النّكِدَة غير المقتنعة تساءلت عمّا إذا كان لن يكون قادراً على النّظر إلى اللفافة بشكل أفضل إذا خلع نظاراته الدّاكنة. كانت الأخلاق الجنسية، والاستحالة المبرِّحة للعلاقة الحميمة، والحبّ موضوعاته، جنباً إلى جنب مع المناقشات المثقّفة للسّياسة. «عصابة غرباء» (1964) و«اثنان أو ثلاثة أشياء أعرفها عنها» (1967) فيلمان لهما طاقة وأسلوب رائعان: يقفزان فرحاً ويقاومان الجاذبيّة أثناء هبوطهما.

على نحو فريد بين صنّاع الأفلام، كان غودار المخرج الذي كان أيضاً منظّراً، وناقداً، ومُرشداً، وتجريبيّاً: أول صانع أفلام في التّاريخ القصير لهذا الوسيط الفنيّ يفكّر بجدّيّة في ماهيّة السّينما

لكن فيلم غودار المفضل عندي من تلك الفترة، أو بالأحرى فيلم غودار الذي أفضّله على الإطلاق، هو «امرأة متزوّجة» (1964)، الذي هو عبارة عن تحفة ناضجة - وسهلة المنال مع ذلك -  يمكن مقارنتها بفيلم أنييس فاردا «كلِيو من 5 إلى 7». تلعب ماشا ميريل دور مذهلة الجمال شارلوت، وهي شابّة متزوّجة تقيم علاقة مع ممثّل وسيم. الفيلم إيروتيكيّ بشكل مكثّف، مع تألّق نقيّ وطليق. إنّه مقال سينمائيّ استطراديّ وشرودٌ لمتجوّل أفلامٍ في باريس - وهل يمكن أن يكون ذلك في أيّ مكان آخر؟ لدى الفيلم اهتمام وارهوليّ (نسبة إلى آندي وارهول) بمقابلات المجلّات وأيقونات الإعلانات، وافتتان شهوانيّ بالملابس الدّاخليّة. يستخدم غودار أيضاً ترجمةً في جسم الفيلم لما تفكّر فيه شارلوت وهي تتنصّت على امرأتين تتحدّثان عن الجنس: على نحوٍ مهّد لفيلم وودي آلن «آني هول». إنّه واحد من أكثر الأفلام جاذبيّة جنسيّة وغرابة على الإطلاق، وأنا أفضّله على الفيلم الموجّه لمحبّى الأفلام على نحو مزهوّ بنفسه «ازدراء» (1963) الذي تظهر فيه بريجيت باردو.

تعليق ساخر على طفوليّة الميلودراما الهوليووديّة

غالباً ما يكون فيلم مثل «بييرو الأحمق» (1965) لغودار جامحاً بشكل محيّر، وغير متماسك تقريباً، ويستوعب في ذاته بعض الاضطرابات المثيرة للجدل خلال عمليّة التّصوير نفسها: الحركة محمومة، وهزليّة تقريباً - تعليق ساخر على طفوليّة الميلودراما الهوليووديّة - ومع ذلك، كان هناك دائماً وقت لمناقشات فكريّة طويلة. يعود غودار دائماً إلى العسكرة والإمبرياليّة، إلى الشّعور بالذّنب والعار الفرنسيّين بشأن الحرب، إلى الظّلّ الرّهيب لمعسكرات الموت، وبالطّبع إلى فيتنام، تلك القضيّة السّتينيّاتيّة الرّئيسة التي دفعت غودار إلى غابة مفاهيميّة من الماويّة الرّاديكاليّة واليساريّة التي لم يخرج منها بالكامل.

 فيلم: مثل «بييرو الأحمق» (1965) لغودار

على نحو فريد بين صنّاع الأفلام، كان غودار المخرج الذي كان أيضاً منظّراً، وناقداً، ومُرشداً، وتجريبيّاً: أول صانع أفلام في التّاريخ القصير لهذا الوسيط الفنيّ يفكّر بجدّيّة في ماهيّة السّينما وما تعنيه. كان راديكاليّاً. لكن المحيّر أنّ غودار لم يحتفل بالسّينما كشكل فنّيّ في مهده المثير، لكنّه تصرّف كما لو أنّ كلّ شيء قد انتهى. مع ظهور قائمة المشاركين في فيلم «عطلة أسبوعيّة» (1967) على الشاشة، نقرأ: «نهاية القصّة - نهاية السّينما». في هذا الصّدد، كان يشبه إلى حدّ ما النّاقد الأدبيّ جورج شتاينر، الذي أعلن بشكل مثير للجدل أنّ التّراجيديا ماتت، أو أنّ اللغة الألمانيّة ماتت. أحبّ غودار بشكل استفزازيّ ومثير للسّخط أن يعلن أنّ السّينما قد ماتت - تصنّعٌ متعجرف لـ«أنا ومن بعدي الطّوفان» لم يوقف إنتاجيّته المتفشيّة قطّ. أصبح غودار مجوسيّاً غامضاً ومثيراً للسّخط أراد أن يصنع، ليس أفلاماً، ولكن «سينما»، بطريقة ما لتحرير الصّوت والصّورة من الجدران الأربعة للشّاشة. أخذ إلهامه بشكل حاسم من النّاقد العظيم أندريه بازين، الذي كان يكتب في «كرّاسات السّينما»، حيث بدأ غودار حياته المهنيّة ناقداً في تلك المجلّة الرائعة، وأحد مؤسّسي حركة «الموجة الجديدة»، عندما كان النّقد يتدخّل بشكل حاسم في السّينما، وكان صُنع الأفلام يتدخّل في الحياة نفسها. كانت السّينما اغتناماً للواقع.

رفيق "الموجة الجديدة"

المقارنات لا تُقاوم. كان غودار روبسبير السّينما الحكَم الصّارم، أو كان جون لينون السّينما - بول مكارتني السّينما هو فرانسوا تروفو، رفيق "الموجة الجديدة" الأكثر رقّة وتجاريّة والذي كان على غودار أن يختلف معه. أو ربما كان غودار هو سقراط الوسيط الفنّيّ الذي هو الفيلم، معتقداً أنّ السينما غير المختبرة لا تستحقّ المشاهدة.

جان بول سارتر وغودار، في مؤتمر صحفي عام 1971 في باريس

إنّ موهبة غودار العظيمة لتكهّنه بروح العصر لم تهجره قطّ. اعتبر النّقاد الأمريكيّون فيلمه «وداعاً للغة»، وهو خطابيّ على نحو مليء بالأقوال المأثورة وغامض كما هو الحال دوماً، ولكنّه مفعم بالحيويّة ومصوّر بتقنيّة الـ«ثري دي»، أفضل فيلم لعام 2014. وكان فيلمه «اشتراكيّة الفيلم» (2010) عبارة عن مجموعة أخرى من الصّور والأفكار التي تُظهر النّاس خلال العُطلة: من دون وطن وفي حالة اغتراب. صُوِّر جزء كبير من الفيلم على متن سفينة سياحيّة. تساءلنا ماذا كان يقول غودار عن الاشتراكيّة؟ ثمّ لعب التّاريخ دوره. كانت السّفينة السّياحيّة التي صوّر عليها غودا في الواقع سفينة كوستا كونكورديا سيئة السّمعة التي انقلبت في كارثة مذهلة في عام 2012. حاجج العديد من المعلّقين بأنّ التّصميم الطّويل، لاستيعاب المزيد والمزيد من العملاء، يجعل قوارب النّزهة من هذا النّوع ثقيلة بشكل غير متناسب. بالنّسبة إليّ، في هذه الأفلام اللاحقة، تشبه عدسة كاميرا غودارد تقريباً تلسكوباً قويّاً بشكل مستحيل. يبدو الأمر كما لو أنّه ينظر إلى البشر من مسافة بعيدة، من كوكب آخر ربما.

تخلّى الكثيرون ببساطة عن غودار، أو شعروا بالحرج من عبادتهم الباذخة السّابقة لهذه الشّخصيّة التي انتمت للسّتينيّات، والتي رفضت بيع مبادئها، أو النّضج، أو صنع أفلام تجاريّة

تخلّى الكثيرون ببساطة عن غودار، أو شعروا بالحرج من عبادتهم الباذخة السّابقة لهذه الشّخصيّة التي انتمت للسّتينيّات، والتي رفضت بيع مبادئها، أو النّضج، أو صنع أفلام تجاريّة، أو الانجراف إلى اليمين، لكنّها استمرت في الطّريق القاسية القديمة… بالنّسبة إلى كثيرين، كانت تحفته النّاضجة بعد «لاهِث» هي الفيلم الوثائقيّ الملحميّ المكوّن من ثمانية أجزاء «تاريخ (تواريخ) السّينما»  (1988-1998) - مجموعة نصّيّة طموحة بشكل مذهل من الاقتباسات، غِطاء من المقاطع التي يخلق بها غودار مشهداً شخصيّاً للسّينما، عمل عاطفيّ لحبّ عاشق متحمّس للسّينما. قبل ذلك، لم أجد قطّ الكثير ممّا هو محرّك للمشاعر، بالضّبط، في غودار - على الرّغم من وجود الكثير من الأشياء الرّائعة رسميّاً والمثيرة للاهتمام والمحمِّسة. ومع ذلك، هناك شيء غامض ومحرّك للمشاعر في «تاريخ (تواريخ) السّينما». لم يكن هناك أحد مثل غودار، وخسارته تجعل هذا اليوم كئيباً. إنّه يوم ينبغي أن تشاهد فيه «امرأة متزوّجة» لتتذكّر كيف كانت أفلامه مُحمِّسة ومثيرة.

مصدرالترجمة عن الإنجليزية:

بيتر برادشو، الغارديان، (سبتمبر) 2022



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية