في مديح الهشاشة: غسان كنفاني مثالاً

في مديح الهشاشة: غسان كنفاني مثالاً

في مديح الهشاشة: غسان كنفاني مثالاً


01/11/2022

أحببتُ غسّان كنفاني. قرأت كلَّ ما كتب. كانت رواياته وقصصه جزءاً من الواجب النضاليّ. وكان على غسّان أن يستجيب لتلك النداءات الحارّة التي يطالبه بها الجمهور: اكتب عن المخيم، عن البندقيّة، عن أم سعد المناضلة الأسطوريّة، لا الإنسانة المكافحة التي تشبه أمّهاتنا. غرق غسان في هذه الدوّامة، كما غرق كثيرون سواه في تلك اللجّة الغامضة والقاهرة.

الناجون كانوا قلّة، على رأسهم محمود درويش الذي انشقّ ولم ينفصل، وحاك أسطورته، وحكى عن نفسه وغرق في التفاصيل، وقتل (بمعنى أو بآخر) الجمهور المتطلّب، وهذه كانت تبدو أشبه بـ "مهمة مستحيلة". لاذ درويش بـ"الجداريّة" فكتب ذاته، واستنطق هواجسه مع الموت، كإنسان، وليس كـ"شاعر مقاومة".

أين تجلّى الإنسان في غسان كنفاني؟ في الخفاء، في السرّ، في المراسلات التي ظنّ أنها لن تُفشى مع غادة السمان، في البوح، وفي الخيانة. ولو كان يعلم أنّ مباوحاته وانشطاراته وعريه سينكشف، لما أقدم على التجربة. في تلك اللحظة رأيت غسّاناً الحقيقيّ، الذي يذوب عشقاً، ويتأوّه، ويسمّي اللذّة التي كان يعرفها، ويخبئها في أدراجه السفليّة كالحشيش.

رأى بعضهم أنّ الرسائل حطّمت هالة غسّان كنفاني، وكشفت عن وجه انتهازيّ خائن جبان لا يقوى على المواجهة والمكاشفة، ويعيش خلف الأقنعة والسواتر، ولا يعبأ بمشاعر زوجته. لكنّ تلك الرسائل، في نظري، أعادت غسّاناً إلى بشريّته، إلى هشاشته، وأنزلت الرمز من عليائه المتسربل في الضباب، وجعلته يسير في الشوارع، مترنّحاً بفؤاده الخفّاق باللهفة والجنون.

الأدب العابر للزمن هو الذي ينحاز للإنسان، للذات، للضعف، للاكمال، للتفاصيل التي لا تراها إلا العين المدرّبة على اصطياد اللؤلؤ، ولا يدركها إلا القلب المشغول بطاقة الحَدْس

من الظلم أن نحاكم غسان كنفاني أخلاقيّاً، كما أنه من الخَبَل أن نظل متوهّمين أنّ الأدب العظيم هو وحده الذي يتحدّث عن قضايا عظيمة بطريقة تعبويّة مباشرة. التعبئة وظيفة الإعلام السقيم، وليس الأدب الرفيع.

الأدب العابر للزمن هو الذي ينحاز للإنسان، للذات، للضعف، للاكمال، للتفاصيل التي لا تراها إلا العين المدرّبة على اصطياد اللؤلؤ، ولا يدركها إلا القلب المشغول بطاقة الحَدْس الكبرى.

يروي الشاعر نزار قباني في حوار مثير أجراه معه الصديق الشاعر نوري الجرّاح 1997:

"وحين لحّن (محمد عبد الوهاب) قصيدتي الأولى (أيظن) لنجاة الصغيرة، التي ضربت الآفاق في الستينات، شعر عبدالوهاب أنه بحاجة إلى كلام من نوع جديد، وصياغات جديدة وصور جديدة. وعندما كان في طور تلحين قصيدة (ماذا أقول له؟) التي أقول فيها:

(هنا جريدته.. في الركن مهملة/ هنا كتاب معاً… كنّا قرأناه…/ على المقاعد بعضٌ من سجائره/ وفي الزوايا بقايا من بقاياه).

قال له أحد الأصدقاء الذين يتردّدون عليه: إيه ده يا أستاذ؟ أنت بعدما غنيت (يا جارة الوادي) و(مجنون ليلى) لأمير الشعراء… بتلحّن كلام عن السجائر… والجرانيل؟

فتوقف عبدالوهاب عن العزف، وقال لضيفه (اسمع يا سيدي.. أنا ألحّن هذه القصيدة لنزار قباني، لأنها قصيدة تتحدّث عن الحب المعاصر.. وكلمة (سجائر) بالذات.. والجرائد.. هي التي جذبتني.

فهل هناك عاشقان في العصر الحديث يلتقيان في كافتيريا ولا يكون بينهما جريدة وفناجين قهوة ومنفضة سجائر؟".




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية