فلسفة الاعتراف عند روسو بين راهنية الطرح ومشروعية التوظيف في السياق العربي

فلسفة الاعتراف عند روسو بين راهنية الطرح ومشروعية التوظيف في السياق العربي

فلسفة الاعتراف عند روسو بين راهنية الطرح ومشروعية التوظيف في السياق العربي


23/04/2023

شكّل اهتمام الفلسفة بمفهوم العدالة أهمية كبيرة، عكستها الفلسفة اليونانية مع أفلاطون؛ بفضل كتابه "الجمهورية" الذي صار مرشداً للفلسفة السياسية والأخلاقية، هذا الاهتمام الذي سيعرف انتعاشاً خلال العقود الأخيرة (هابرماس، راولز،...)، غير أنّ إثارة مفهوم العدالة، بما هو اعتراف أثير بعد نظرية راولز للعدالة بوصفها إنصافاً، جعل نظرية الاعتراف نموذج بحث ناضج ومؤسس بشكل جيد في الفلسفة، هذا الاهتمام الذي يرتكز على أرضية مشتركة، مفادها أنّ اعتراف الآخرين بي، ونظرتهم إليّ، يسهمان إسهاماً كبيراً ومؤثراً في صياغة علاقتي مع ذاتي ومع الآخرين، قد يحمل هذا التوجه معقولية الربط ما بين الاعتراف والعدالة، أو تناول العدالة انطلاقاً من مفهوم الاعتراف، فما هي معقولية هذا الطرح؟ وما هي مشروعية التوظيف لمفهوم الاعتراف في السياق العربي؟

صدر مؤخراً كتاب: "في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية، نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية"، للدكتور حسام الدين درويش، عن مؤسسة (مؤمنون بلا حدود)، الكتاب ضخم نوعاً ما، والحجم هنا دلالة على محاولة لرصد مسار فكر إنساني يحاول إيجاد أرضية سجالية مع الغرب الحداثي، والمساهمة في تحريك السياق العربي، تبدو لنا أهمية الكتاب في ارتباطه بمحاولة تقليص الفجوة الزمنية الرابطة بين النقاشات المعاصرة، وبين الغرب والسياق العربي /الإسلامي؛ فالنقاشات المعاصرة بصدد تناول مفهوم الاعتراف، بما هو عدالة، ما زالت لم تشكّل نظرية شاملة مكتملة، وهو أمر إيجابي يرنو إلى إدخال الاجتهاد العربي /الإسلامي في خضم هذا التشكل، اعتماداً على افتراض مفاده نقطتان: إمكانية توظيف حضور روسو، وربط جدوى هذا الحضور بتأصيل فلسفة الاعتراف في السياق العربي.  

غلاف الكتاب

يُقدّم حسام الدين درويش طرحاً مغايراً لما هو متعارف عنه؛ لتأصيل مفهوم الاعتراف على مستوى السياقين الغربي والعربي، ففي السياق الأوّل: ارتبط بالتأصيل للمفهوم وفق اتجاهين: الأوّل يربط المفهوم بالفلسفة اليونانية والحديثة (أفلاطون وديكارت وكانط)، واتجاه يرصد التأسيس مع الفلسفة المثالية الألمانية (فيشته، هيجل،...)، وهو الاتجاه السائد عموماً في رصد تشكل نظرية حول مفهوم الاعتراف في الفلسفة المعاصرة، لكنّ درويش يطرح اتجاهاً مغايراً؛ إذ يرصد البداية الفعلية والمركزية لفكرة الاعتراف في الفلسفة مع جان جاك روسو، وهنا نعرّج على التأصيل للفكرة وليس الاصطلاح اللغوي الخاص بفكرة الاعتراف، الذي كما هو متعارف عليه ارتبط بفيشته، من خلال كتابه "أسس الحق الطبيعي وفقاً لمبادئ مذهب العلم"، ثم قام هيجل لاحقاً بتعميق فكرة الاعتراف، في "فينومنولوجيا الروح"، وفي "أصول فلسفة الحق"، التأصيل الذي يرصده المفكر يخص إثارة الدلالة الجنينية لمفهوم الاعتراف بما هو "الحب الشخصي"، الذي يحيل على حاجة الذات /سعيها /رغبتها في الحصول على استحسان، تقييم، اعتراف، الآخرين، والمجهود الذي يدخل بباب التأريخ لفكرة الاعتراف، قبل أن تبدأ في التشكل لغوياً ومفهومياً، تأريخ قد يخدم القابلية للتوظيف في السياق العربي؛ للمساهمة في تشكيل نظرية حول العدالة كاعتراف.

يؤخذ على تلقي مفكري النهضة العربية لفكر روسو، وغيره من فلاسفة التنوير الأوروبي، الغياب شبه الكامل للبُعد النقدي عن هذا التلقي

 فمفهوم الاعتراف في صيغته المعاصرة هو في الحقيقة غائب في فلسفة روسو، بما هو اعتراف فردي متبادل، يمنح كل شخص وضعية حامل الحق، ويتبنّى درويش التأصيل المرتبط بمبنى الفكرة؛ أي حيثيات إثارة فكرة الاعتراف؛ فالتاريخ للفكرة لا يعني غيابها عمّا قبل روسو، بل إنّ حضورها مع هذا الفيلسوف عكس مركزية وأهمية أبلغ من غيره، من حيث الوظيفة، وكذا الأهمية التي حظيت بها الفكرة، التي جعلت من هذه الأهمية تأصيلاً للمصطلح، والأهمية هنا تستحضر أيضاً مفهوم العدالة عند روسو، ممّا يدعم أطروحة درويش في إبراز التلازم ما بين مبحثي العدالة والاعتراف، وهو تلازم قائم في كل نظريات الاعتراف المعاصرة تقريباً. ويقرّ درويش بإمكانية قراءة العدالة؛ بوصفها اعترافاً عند روسو، من خلال الثالوت (التقدير /الاحترام /الحب+العرفان /الاعتراف بالجميل)، رغم أنّ روسو لا يربط بوضوح بين فكرة الاعتراف المتعلقة بمفهوم الحب الشخصي وفكرة العدالة، كما أنّه لا يميز بشكل جلي بين الاحترام والتقدير، وهو أمر لا يجوز -حسب المفكر- أن نحاسبه عليه، لأنّنا آنذاك نحاسبه بمنظورنا المعاصر. فما الغاية من هذا الرصد التأصيلي لمفهوم الاعتراف؟ وهل السياق العربي مهيّأ لتفعيل هذا التوظيف المفترض؟

الدكتور حسام الدين درويش

 لقد تمّ تلقي روسو عربياً، ودراسة هذا التلقي بشكل عام على أساس انتماء روسو إلى الفكر التنويري الغربي، في القرن الـ (18)، ولم يتم غالباً التنبيه بشكل واضح وكافٍ إلى الاختلاف الكبير بين أفكار روسو وأفكار التنويريين. إنّ روسو ينتمي إلى فكر ما بعد الحداثة، ما دام قد نحا منحىً نقدياً لقيم عصر التنوير، لكنّه أيضاً يجسد قيم الحداثة والتنيوير، ممّا عكس وعياً عربياً مغلوطاً أو تبسيطياً عن أهم ركائز فكر روسو (الأفغاني، حسن حنفي...)، لكنّ حضوره كان أيضاً ملفتاً في فكر كل من (فرح أنطوان، فرنسس مراش....)، وكذا  أهمية حضوره في قراءة كلٍّ من (عبد الله العروي، عبد العزيز لبيب، كمال عبد اللطيف...).

 تمّ تلقي روسو عربياً، ودراسة هذا التلقي بشكل عام على أساس انتمائه إلى الفكر التنويري الغربي في القرن الـ (18) ولم يتم غالباً التنبيه بشكل واضح وكافٍ إلى الاختلاف الكبير بين أفكار روسو وأفكار التنويريين

لكن بالمجمل يؤخذ على تلقي مفكري النهضة العربية لفكر روسو، وغيره من فلاسفة التنوير الأوروبي، الغياب شبه الكامل للبُعد النقدي عن هذا التلقي، فقد انشغل هؤلاء المفكرون بالاستخدام الإيديولوجي أو الاستلهامي لأفكار التنوير الغربي من دون استحضار تأسيسه الفلسفي، أو تحفيز الوعي العربي على القيام بهذا التأسيس (غياب عملية التوظيف الذي يهدف المفكر إثارته)، ممّا أنتج فكراً دعوياً إيديولوجياً أكثر منه إثارة التساؤل الفلسفي العربي وتعميقه، وهو ما يروم الكاتب تحقيقه، فهو لا يدّعي أنّ عملية التحفيز التي يروم تحقيقها لم تكن بشكل مطلق، لكنّها لم تخطّ لها مساراً قادراً على خلق توجه /تيار يساهم في إخراج السياق العربي من التلقي السلبي.

إنّ توجه درويش هو خلق أرضية واعدة /معاصرة /راهنة للتأسيس الفلسفي لنظرية الاعتراف، انطلاقاً من عملية استثمار الفكر الروسوي في سياقنا العربي، لأنّه الأقرب إلى نمط سياقنا الغني بالاختلافات الطائفية والعقدية والإيديولوجية.

مواضيع ذات صلة:

فلسفة الإسلام السياسي في تحريم تهنئة أهل الكتاب

الفلسفة والنمط الأصولي

هل كان العرب عالة على الفلسفة اليونانية؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية