فيلم "جيران"... عن الطفولة والبدايات وذاكرة البعث المرعبة

فيلم "جيران"... عن الطفولة والبدايات وذاكرة البعث المرعبة

فيلم "جيران"... عن الطفولة والبدايات وذاكرة البعث المرعبة


07/06/2023

لم يكن فيلم "جيران"، الذي عُرض مؤخراً على منصة (شاهد) مجرد فيلم تقليدي أو مكرر عن أوجاع الكُردي، الذي يتعرض لقمع وشتات، بينما يتحول إلى مجرد تهمة محتملة تتم ملاحقتها أو محاصرتها. فليس مسموحاً للكُردي تحت وطأة الأنظمة القمعية في سوريا، كما في تركيا والعراق وإيران، أن يكون شخصاً عادياً، حتى لو كان يسير في الشارع يدندن أغنية للفنان الكُردي محمد شيخو، أو يتحدث إلى نفسه أو إلى غيره باللغة الكُردية. بل ينبغي تنميطه وتأطيره كما يريد الحزب و"الأب القائد"، مثله مثل باقي المواطنين، فيشبه كل منهم الآخر، يحظر التمايز أو التباين. فـ"الأمة (العربية) الواحدة"، وفق الشعار الشهير، تحتاج من أجل الوصول إلى "رسالة خالدة"، إلى كتل متجانسة صلبة مصطفة، ليس بينهم وهن إنّما الطاعة والخضوع.

اعتمد الفيلم على الطفل (شيرو) ذي الـ (6) أعوام، الذي سنرى من خلال عوالمه وأحلامه الخفية والمعلنة ما يعتمل في داخله. عالم الطفولة هنا يبدو مقصوداً؛ لنرى كيف تتحول الطفولة كمساحة اكتشاف للعالم وبناء الخبرة والتجربة، إلى عملية استهداف قصوى؛ لصناعة أفراد ولائيين تضطلع أجهزة السلطة بإعادة تشكيلهم قسراً وشلّ إرادتهم. فالمدرسة التي انخرط فيها (شيرو) للمعرفة، كانت عبارة عن جدران سميكة يقفز من حواجزها بخياله، الذي يتفادى النظر للعقرب الذي يظهر في سقفها الضعيف، الذي على وشك التهدم، بينما يحاول تفادي وجه المدرس المتجهم. هذا المدرس المتفاخر بحزبه البعثي، والذي يمسك بعصاه الغليظة لتعليمهم العربية بالضرب والقسوة والسباب، أو بالأحرى بنوع من التهكم على الانتماء القومي، الذي يعادل الجهل والظلامية. فالتقدمية هي الانتماء لأرض عربية، وهوية عربية، وثقافة عربية، والتخلى عن أيّ انتماءات أخرى، وتفكر فقط في تحرير فلسطين.

سعى الفيلم إلى فضح سياسات التدمير والتخريب الممنهج، ورفض التعايش والتنوع، وإيجاد فرصة لكل العوالم كي تتلاقى وتصنع مشهدية غنية، وليست مجرد صورة كاريكاتورية ضعيفة ومبتذلة لأغراض النفاق والمزايدة السياسية 

الطفل هنا وعبر مشاهد الفيلم يفقد حواضنه، ولا يجد استقراراً أو لحظة ينعم فيها بالأمان، مثله مثل نخلة البلح، التي يصر المدرس على زراعتها في أرض يقول إنّها (عربية)، رغم أنّ مناخ هذه الأرض الكُردية سيجعلها تموت ولا تثمر، لكنّها الرغبة في النفاق أمام مسؤولي "الحزب" تجعله يسير مقلوباً على رأسه وكأنّه منتهى الاعتدال. حاضنته الأولى، الأم، تموت مقتولة برصاص طائش من قبل جنود أتراك عبر الحدود السورية التركية، في لحظة تبدو عبثية، وكأنّ الموت بمثابة أمر عادي قد تلتقي به مصادفة ومن دون ثمن أو حسبان، وقد كان الجندي التركي يتأمل من عدسة الرؤية في بندقيته جسد أمه، فيحرك صديقه الزناد فتلقى الأم مصيرها وهي منهمكة في أعمال غسيل الملابس.

سعى الفيلم إلى فضح سياسات التدمير والتخريب الممنهج، ورفض التعايش والتنوع، وإيجاد فرصة لكل العوالم كي تتلاقى وتصنع مشهدية غنية، وليست مجرد صورة كاريكاتورية ضعيفة ومبتذلة لأغراض النفاق والمزايدة السياسية. غير أنّ المحاولات المحمومة لا تكفّ عن إهدار القومية واستمرار الاضطهاد من قبل سلطات دكتاتورية.

دراما الواقع في مرآة التاريخ

فيلم "جيران" الروائي الكُردي، تأليف وإخراج مانو خليل، يستحق التأمل. فالطفل الذي بدأت الأحداث معه في ثمانينيات القرن الماضي، يعيش في إحدى القرى البعيدة المهمشة على الحدود السورية التركية، في شمال شرقي سوريا، أو إن صح القول (روجآفا). والفيلم مكتوب بحبكة درامية مميزة. وهو يجمع قصصاً مجتمعة؛ جميعها يؤشر إلى نتاج القمع والسحق على يد سلطة شمولية واحدة، سلطة "حزب البعث العربي الاشتراكي"، الذي يحكم سوريا بالبطش والعدوان منذ الستينيات.

اللافت في الفيلم هو أنّه لم يتعامل مع الأزمة التي عاناها الكُردي من زاوية أقلوية، بل إنّه يفضح دور النظام والسلطة في تحويلها إلى مسألة أقليات. بل إنّ الكُردي الذي يعيش إلى جواره عربي أو يهودي الديانة، فضلاً عن آخرين لا يشعر تجاه أيّ منهم بالغربة أو التردد والتوجس، إنّما يجمعه بهم ما يجمع أيّ مجتمع بأفراده من صلات عادية، ليس فيها الحذر والقلق الذي تصنعه الخطابات السياسية الطائفية والإيديولوجية المفخخة، وكذا الإدارة الأمنية للأفراد. فهذا كُردي يعني أنّه "انفصالي أو إرهابي"، وهذا يهودي يعني أنّه "صهيوني"، ومن ثم هو "عدو" متوحش ينبغي قتله.

فتسمية الفيلم "جيران" له رسالة تبطن ما سبق ذكره عن حالة الذعر من الآخر، التي يعمد لخلقها النظام البعثي، وكذا تفرقة الأجزاء الـ (4) من دولة كُردستان، في كل من (تركيا وسوريا والعراق وإيران)، وكيف أنّ هذا الشعب المتمسك بتاريخه وثقافته وهويته ورموزه وأعياده، يعيش أفراده كجيران وليس كشعب واحد ضمن دولة واحدة، وتحديداً في مشهد اللقاء الذي يجري بين الأسر والأقارب مع بعضهم البعض بين الأسلاك والحواجز الحدودية، عبر الحدود السورية التركية، وهو مشهد ما زال عالقاً في أذهان كثيرين.

خطاب الكراهية والتهميش

فضلاً عن قصد الفيلم أنّ المكون السوري، بما فيه الكُردي، هو شعب مكون من قوميات وأطياف وأعراق متداخلة ومتعددة، ولكنّهم مثل الجيران بينهم الحب والتسامح والتعاون، إلّا أنّ البعث السوري، والسلطة العثمانية من قبله، عملوا على مدار أعوام طويلة على إدخال الكره والتفرقة والمشاحنات بينهم، وهو ما برز بوضوح عبر مشاهد عدة في الفيلم، خاصّة حب الكُردي واليهودية لبعضهما بعضاً، الأمر الذي يبدو طبيعياً وتلقائياً وعفوياً. ثم مشهد مساعدة الكُردي للجار اليهودي الذي جرّده البعث من هويته، فيطلب من والد (شيرو) استخراج جواز سفر لابنته بالاستعانة بجواز سفر زوجته المقتولة، حتى يتمكن من الخروج من سوريا؛ بعد خطاب الكراهية والتهميش والإقصاء.

في تفاصيل الفيلم تتعدد الزوايا والكادرات السينمائية التي تجذبك، بداية من مخيمات اللجوء السورية في إقليم كردستان العراق، في عهد بشار الأسد، ولدى الكاتبة تجربة صحافية ميدانية بين هذه المخيمات في سوريا، التي تشبه مخيمات إقليم كُردستان، تجعل مشاعري مفتوحة عن آخرها تجاه ما تعنيه هذه الأماكن التي يئن أفرادها تحت وطأة النزوح أو اللجوء، والذي هو نتاج قمع وقتل وتهجير النظام السوري لملايين السوريين، على مدار قرابة الـ (12) عاماً، حين نادوا بالحرية وطالبوا بأبسط حقوقهم في آذار(مارس) عام 2011.

وتبرز هذه المخيمات حين تتحرى المنظمات الإنسانية عن (شيرو)، الطفل الذي ظهر في عقده الرابع، وهو نازح في المخيمات نتيجة التهديدات والانتهاكات التركية، بقتل أبناء القرى الكُردية على طول الشريط الحدودي، وتحديداً قرى القامشلي/ قامشلو، طوال الوقت ومنذ أعوام طويلة، ممّا أدى إلى تهجير أهلها صوب معسكرات اللجوء.

قصد الفيلم أنّ المكون السوري، بما فيه الكُردي، هو شعب مكون من قوميات وأطياف وأعراق متداخلة ومتعددة، ولكنّهم مثل الجيران بينهم الحب والتسامح والتعاون، إلّا أنّ البعث السوري، والسلطة العثمانية من قبله، عملوا على مدار أعوام طويلة على إدخال الكره والتفرقة والمشاحنات بينهم

طفولة (شيرو) صاحب الـ (6) أعوام تروي لنا علاقات أبناء القرية الحدودية مع بعضهم البعض، وتتسم بنوع من التصالح والمحبة، على الرغم من تنوعهم الديني والطائفي والعرقي. وهنا يبدو أنّ مُخرج العمل عمد لإظهار كل واحد منهم عبر لباسه وفلكلوره وعاداته، سواء الزي الكُردي أو لباس اليهود التقليدي، فضلاً عن مشروبات الشاي ولفّ أوراق السجائر بالتبغ، خلف أفنية المنازل الطينية.

لكنّ أحد المشاهد القوية التي تدل على مدى قمع البعث والعثمانيين للكُرد وهويتهم، هو عندما يقوم (شيرو) وعمّه الشاب العاشق للفتاة اليهودية بإطلاق بالونات بألوان "الأخضر والأحمر والأصفر"، ألوان علم كُردستان، نحو السماء، ليقوم حرس الحدود التركي على الفور باستهدافهم بطلقات من أسلحتهم.

التجربة المريرة مع التعليم والمجتمع "البعثي" في كافة المناطق والمؤسسات بسوريا، تماثل ما عاشه أيّ كُردي، حيث البكاء المرير عندما كانت تستعصي علينا اللغة العربية. فقد استمرت معاناتي، مثلاً، لأشهر عدة في الصف الأول الابتدائي في المدرسة؛ لحين تم نقلي إلى صف آخر، تدرّس فيه معلمة كُردية، حاولت بمشقة تسهيل مهمة التعلم باللغة العربية دونما قهر.

في المحصلة، أظهر الفيلم هذا المستوى غير الأخلاقي، الذي استهدف النظام البعثي تحقيقه من خلال عرب الغمر في مواجهة وجودية مع الكُرد. فـ"الحزام العربي" مع حملة التعريب التي قام بها "آل الأسد"، كان بمثابة قمع لأيّ حراك كُردي. وواصل النظام توطين مجموعات قبلية عربية سنّية؛ لتطييف المجتمع في الفترة من عام 1965 إلى عام 1976، كجزء من سياسة حكومة البعث. وبالضرورة كانت ثمة ضرورة لاستمرار الصراع والتنابذ بين الطرفين. فالوجود العربي كان بهدف التحقير من الطرف الآخر الكُردي، وتهديد وجوده وابتلاعه.

ثمّة فكرة أخرى تحز في القلب من خلال الفيلم، إلى جانب المصير الأول الذي هو الشتات واللجوء، هي انضمام عم (شيرو) للمقاومة الكُردية "حزب العمال الكردستاني" (PKK) في جبال قنديل، عندما قاوم حرس الحدود التركية، إبّان مقتل والدة الطفل (شيرو)، فقاموا باعتقاله وتعذيبه ومن ثم إرسال اسمه للتجنيد في الخدمة العسكرية السورية.

خيار الانضمام لـ (PKK) يمكن اعتباره خياراً اضطرارياً، وحاجة قصوى للفرد نحو الخلاص من موت تحت أيادي نظام قمعي وحشي، وهذا يدلل على أنّه ليس كل الكُرد مع نهج حزب معين، كحزب (PKK) أو الأحزاب الكُردية الأخرى، بل لديهم من يريد ويرغب العيش بسلام، وأن يحب ويتبادل الحب مع الآخرين من دون عسكرة وتجنيد، أو تفكير في الحرب والجبال والموت.

الفيلم، على الرغم من قصره، إلّا أنّه انتهى فجأة بينما نجح في إظهار جانب جوهري عن قمع واضطهاد الكُرد وتاريخهم وهويتهم من قبل النظام السوري البعثي والأتراك. الفيلم خطوة نحو إظهار ما تعرّض له الكُرد وباقي المكونات السورية من قمع وقهر النظام البعثي الهمجي، بلغة سينمائية درامية موجزة ومكثفة.

مواضيع ذات صلة:

في سوريا والعراق... ماذا ينتظر الأكراد بعد فوز أردوغان؟

الأكراد يُصعدون ضد التواجد التركي في سوريا... تفاصيل

الأكراد شعب مكابِد يعاني الأمرّين



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية