فوضى الدراسات النقدية حول الظاهرة الجهادية: مقاربة أولية

فوضى الدراسات النقدية حول الظاهرة الجهادية: مقاربة أولية

فوضى الدراسات النقدية حول الظاهرة الجهادية: مقاربة أولية


19/10/2022

تروم هذه المقالة إثارة الانتباه بخصوص ظاهرة بحثية تهم الاشتغال على الظاهرة الجهادية، والمساهمة بالتالي في البحث عن أجوبة ذات صلة بالظاهرة، والحديث عن حالة فوضى بحثية كمية ونوعية تميز هذا الاشتغال، وهي فوضى قائمة منذ عقدين تقريباً؛ أي مباشرة بعد منعطف اعتداءات 11 سبتمبر.

ومعلوم أنّ الاشتغال على الظاهرة الجهادية بالتحديد، كان نادراً قبل تلك الأحداث، وبالكاد كانت المنطقة تعج بأعمال حول الحركات الإسلامية الدعوية والسياسية، من قبيل ما كان يصدر عن محمد سعيد العشماوي، نصر حامد أبو زيد في مصر، أو الثلاثي جيل كيبل وأوليفيه روا وفرانسوا بورغا في فرنسا، أو جون إسبوزيتو في أمريكا، ضمن أسماء أخرى، وواضح أنّ أغلب انشغالات هذه الأسماء في تلك الأعمال، كانت منصبّة أكثر على الحالة الإسلامية السياسية، مع المشروع الإخواني، موازاة مع اشتغال ظلّ متواضعاً بخصوص داء الظاهرة الجهادية، خاصة أنّ المنطقة حينها كانت قد شرعت في تجاوز عدة محطات جهادية، ونتوقف عند محطتين على الخصوص:

ــ كانت الأولى مع الحقبة الجهادية في مصر، والتي سوف تتراجع شيئاً فشيئاً بعد منعطف تاريخي عنوانه انخراط رموز "الجماعة الإسلامية" و"جماعة الجهاد" في "مراجعات" كما اتضح مع صدور مجموعة من الأعمال، من قبيل "نهر الذكريات: المراجعات الفقهية للجماعة الإسلامية"، أو مع "سلسلة تصحيح المفاهيم" الموزعة على أربعة كتب: "مبادرة إنهاء العنف: رؤية شرعية ونظرة واقعية"؛ "حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين"؛ "تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء"؛ "النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين"، دون الحديث عن عمل لا يقل أهمية، عنوانه "إستراتيجية وتفجيرات القاعدة: الأخطاء والأخطار"، ونعتبره من أهم ما حُرّر في النقد الفقهي الرصين ضد أدبيات "الجهاديين".

الاشتغال على الظاهرة الجهادية بالتحديد، كان نادراً قبل أحداث 11 سبتمبر، وبالكاد كانت المنطقة تعج بأعمال حول الحركات الإسلامية الدعوية والسياسية

ــ أما المحطة الثانية، فكانت مع تجاوز الجزائر لمرحلة "العشرية السوداء" التي تورطت فيها الجماعات الجهادية وبعض المؤسسات الأمنية في صراعات جعلت الجزائر تمر مما يُشبه حرب أهلية، إن لم تكن كذلك، وتحديداً الحقية التي تمتد من كانون الأول (ديسمبر) 1991 وشباط (فبراير) 2002، ولعل كتاب عمر عبد الحكيم الملقب بأبي مصعب السوري، والذي يحمل عنوان "مختصر شهادي على الجهاد في الجزائر"، والذي تضمن انتقادات مباشرة إلى المجازر الصادرة عن الجهاديين هناك، يندرج في سياق تكريس تلك المراجعات اللاحقة، بصرف النزر عن تعقيدات الظاهرة الجهادية في الجزائر وأسبابها المركبة، سياسية كانت أو دينية أو ثقافية أو غيرها.

إذا استثنينا هذه الأمثلة، فإنّ أغلب الدراسات البحثية حينها، عربية وأوروبية وأمريكية، على الأقل حتى ليلة اعتداءات نيويورك وواشنطن كانت تتطرق للإسلاموية الدعوية والسياسية، ولعل عنوان أحد أهم مؤلفات أوليفيه روا، وتحديداً كتابه "فشل الإسلام السياسي" [1992] يُلخص هذا المعطى بشكل كبير، ويمكن إضافة ما كان يُحرره الراحل حسام تمام من مصر، ضمن أسماء أخرى.

تغير المشهد البحثي الخاص بالحالة الجهادية كلياً مباشرة بعد الاعتداءات سالفة الذكر، وأصبحنا أمام حالة فورة في الخبراء والباحثين، سواء أكانوا متمكنين من الظاهرة أم حديثي العهد بالاشتغال على الظاهرة، وإن كان السيناريو الثاني هو المهيمن؛ أي سيناريو المرور من مرحلة جينية في معرض الاشتغال البحثي على الظاهرة؛ بل نزعم أنّه بالرغم من مرور أكثر من عقدين على تلك الأحداث، لا يزال التواضع الكمي والنوعي عنوان العديد من الأعمال الصادرة.

يوجد هذا المعطى في مقدمة الأسباب التي جعلتنا نتحدث عن فوضى الدراسات النقدية حول الظاهرة الجهادية؛ لأننا إزاء فوضى حقيقية، ومؤكد أنّها ستفرز الغث والسمين مع مرور الوقت، لكن هذا اتجاه لا يحول دون إثارة الانتباه إلى أسباب هذه الفوضى، ونقترح في هذه المقالة مجموعة مفاتيح التي نعتقد أنّها تساعدنا على قراءة أسباب هذه الفوضى.

نبدأ بالفوضى السائدة في الساحة الغربية، قبل التوقف عند نظيرتها في الساحة العربية الإسلامية:

أغلب انشغالات بعض الأسماء قبل أحداث 11 سبتمبر كانت منصبّة أكثر على الحالة الإسلامية السياسية مع المشروع الإخواني، موازاة مع اشتغال ظلّ متواضعاً بخصوص داء الظاهرة الجهادية

أ ــ نزعم أننا أمام عدة أسباب لصيقة بتواضع قراءة المراكز البحثية الغربية للظاهرة الإسلامية الجهادية، ونجد في مقدمتها تعامل هذه المراكز مع المسألة الدينية، وهو تعامل مختلف مقارنة مع تعامل أهل المجال الثقافي الإسلامي مع الدين: مكانة الدين في الدول الأوربية والأمريكية، مختلفة كثيراً في التدبير والقراءة مع مكانته في الدول الإسلامية، سواء تعلق الأمر بتفاعل النخب أو الرأي العام، بما في ذلك هنا النخب السياسية والفكرية والأمنية وغيرها، ومرد ذلك أسباب منها؛ على الخصوص تأثير الأفق النظري للعلمانية في التعامل مع الدين، كما نعاين ذلك بشكل جليّ في الساحة الأوروبية.

إحدى نتائج هذا التباين، أنّها تنطبق على أداء وعمل تلك المراكز البحثية، بما يُفسر بعض الفوارق في أداء المراكز البحثية العربية المتخصصة في الظاهرة الإسلاموية، على قلّتها وقلّة الإمكانات المتاحة، مقارنة مع ما يصدر عن المراكز البحثية الغربية، رغم كثرة الخبراء والباحثين ورغم ثقل الدعم في الساحة الغربية إجمالاً، مع أنّه أخذاً بعين الاعتبار هاجس الحرية البحثية في الساحة الغربية، الإمكانات المالية الضخمة التي توفرها المؤسسات الغربية، ضمن محددات أخرى، كان مفترضاً أن يكون أداء الأقلام البحثية الغربية أفضل بكثير مقارنة مع السائد في الساحة هناك، لكن الواقع يُفيد أنّ النتائج الميدانية خلاف ذلك، بدليل الفوضى في القراءات والتفسيرات التي عاينها في الساحة الأمريكية والصادرة عن نخب فكرية وازنة، تلك التي كانت مهيمنة طيلة سنوات بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، وقد توفق رضوان السيد كثيراً في تسليط الضوء على بعض معالم هذه الفوضى، كما نقرأ في كتابه الذي يحمل عنوان "الصراع على الإسلام: الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية". (صدرت الطبعة الأولى في سنة 2005، وصدرت طبعته الثالثة في 2017)

ب ــ من بين الأسباب أيضاً، التعامل باختزالية شديدة مع الإسلاموية؛ بل قد نجد مركزاً بحثياً غربياً، لا يُفرق بين الإخوان والسلفيين، أو بين جماعة "الدعوة والتبليغ" والجهاديين، ضمن أمثلة أخرى، كأننا إزاء تيارات إسلامية نمطية في التفكير والعمل. صحيح أنه ثمة قواسم مشتركة بين مجمل الحركات الإسلامية، ولكنّ الفوارق قائمة أيضاً، أقلها اختلاف مواقف الحركات نفسها من العمل السياسي، من قبيل مواقف جماعة "الدعوة والتبليغ" الرافضة منذ عقود الانخراط في أي عمل حزبي، ولا حتى الإدلاء بمواقف سياسية حول أحداث الساحة، بخلاف الأمر مع الحركات الإسلامية السياسية؛ فالأحرى الحركات الإسلامية الجهادية، وهذه جزئية تُحسبُ للمفكر المغربي سعيد بن سعيد العلوي الاشتغال عليها، كما جاء في كتابه "أوهام الإسلام السياسي: وهم الدولة الإسلامية" [2017]، قاصداً بالتحديد الجماعات الجهادية، وبدرجة أقل الحركات الإسلامية السياسية، مع صرفه النظر عن الاشتغال على نموذج جماعة "الدعوة والتبليغ" وباقي الجماعات والتيارات الإسلامية الدعوية.

صحيح أنّنا سنعاين هذه المعضلة حتى عند بعض الأسماء البحثية العربية، ولكنها متواضعة مقارنة مع الاختزال الشديد الذي نعاينه في الساحة البحثية الغربية، بما يُحيلنا على واقع الفوضى البحثية في الساحة العربية تحديداً.

أ ــ أولى الملاحظات التي تثير الانتباه بخصوص أداء الباحثين في المنطقة، من المشتغلين على قضايا الحالة الجهادية، تكمن في غياب الإحالة على الأدبيات الإسلامية الجهادية، لاعتبار بَدَهي مفاده غياب الاطلاع على هذه الأدبيات، والحال أنّ أبسط أبجديات البحث العلمي في سياق الظاهرة، يقتضي أخذ فكرة على المعالم الكبرى للائحة عريضة من الأعمال، بل إنه في هذه الجزئية، نعاين تفوقاً لبعض الباحثين الغربيين ممن تفرغوا للموضوع بالترحال النقدي على بعض المراجع الجهادية، مقابل غياب المراجع في مضامين أغلب ما يصدر عن الباحثين العرب.

نقول هذا ونحن نستحضر، من باب الاستئناس، اشتغال الباحث النرويجي برينجار ليا، المتخصص في قضايا الإرهاب والتطرف ومستشار مؤسسة الأبحاث والدفاع النرويجية، كتاباً بعنوان "مهندس الجهاد العالمي: حياة منظر تنظيم القاعدة أبو مصعب السوري" (صدر الكتاب في سنة 2009، وجاء في 550 صفحة)، وعلى حد علمنا، لا يوجد باحث في المنطقة العربية نشر كتاباً من هذه الطينة؛ بل إنّ عدد الدراسات المخصصة للمهندس نفسه نادرة، فالأحرى الحديث عن عدد الكتب.

واضح أنّ تمكّن الباحثين هنا في المنطقة من اللغة العربية، وتوفر مجمل الأدبيات الجهادية بالعربية، ووفّرتها في العالم الرقمي، كان مفترضاً أن تكون مجمل هذه العوامل مساعدة على الاشتغال البحثي الكمي والنوعي، لولا أنّنا نعاين تواضعاً في هذا المضمار، مقابل الاشتغال أكثر على المقاربات السياسية والأمنية، وهي مطلوبة، لكنها تبقى قراءات جزئية؛ لأن نقد ونقض الخطاب الجهادي، وهي مهمة المفكرين وعلماء الدين، يبقى من أهم المهام المطلوبة في سياق التصدي النظري والميداني لأداء الظاهرة، وقد عاينا بعض نتائج ذلك على أرض الواقع في عدة حالات عربية، مصرية وسعودية وليبية وأردنية، على هامش انخراط بضع الرموز الجهادية سابقاً في نشر مراجعات، ساهمت في تقويض نسبي للظاهرة، بينما الأمر أصبح نادراً اليوم في المنطقة منذ تلك الحقبة، وازداد ندرة بعد منعطف يناير 2011؛ بسبب فورة الظاهرة، وصعود أسهم مجمل الإسلاميين.

من أسباب تواضع قراءة المراكز البحثية الغربية للظاهرة الإسلامية الجهادية، تعامل هذه المراكز مع المسألة الدينية، وهو تعامل مختلف مقارنة مع تعامل أهل المجال الثقافي الإسلامي مع الدين

ب ــ نأتي للملاحظة الثانية، وعنوانها التواضع الكمي إجمالاً بخصوص الاشتغال النقدي على نقد ونقض الأدبيات الجهادية، ونترك جانباً هنا أداء المؤسسات الدينية لمقام آخر، وإنما نقصد أداء الباحثين في الفلسفة وعلم السياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس، ومجمل الحقول العلمية المؤهلة لنقد تلك الأدبيات.

وباستثناء ما نعاينه في بعض دول الخليج العربي، فإنّ السائد في المنطقة لا يخرج عن واقع التواضع، ويكفي إحصاء عدد المراكز البحثية المتخصصة في الموضوع، مقارنة مع باقي المراكز التي تعج بها الساحة حتى نتأكد من ذلك، هذا دون الحديث عن فورة المراكز البحثية المحسوبة على المرجعيات الإسلامية الحركية، أي مراكز "أسلمة المعرفة"، غير المنخرطة أساساً في الموضوع.

وزاد الأمر تعقيداً ظهور حالات نقدية كنا نعتقد أنها تساعدنا وتساعد دول المنطقة في التصدي للظاهرة، قبل انقلابها النظري في مواقفها حول الموضوع، ومن الصعب إحصاء الأمثلة في هذا السياق، من قبيل ما عاينا مع حالة أبو يعرب المرزوقي في تونس أو طه عبد الرحمن في المغرب، أو ما صدر عن بعض رموز "المراجعات" ممن انقلبوا على مراجعاتهم سابقاً، ضمن أمثلة أخرى.

كانت هذه بعض الملاحظات الأولية حول هذه الفوضى النقدية الخاصة بالاشتغال البحثي على الظاهرة الجهادية، على أمل التطرق في المقالة القادمة لملاحظات أخرى، تهم أداء المؤسسات الدينية، في سياق تقييم وتقويم هذه الفوضى.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية